حتى عشية رحيله، في 17 شباط/ فبراير 2009، كان الباحث عن الشاعر بسّام حجّار على الإنترنت يعود خالي الوفاض إلا قليلًا، لكنّ موته الفاجع في تبكيره، ملأ الصّفحات والمواقع والمدونات بمقالات وقراءات في تجربته، بمختارات من قصائده، وأكثر من ذلك؛ أُتيحت بعض مجموعاته في ملفات إلكترونية.
كم مرّة مثّل موت الشّعراء إعلانًا عن وجودهم؟ وكم مرّةً صار موتهم الفيزيائي ثمنًا لميلادهم الأدبي؟ يا للمأساة!
أصبحت كتب بسّام حجّار الغائبة معضلةً لا تُحَلّ، فحيث إننا حيال شاعرٍ معاصرٍ ترافقُ اسمه هالةٌ من التقدير بين مُحبّي الشّعر، فإنه لم يكترث لنشر تلك الكتب، كما أنه قلما نشر قصائده الجديدة في الصحف، بل يُصعّب المهمة مرة أخرى على من يرغبون في قراءته إذا لم يكونوا من هواة جمع المجلات الثقافية.
أشرف في حياته على إصدار مختارات من كتبه الأولى، وحملت عنوان: “سوف تحيا من بعدي” (المركز الثقافي العربي، 2006)، وحين طُبعت مجددًا في مصر في 2007 أبقاها كما هي، مع أنه أصدر كل مجموعاته حتى ذلك الوقت وبدا أن بالإمكان أن يُصدر أعماله الأخيرة في مجلد واحد، أو مختارات منها على الأقل.
هكذا ظل شعر بسّام حجّار مفقودًا في حياته، وحين مات استمرّ الحال إلى أن صدرت أعماله الكاملة عن طريق “دار الرافدين” و”منشورات تكوين” (1)، في الذكرى العاشرة لرحيله، ولولا وجود هؤلاء المغامرين لصار لغزًا من ألغاز الشعر العربي المعاصر.
ليست مأساة الشاعرات والشعراء العرب أنهم “يُولدون في غرفةٍ مُسدلة الستائر اسمها الشّرق الأوسط” (2) وحسب، كما وصفت سنية صالح تجربة محمد الماغوط، إنما في أنهم فوق ذلك السّجن قلما يُصبحون مقروئين من دون موت.
ورغم أنّ الموت حرّرَ بسّام من عبء المكان، وربما الحياة، وحرّر قصائده من ضياعها، إلا أنّ النقد الهاوي صنع له حبسًا يصعب الخلاص منه، وذلك عندما اتفقت غالبية القراءات التي تناولته على قراءة محددّة، يُكررها الجميع في إجماع غريب وكأنها القراءة الوحيدة الممكنة. فما هذا الشاعر العظيم، بحسب الإجماع والمجمعين، الذي يسهل شرح تجربته في بضع جمل وعبارات من قبيل: شاعر الصمت، شاعر العزلة، صاحب القاموس المتقشّف.. إلخ. وعلى الرغم من أن هذا صحيحٌ، لكن التركيز عليه قاد إلى إهمال أشياء أخرى، كان يمكن استنباطها، كما أنّ هذه القراءة المكتفية غير الراغبة بأي استزادة ساهمت في حصره أو قولبته في إطار ثابت.
