منذ 38 سنة، عبَرَ أمل دنقل (1940- 1983) سريعًا وكأنّ لديه مواعيد لا يريد التّأخّر عنها في مكان آخر. الشعراء الذين يصلون إلى مستوى أسطوري يرغموننا على تخيّل ذلك. ما الفن دون أسطرة؟
رغم ذلك العمر القصير والأعمال القليلة إلا أنه بات واحدًا من أبرز الشعراء العرب في عالم ما بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، بسبب تعبيره عن تلك المرحلة نفسيًّا وفكريًا، وبسبب تفجّراته الفنية الخاصة والجديدة التي بدأت تظهر منذ ذلك الحين.
عاش صعلوكًا رافضًا ومتمردًا، وظلّ وفيًّا حتى لحظاته الأخيرة لحياة البسطاء. لم يعرف طوال حياته منزلًا. تنقّل بين الغرف المستأجرة في الأحياء الشعبيّة، وفنادق الدّرجة العاشرة. حتى إنه ذكر يومًا، في حوار صحفيّ، إنّ تاريخ الأرصفة هو تاريخه الشّخصيّ. وفي يوم وفاته، في 21 أيار/مايو 1983، كانت عناوين الصحف على هذا النحو: “يا شوارع القاهرة مات أمل دنقل”.
الرفض، العناد، الحديّة.. صفات وسَمتْ شخصيتّه الحياتيّة بالثّبات وعدم التّنازل، وطبعتْ شعره بطابعها فأصبح شعرَ موقف لا مكان للحياد فيه على الإطلاق، أليس هو صاحب قصيدة الأجيال المجلجلة “لا تصالح”؟
جاءت قصيدته في شكل مخالف لجميع مجايليه وسابقيه. ففي الوقت الذي كان صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي مشغولين بالحس الرومانسي في قصائدهما، شرع دنقل في تشييد دراما شعرية، مستخدمًا التقنيات المسرحية وشخصيات السير الشعبية استخدامًا مبتكرًا للعبة القناع، كما قام بتطويع المونتاج السينمائي في لقطات مركّزة، أما اللغة التي حملت نتاجه فجاءت بمذاق الحياة اليومية في الميادين والأزقة. وعلى الرغم من كونها تنحدر من ثقافة رفيعة لكنها تماهتْ مع وحل الأرصفة وناسها. لغة حديثة تطوّع التّفاصيل وتؤدي الأفكار أفضل تأدية، ولهذا استطاعت جعل القضايا الكبرى تبدو شأنًا من شؤون الذات.
جمع مهارة الصنعة وبراءة الطلاقة، وقرنَ الأصالة ومعرفة الماضي العميقة بفهم إيقاع المعاصرة، وبدا دائمًا من حيث إنه شاعر يكتب القصيدة الموزونة حريصًا على تجديد نغماته الإيقاعية، ولهذا ابتكر آليات وألاعيب عديدة للخروج من رتابة القوافي.
وصل دنقل بالشعر إلى لحظة درامية خاصة، جمعت أصوات الفقراء والحالمين، على خلفية رؤيته القومية، من أجل تعرية عورة الداخل الهزيل الذي كان السبب الأوّل وراء الهزيمة، لكن الهزيمة نفسها ستشكّل ولادة أخرى لشخصيته الشعرية حين تربطها بأسئلة شعب مقهور يحلم بالحرية والعدل.
من هنا راح ضمير المتكلّم الذي سيطر على معظم قصائده يعود على الـ”نحن” لا الـ”أنا”، على الكل لا الجزء. وبهذا بنى الشاعر في قصائده صوت فرد مملوءًا بثقل الانهزام، لديه إحساس دائم بالقمع والقهر بسبب شراسة البوليس، ونشرات الأخبار الكاذبة، وتحوّل رغيف الخبز إلى مشقّة كبرى. لأجل ذلك صارت قصيدته مرآة لواقع تتجوّل في فضائه الهزيمة كالهواء؛ في الشارع، في الباص، في الموعد الغراميّ، في جلسة المقهى… ولأجل ذلك أيضًا صارت الكتابة الشعرية بحثًا عن حق الوجود الطبيعي، والوصول إلى الخلاص.
في كتابها “الجنوبي“، تصف زوجته عبلة الرويني شخصيته التي لا تقبل التزييف، وتقول إنه لم يفعل إلا ما يريده هو، لا ما يريده منه الآخرون، دون تواطؤ أو انحناء، وذلك لأن صلابته الشخصية مستمدة من صلابة البيئة المصرية الجنوبية التي نبت ونشأ في أحضانها، ولهذا لم تكن صدفة أن له ملامح الصخر المنحوت التي جعلته يبدو شبيهًا بأخناتون. ذات مرة، قال أمل لعبلة: “شادي عبد السلام كان يريدني أن ألعب بطولة فيلم أخناتون”. “أنت بالفعل تشبه أخناتون تمامًا!” قالت. “هو الذي يشبهني” رد بحزمه المعهود!
بعد سنوات عديدة من رحيله قامت عبلة بزيارة إلى الأقصر، وهناك أهداها أحد الأصدقاء تمثالًا صغيرًا من البازلت الأسود لرأس أخناتون، قائلًا: “هذا هو أمل دنقل”!
*ألترا صوت