رائد وحش: الشمولية كما أتقنتها الرأسمالية الليبرالية

0

الشمولية! تحضر الكلمة فترافقها إلى الأذهان صورة حشود تملأ الشوارع والساحات، في حالة أقرب إلى تنويم مغناطيسيّ عام يقوم به زعيم يفوق الآلهة، فعصاة الآلهة يبقون غالبًا دون عقاب، وأحيانًا يرجأ عقابهم لأن من طبع الآلهة أن تُمهل. بينما عصاة الزعيم، الإله الأرضي الواضح والمعروف، يدركون دون شكٍّ أن الجحيم موجود لدى المخابرات الوطنية، وليس في الأمكنة المتنوعة التي تختلف عليها النصوص الدينية، ولهذا تعطي الجماهير في احتشادها الصورة الأقسى لهذا القهر: العبادة الجماعية.

ارتبطت كلمة “الشمولية” وصورتها تلك بدكتاتوريات الحزب الواحد كما عرفناها في النموذج السوفييتي، أو بالدكتاتوريات العسكرية في نماذجها المتعددة عربيةً وأفريقيةً ولاتينيةً.

هذه هي الصورة التي نعرفها عن الشمولية. أو التي كثيرًا ما ترتبط بها. لكن ماذا عن الصورة المعادلة لها في المجال الذي يدعي الديمقراطية؟ على الأرجح هي صورة الطابور الواقف أمام متجر في انتظار الحصول على النسخة الجديدة من الآيفون أو البلايستيشن، بل وحتى نسخة من كتاب البيست سيلر لهذا الموسم.

في الأوضاع التي نعيشها في زماننا، لا سيما مع تصاعد الشعبوية اليمينية، ثمة أدلة عديدة تنبئ بأن اقتصار النظر على الشمولية من خلال الحشد والقائد لا تفي الواقع حقه، ففي ظل رأس المال يحدث كل ما يلزم لأجل السيطرة والتحكم والاستمرار.

يؤكد صلاح الدين أحمد في كتابه “الفضاء الشمولي” أن الفاشية اخترعت الشمولية، والشيوعية مارستها، لكن الرأسمالية الليبرالية أتقنتها، ولهذا سيقول عبارة دامغة: “بدلًا من موسوليني أو هتلر أو ستالين لدينا رأس المال”.

نعم، ذلك صحيح جدًا ما دام رأس المال قادرًا على التغلب على كل شيء ضمن السوق الحرة، فضاء حياته الحيوي. وما دام قادرًا على توظيف سياسيين من بطانته مجيّرًا العملية الديمقراطية الشكلية لمصلحته، وبالتالي فإنه يُعدم الحراك الاجتماعي بمنع فئات اجتماعية حساسة (النساء، ذوي الاحتياجات الخاصة..) من التمثيل الكافي لإحداث تغيير، ويعمل على تحويل الثقافة إلى سلعة استهلاكية لا تسمن ولا تغني، حيث تعجز تشخيص المشاكل، وبالتالي اقتراح الحلول.

نعرف أن قادة الدول بلا استثناء، مستبدين أو ديمقراطيين، شعبويين أو رشيدين، يساريين أو يمينيين.. يريدون البقاء في السلطة، ولم نعد نحتاج إلى دكتاتورية لكي نبرهن على ذلك، يكفي تذكُّر أن كثيرًا من الدكتاتوريات كانت ديمقراطيات قبل تعفنها وفسادها. وتكمن المشكلة في أن الثمن كامن في نزعة البقاء في السلطة. هذا بالضبط ما يجعل من عالم السياسة قائمًا على قواعد، والحاكم الذي لا يراعي هذه القواعد يحكم على نفسه بالفشل.

ومن هذه القواعد إضعاف المؤسسات المتخصصة في نقد السلطة؛ أي الصحافة والقضاء، وبالطبع يجري ذلك بطرق عديدة، من بينها تدجين وسائل الإعلام بإعفاءات ضريبية، أو بدعم مباشر، ناهيك أصلًا أن كثيرًا منها مملوك لسدنة الخط اليميني. أما القضاء فأمره أيضًا يقوم على تكتيكات مشابهة. الكثير من القضاة أصلًا من عائلات غنية منحتهم القابلية ليصبحوا قضاة، ولا يخفى أن هؤلاء الأغنياء من التيار اليميني، أو قريبون منه. وهنا تلعب نظرية الخوف دورها في جعلهم يدعمون ما يظنون أن القيام به حماية للديمقراطية. أليس من يصدر قرارات إرجاع اللاجئين في أوروبا قضاة؟ ألا يعتبر ذلك أحد الإجراءات العملية للسياسات اليمينية؟ ولنا أن نسأل بالطبع قبل ذلك: هل القانون بالأصل عادل؟ ما القانوني وما غير القانوني؟ وكيف تكون العقوبة حقيقية إذا كان من يخدش سيارة ينال حكمًا أشد ممن يضرب إنسانًا؟

أمامنا ديمقراطية مزيفة، يتسيّدها خبثاء وعنصريون، مصابون بعقد تفوّق متنوعة، ذكورية أو عنصرية أو دينية أو كلها معًا، وعلى الرغم من أن عددًا كبيرًا منهم من الفاشلين إلا أنه يجري الحفاظ عليهم، حتى حين يكونون في أسوأ أوقاتهم. لنتذكر أنه لم يحدث شيء للمعتوه ترامب، وذاك المقيت ساركوزي الذي نال على انتهاكات دستورية قرصة خد لا أكثر. وكأنه أخطأ بحق إله حقيقي.

المجتمع الليبرالي الحرّ دكتاتورية غير مرئية. يكفي أن هناك كميات من الحقائق المزوّرة التي تدفع إلى فقدان الأمل، بالتوازي مع استمرار الترويج لكبرى أكاذيب الوجود بأن النظام الرأسمالي مثالي، بحريته الواسعة وفرصه التي تنتظر الجميع، مع أنه نظام بدأ بوسائل قسرية كالعبودية والاستعمار، ولا يزال يعمل بالآلية نفسها، لكنْ بشكل خفي.

ما من حل دون إعادة تكريس الديمقراطية، دون أن نخدع أنفسنا بأن هذه الموجودة تستحق تسمية “ديمقراطية”، ولا يمكن لذلك أن يحدث ما لم يأخذ المهمّشون، فقراء تلك المجتمعات واللاجئون إليها، حقهم بالقول والفعل عنوةً.

*الترا صوت