ولأن هذه القراءة متوفرة بكثرة يمكن الوصول إلى نماذج عليها بسهولة شديدة، حول العالم الصغير المكوّن من حجرة وممرّ ونافذة، والحياة التي تجري ضمن هذه الجغرافيا ستكون بلا شك تأملًا يقود إلى معاينة الغياب والزمن وغيرهما، كما أن المفردات التي يقوم عليها هذا العالم هي الشجرة والسرير والتدخين والوحشة والخوف. ثمة ما يشبه الاتفاق المعلن على كون التجربة ثابتة قارةً على أشيائها، وعلى الكلمات المرتبطة بهذه الأشياء، أو الحالات، أو الهواجس.. وهذا ما أرفضه تمامًا لأن العالم في شعر بسام حجار عالم تخوميّ، في الحدود القصوى، التي تقف فوق خطوط تماس الحياة والموت، ولأنّ العلم والنظرة الواقعية السائدة في عصرنا لا يقبلان الحديث إلا عن المُدركات، فإنّ الشاعر ينسحب إلى تلك التخوم، حيث عالم الأحلام والتخيل والتذكّر، حيث يتكّلم الخوف، ويُفصح عن نفسه الغامضة، ليكون الشعر مسرحًا لما ليس له مسرح، ففي الفن الشعري، كما في الطبيعة، لا توجد وصفات محدّدة، إنما توجد حيوات صاخبة، يمكن فهمه بما لا نحتاجه في اليومي العادي كالإغماض مثلًا، فنرى ونسمع تلك الكائنات تعيش في شرط حياتي آخر، حلميّ، وهميّ، شيطانيّ، أيًا يكن، المهم أنّ هناك ما هو أكثر مما في الواقع الذي نعرف، ولأجل هذا فإن الكتابة المستمرة من هذه المنطقة هي أقرب إلى البحوث التي يقوم بها العلماء على حياة غابة، أو أعمال الفنانين المكررة على ذات المواضيع، ولأنه لا يمكن فيها الوصول إلى صورة نهائية تظل كل تجربة تصويرًا لجانب وكشفًا فيه.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ صدور تلك الكتابات عن شعراء غالبًا يجعلنا نرى أنهم كثيرًا ما يُسقطون ذواتهم فيها، مُنطلقين من فهمهم الخاص للكتابة الشعرية، لا من التجربة المطروحة أمامهم لكي يستكشفوا ملامحها، فيُطلقون كلامًا يمكن أن يُقال في أي أحدٍ سواه، ومثال ذلك القول إن قصيدة بسام لا تحمل إلا رقتها، ولا أعرف ما الذي يعنيه هذا!
عندما نشر “تفسير الرخام” عام 2006 كانت تجربته قد أكملت بناء ملامحها الرئيسية من قبل، ولم يضف هذا الكتاب سوى تأكيد سمات الشعر عنده، بوصفه حاجة وجودية من جهة، وفنًا ذا كيان جمالي من جهةٍ أخرى. ولم يكن صعبًا على قارئ الشعر المحترف أن يلاحظ تلك الملامح في: تبويب الكتب، وإدخال أقوال الآخرين في نسيج المتن لتصبح جزءًا منه، وتشكيل زمن شعري يخص القصيدة ولا يهتم في الوقت الفيزيائي خارجها، إضافة إلى أن المكان ذو طبيعة متبدلة رافضة للثبات، وأخيرًا اللغة التي تقول تلك الأشياء ليست بالسهلة ولا بالصعبة، بل تقف في منطقة تجمع يُسر الفهم إلى العمق الفكري.
لعل من أهم ما يميز بسّام حجّار هو ذلك الشعور المأساوي بالحياة، أي أنّ لديه شعورًا يحكم حياته ينبع من الإدراك لحتمية الزوال، وميزة هذا الشعور كما حدّدها أونامونو: “يحدّد هذا الشعور الأفكار أكثر مما ينبع منها، وإن كانت هذه الأفكار تؤثر فيه بالطبع وتعززه” (3).
وكون الإنسان حيًا إلى أجل مسمّى، وكونه مدركًا لذلك، فإن المأساوية تظهر على شكل قلق من كيف نعيش ونحن نعرف أننا مغادرون؟ ما جدوى ما نفعله ما دام محكومًا بالزوال مثلنا؟ ومن بين كل الإجابات التي قدمها البشر على هذه الأسئلة الأزلية اختار الشعر إيجاد علاقة أخرى مع جوهر الوجود، فتأمل وأحسّ وفكّر واكتشف أن اللامتناهي حاضرٌ في أدقّ تفاصيل الحياة المتناهية، فالموت الذي يؤول إلى حجارة هي القبور على سبيل المثال، يمكن أن يكون الحياة حين تنبجس ينابيع المياه من الحجارة نفسها، أو تخرج منها أعشاب أو أشجار. كما أن التناوب بين الموت والحياة لا يختلف عن ذلك التناوب بين الليل والنهار، أي أنهما فعليًا استمرار لبعضهما البعض، وربما يكون فقدان الأشياء الأليفة وخسارة الأشخاص الذين يهموننا مؤلمًا وقاسيًا، لكن للحياة، أو للموت، رأيًا آخر، إنهم أحياء بشكلٍ آخر، لن نقول إنهم اتخذوا أشكالًا طيفية، لكن يكفي أننا قادرون على نحلهم بها، أو أن نراهم في المنامات لنعرف أنّ النهاية ليست نهاية تمامًا.
إننا نحلم ونتخيل ونرى ما لا يُرى بسبب شعورنا المأساوي بالحياة، الذي يوطد قلوبنا في أرض الذكرى، ويمرننا على الاستعادات الذاتية على شكل تهيؤ، على العكس من مهاوي النسيان التي يرمينها إليها التفاؤل. شعورنا المأساوي القادم، في النظرة الدينية، من فقدان الفردوس ويريد العودة إليه، يشرح الكثير مما يحدث في الداخل، وشعورنا المأساوي بالهزيمة أمام الموت ورغبتنا بالتحدي من خلال الخلود، في أن نصبح آلهة، أيضًا تشرح الكثير مما يحدث في الداخل. ثم إن هذه الأفكار التي عاشت في أدمغة أسلافنا لآلاف السنين، لا يمكن أن يمحوها قرن ونصف من النزعة المادية. وهذا ما يقوله الشعر، شعر بسّام بالذات.
في قصيدته الافتتاحية من مجموعة “فقط لو يدكِ”، التي حملت عنوان يُغطون بالأبيض غيابك”، يولد الشّعر من تغطية أثاث المنزل بالقماش الأبيض، إذ يقرأ تلك العملية على أنها تغطية لغياب الشخص، لأن حضوره هو الوحيد القادر على رفع الأغطية. يبدو أن هذه التغطية هي من أثارت في الشاعر عاصفة من التأويلات، جعلته يرى أن المغادرة فعل تقوم به البيوت وليس الراحل عنها، وبعد ذلك سيفعل الغياب في أجساد تلك البيوت أفعالًا كثيرة، منها أنه سيجعلها تُباعد جدرانها، والأشياء الباقية تبحث عن الغائب في الحيّز الذي غادره. وبعد ذلك سوف يعرّف البيوت بتعبيرات الألفة والبهجة المعاشة فيها، فهي القبلات والأمسيات، لكنها بعد الغياب ستغدو غرفًا معتمة ونعاسًا.
“وتغادرنا البيوت
ونعود لنقيم في غيابها” (ج 1، ص 198)
هذا للإشارة إلى أفكار القصائد الأولى حول الغياب، وكيف أنه راح يمثّل موتًا صغيرًا فينا، أو موتًا صغيرًا في الأشياء، أو حتى موت الأشياء الصغيرة، وما يُشعله ذلك في النفوس البشرية من خوف وقلق واضطراب. أما عن النهاية الكبرى، الموت الكامل، لنا ولعالمنا كلّه، فنرى في ذلك النص النثريّ المعنون بـ “أجزاء من يقظة الخُلدْ”، من كتاب “صحبة الظلال”. توجد نبرة جنائزية ومراثٍ في الأعمال الأولى، لكنّ هذا النص الذي يتخذ من هذا الحيوان المتواري تحت الأرض، حيث يحفر أنفاقه، كائنًا مثاليًا للعزلة التي تشكّل كلمة السر في شخصية بسّام، لكنه أيضًا، وهذا هو الأهم، يجسّد صورة هامة للموت، ليس لأنه تحت الأرض، أي قرب الموت والقبور وحسب، بل لأن هذا الكائن يطرح معضلة كبرى حين يقول لنا إنه ما من نهاية: “حياتي بسيطة هنا لكن موتي بالغ التعقيد. فلو حدث ذلك إلى أين أذهب؟ إلى نهاية الأرض، إلى ما بعد نهاية الأرض؟” (ج 1، ص 256)
حديث الخُلْد المشُوب بشعورٍ مأساوي بالحياة يأخذنا إلى مستوى جديد، لا يتعلّق بحتمية النهاية هذه المرّة، إنما في أنّ النهاية ربما غير موجودة، وهذه الفكرة سوف تنمو وتتطور في شعر بسام، وهذا ما سنعود إليه لاحقًا، لكن قبل ذلك علينا أن نثبّت أن الشّعر هنا، في هذه المدونة، يصدر عن الألم أولًا وأخيرًا، وأنه رغم تحوله إلى جمل ومقاطع شعرية يظل محتفظًا بأصله كشقاءٍ مزّق وعي إنسان، وكعذاب ثقيل خنق روحه، لهذا لا يسع من يقرأ هذه التجربة سوى رؤية الألمِ بوصفه حقيقةً لما كُتِب، وحقيقةً لمن كتب.
من شدّة اضطرام هذا الألم، لم يعد من مكانٍ يتحصّن به المرء، أو يختبئ فيه، سوى البيت مع الحب والعائلة والأشياء الحميمة، مع كل ما يجعلنا نصلب خلال هذه المواجهة. من هنا، لم يختر عالمه الشعري لمجرد أنه يبحث عن عالم شعري لضرورات فنية، إنما الأدق أن ضروراتٍ نفسية فرضت هذه الضرورات الفنية، وبعد وقتٍ طويل من التعايش، تداخل النفسي والفني تداخلًا لا يمكن لنا أن نتخيل أحدهما دون الآخر، ولا يمكن إلا أن نرى كلًا منهما أصلًا للآخر. وعلى هذا ستكون الجمالياتُ نفسيةً، كما سيكون الضعف والضيق والهشاشة تقنيةً. لنقرأ هذا المقطع من قصيدة “فقط لو يدكِ” التي تحمل اسم المجموعة التي ضمتها، ولنر كيف أن لمسة تبدو خلاصًا كاملًا: “صغيرتان يداكِ، لكنهما تتسعان لجسمي لشدة ما صار قليلًا” (ج 1، ص 199).
يصبح الخوف الذي يصنعه الألم طريقًا للتخيلات الاستيهامية، ولهذا سوف تكثر الأشباح والظلال والضباب والسراب، وسوف يصبح وجودها أقرب إلى علامات على الوصول إلى سديمية شعورية مرعبة، ربما تتحول إلى رهاب من الموت أو المجهول، الأمر الذي يطيح بذلك الشعور بالثقة نحو أمكنة الألفة، البيت والغرفة، وما سميناه قبل قليل حصنًا أو مخبأً سوف يتحول إلى مكانٍ مستباح، خصوصًا مع مجيء الموت إلى أفراد العائلة، الأخت والأب، اللذين سيحكي عنهما كثيرًا، ابتداءً من مجموعة “مهن القسوة” عام 1993، ومن تجليات هذا الرعب ذلك المشهد الذي يبدو مستلًا من كابوس:
“أطياف نسيان وعابرون بقربك لا يلتفتون. وكنت معكِ وما كنتِ هنا. وما كنت في المكان الآخر، وحديثك كان البكاء الخافت، وحديثي يأس الغرقى. وكنا معًا. طيفٌ لك يتراءى نحيلًا في البعيد. وطيف لي يتبعكِ. وكنا معًا، نتلامس. فلا يستيقظ جسدانا ولا أحد ينتشل قلبينا من البئر”. (ج 1، ص 336).
فضّل بسام الانسحاب من صخب الحياة لكي يتوحّد بحقيقة العالم عبر ألمه، هذا الذي اكتشفَ أنه لم يكن لعنةً، إنما رابطه الحقيقي مع الوجود ولغته التي تفهمها الكائنات كلها: السروة والهواء والبحر، وكذلك الأطياف العابرة أو الزائرة، سواء كانت لبشر أو لجمادات.
بدأ الألم درسًا، ثم توالت الدروس حتى صارت ثقافةً أوصلت روحه إلى صفائها، وعندما أدرك آلية ذلك الارتباط رأى كم أن الألم نزيه، لأنه يعطينا مفاتيح سرية على الرغم مما ينزل في الأبدان من ضعف، وفي النفوس من هشاشة.
“جفّت عيناي
لفرط ما رأتا جفافًا
جفّت عيناي” (ألبوم العائلة، ج 2، ص 33)
في مقامه ذاك، راح المتكلم يصبح غائبًا والغائب متكلمًا، في حالة انفصال بين الإنسان وذاته، أو في تبديل هويات بين شخصين، أو بين شخص وظل، أو بين ظلّين، حتى إننا لم نعد نعرف هل نقرأ رواية الشخص الأصلي عن شبحه، أو رواية الشبح عن الأصل، أم شبح كلام شبحٍ عن شبح كلام شبحٍ آخر! راحت الذات ترتاب في ذاتها، وفي ما تمثّله، وفي ما عاشت لأجله، وأكثر من ذلك؛ ارتيابها في أنها ذات أصلًا. عند تلك النقطة تساوى لديها كل شيء: العدم والوجود، الحضور والغياب، الموت والحياة.
هنا يمكننا العودة إلى النقطة التي أشرنا فيها إلى تطوّر تصوّر النهاية، أو تطويرها للدقة، في فكر بسام حجار الشعري.
هذه النهاية هي اللحظة الأبدية التي يتساوى فيها الأحياء والأموات، الليل والنهار، الضوء والظلام. والمأساوية تقطع أشواطًا أبعد حالما يتبين ألّا شيء يستحق أي شيء من كل ما بذلناه من ألم على فراق أو غياب، من دمع على الوحدة أو الهجران، لأننا الموت. هذه حقيقتنا. نحن الموت شخصًا ومكانًا وزمانًا. لهذا سوف نجلس في أنفسنا ساهين، والسهو هو الإعدام المعلن لكل مفارقات الثنائيات: الفرح والحزن، القلق والطمأنينة.. وغيرها، وهذا ما تقوله القصيدة الأخيرة في ديوانه الأخير “تفسير الرخام” التي تحمل الاسم نفسه:
“سأكونُ ساهيًا عني،
كمن يُمعِنُ التفكير،
جالسًا على مقعد الحجر البارد،
في ردهةِ الأسى الذي لا يُشبه الأسى
بل يشبه السهو
الذي لايسري في الرأسِ
أو العينين
بل السهو الذي يسري تحت الجلدِ
كالقشعريرة
كعثرةٍ في القلب
كصدع في رخام اللامبالاة
البارد كلامبالاة” (ج 2، ص 453 – 454)
بهذا تنتهي فكرة “الجوار المخيف” التي وسم بها الموت في رثائه لأخته، ويجاهر بمتاهته الشعرية الكبرى، ما يقود إلى النزعة البورخيسية المتأصلة في تفكيره وأدائه.
المتاهة والمرايا واللانهاية والعودة الأبدي.. لا تحضر كمجرد كلمات وحسب، لكن كآليات فنية شديدة الإحكام، فمقاطع القصائد، خصوصًا في أعماله الأخيرة، إذ يكثر النفي والشك، وتقصر الجمل والفقرات، وتطول المسافات الفارغة بين مقطع وآخر. كل ذلك دهليز متشابك، كثير من ممراته فخاخ وضياع.
والمتاهية تتجلى في اقتباس القصائدِ قصائدَ أو نصوصًا أخرى: إدوارد هوبر في قصيدة “العابر في منظر ليلي”، فرناندو بيسوا، شاعر البرتغال الكبير، في “الرجل الذي أحب الكناري”، والكثيرون الذين وردت نصوصهم في الكتاب الأخير، الأمر الذي يعدّد الوجوه والأسماء والسَّيَر تعددًا يبدو هو قمة ما تصبو إليه نفسه. وإلى جوار ذلك، نراها في اختلاط الواقع بالحلم، أو في ضياع الحدود بينهما، وفي حضور القرين، شخصنا الآخر، الذي يتخذ شكل إنسان حينًا، أو شبحًا يتكلم حينًا آخر. إنه الشخص في قصيدة “مبتدأ” من مجموعة ” الرجل الذي أحب الكناري”:
“كان يروي حكايتي.
وأحسب أنني ما كنتُ أحدًا.
وأحسب أنني ما كنتُ شيئًا.
وأحسب أنني
يومًا
لن أكون
كانت حكاية.
حكاية وحسب” (ج 2، ص 116).
أما الترجمة، وهو مترجم، فتقنية بورخيسية تجعل النص يبدو مأخوذًا من نظائر مبهمة لا سبيل للحصول عليها، كما لو أنها مأخوذة من كتب ضائعة أو مجهولة (دومنيك م لويزر نزوى 147)، وقصيدة “مزار بجنب الطريق”، من الكتاب الأخير، تتحدث عن “كتابك الغامض كالمتاهة” لكي تؤكد على هذه الفكرة (ج2، ص 430).
إلى جانب بورخيس، يحضر فرناندو بيسوا بقوة في قصائد بسام، سواء من حيث الاقتباس أو محاكاة حبكاته أو إعادة كتابة بعض قصائده.
في “ألبوم العائلة” الكتاب الذي يمثّل سيرة البحث عن الذات، كما هو حال بيسوا الذي صنع أنداده أو بدلاءه لكي يصنعوه، نجد أن الصور الفوتوغرافية تحضر لكي تنوب عن هؤلاء الأنداد، وأن الشاعر يجد غيابه في الصور بدلًا من أن يجد حضوره، وبهذا الغياب يعرّف ذاته.
أما عن إعادة كتابته فذلك ما نجده كثيرًا في الكتاب الأخير، خصوصًا في قصيدة “مزار بجنب الطريق”:
“إني لا شيء
وحديثي عابر
مثلي
بين عابرين” (ج 2، ص 423).
فيما يكتب بيسوا في قصيدة “دكان التبغ”:
“لا أساوي شيئًا
ولن أكون أبدًا شيئًا” (4).
إذا كانت قصيدة بيسوا تحدّثنا عن الشاعر المرعوب الذي يتكوم في غرفته ويظن أن الشارع لا يحتوي دكان تبغ، وأنه يتخيّل الدكان والبائع، ثم يتخيّل نفسه أنه يتخيّل نفسه، وهو في هذا لا يختلف عن شاعرنا حين ينقسم إلى شخصين: متكلم ومخاطب، لا نعرف أيهما الأصل، تمامًا مثلما يحدث لبيسوا الذي ينقسم إلى شخصين: متخيَّل وواقعي. وإذا كانت النافذة البيسوية المطلة على الشارع تشعرنا أنه سجين غرفته، وهؤلاء: بائع التبغ والعابرون.. كلهم سجانوه، فإن الأمر نفسه سنجده في قصيدة أخرى لحجار من الكتاب الخير ذاته:
“لا أبالي –
حين أنظرُ،
ساهيًا،
من حافّة الخمسين –
بجلبةِ الساعين في شارعٍ عريضٍ،
في الأسفل،
حيثُ الحوانيتُ،
وسيّارات الأجرة،
ونفرٌ من التلاميذ والأجراء والعاطلين،
ورجال الشرطة،
والآباء الباحثين عن مكانٍ آمن
لكي يودعوا فيه ملذّاتِ السعي،
مشقّاتِ السعي،
كلّ يوم،
ريثما ينقضي نهارُ السعي،
ويلوذُ أقصرهم قامةً
وعمراً
بليلِ الوساوسِ والظنون
لا أبالي –
والوقتُ غروبٌ –
برجالٍ يجرّونَ خيبةَ المشقّاتِ إلى دُورٍ مُنارَةٍ
بحمّى الرجاءِ
وحده
إذا كانَ رجاءٌ”. (ج 2، ص 245 – 246).
يقول المتن البورخيسي إن العالم رموز، وكل شيء يعني شيئًا آخر، فهل هذا يعني أن بيسوا كتب قصيدة حجّار الذي جاء إلى الشعر لكي يستعيد قصائده الضائعة؟ أم أن حجار أحد الأنداد البيسويين المتأخرين الذين يواصل شاعر البرتغال عبرهم الكتابة، بلغات أخرى، من وراء الموت؟
تُغري الحالة بالتأويلات، لكن قصة “بحث ابن رشد” لبورخيس تقدم الإجابة في جملها الأخيرة: “وأدركتُ، في الصفحة الأخيرة، أن قصتي هذه كانت رمزًا للإنسان الذي كنته أثناء كتابتي لها. وأنني، لكي أكتب هذه القصة، كان عليّ ان أكون ذلك الرجل، ولكي أصبح ذلك الرجل، كان عليّ أن أكتب هذه القصة، وهكذا إلى ما لا نهاية” (5).
في عالم بسام حجار، يتبادل الوهم والحقيقة الأدوار مثل الكتابة والمحو، عبر تلك الذات التي تتشظى إلى ذوات تتشظى هي الأخرى، في زمن مفتوح الجدران على بعضه البعض، لا يقيم وزنًا لقوانين الساعات، ولا لمنطق التقدم، بل يرى الماضي والحاضر والمستقبل يمضون معًا وسويًا على الطريق ذاتها، ونحو إلى الجهة التي يشاؤون.
من أجل هذا يبدو الشعر الفن الأكثر ملائمة لولوج عالم الظل هذا، حيث لا تُجدي نظريات الفلاسفة ولا قوانين العلماء، ولا حتميات رجال الدين، لا سيما أنهم جميعًا إما مشغولون بالواقع المادي غير مبالين بالإمكانيات الأخرى المتاحة، التي تقول بأن أكثر من واقعٍ يجاور هذا الواقع، وإما يؤمنون أن علاقتهم مع ذلك العالم وأسئلته تقودهم إلى الرعب.
لن تدل تلك الجغرافيا على البيوت والغرف، بل على معابر إلى ما وراء ما نرى ونحس ونُدرك، نحو العالم الذي تعيش فيه أطياف بني البشر، وبني الأشياء، أبدَها.
بسبب ذلك كله، جسّد بسام حجار صورة الشاعر المعاصر أسمى تجسيد، وبات مثالنا الفريد على شاعر الذات. ولأجل صورته هذه يهتم به الشعراء دون أن يُدركوا الفارق الذي صنعه حين صنع ذاته الغارقة في ألمها، لكنها قادرة على الالتفات والاهتمام بألم الآخرين، دون تلك النرجسية الفارغة القائمة على جهل فادح بالذات والأنا والهوية، حيث عزلتها عن العالم وقوقعتها في داخلٍ خاو من كل أحد أو شيء.
هوامش:
- اعتمدت هذه القراءة على طبعة “بسام حجار.. الأعمال الشعرية الكاملة”، جزءان، بيروت “2019. وسنذكر رقم الصفحة وعنوان المجموعة والجزء داخل النص، كي نتجنب الإكثار من الهوامش.
- انظر الغلاف الخلفي لـ أعمال محمد الماغوط، دار المدى: دمشق 1998.
- الشعور المأساوي بالحياة، ميغيل دي أونامونو، ترجمة علي أشقر، منشورات وزارة الثقافة: دمشق 2005، ص 28.
- فرناندو بيسوا.. مختارات، ترجمة المهدي أخريف، المركز القومي للترجمة: القاهرة 1998. ص 345. يشير المترجم إلى أنه وضع العنوان الأصلي للقصيدة “طبكيرية” بدلًا من ترجمته “دكان التبغ”.
- الأحلام المشرقية.. بورخيس في متاهات ألف ليلة، عيسى مخلوف، دار النهار: بيروت 1996. ص 132.
*الترا صوت