حين مدّ يده للمصافحة بعد أن عرف أنني فلسطيني قال: “أنا فلسطيني أيضًا”. حدث ذلك بالقرب من الخيمة التي جعلها مطعمًا، في مهرجان ثقافي جنوبي فرنسا، ورفع فوقها علمًا كبيرًا لفلسطين، ونصبَ أمامها خريطة تروي احتلاها وطرد سكّانها.
حيّرني ذلك مع أنني أعرف أنه يمكن لهذا الفرنسي أن يكون فلسطينيًّا بمقدار ما يحب ويرغب، لا سيما أن الانتماء إلى فلسطين كان ولا يزال مفتوحًا لكل من يؤمنون بها. ما حيّرني بالضبط أن ما أراه صنيع رجل أوروبي، لكوني مثقلًا باليأس من أوروبيين آخرين، هم الألمان، الذين يُنكرون السردية الفلسطينية، ويُساهمون ليلَ نهار في دعم وتقوية إسرائيل، دون أي اكتراث بمعاناة الفلسطينيين جرّاء ذلك، ولا يأتون على ذكرهم إلا إذا تعلق الأمر بتحميلهم وزر عنف ما برزَ في المشهد.
أبو جهاد (هذا هو الاسم الذي اختاره لنفسه تيمنًا بالشهيد خليل الوزير) أو جان-ماري دنست لبّى مع فرنسيين آخرين نداء إحدى المنظمات التي تدعم الفلاحين في فلسطين، من أجل الذهاب ومساعدتهم في قطاف زيتونهم في الأراضي القريبة من المستوطنات.
كان ذلك في 2002، أي في عزّ الانتفاضة الثانية، وكانت تلك المهمة تحمل الرقم 32 في تاريخ تلك المنظمة.
وجد أبو جهاد نفسه في الجحيم منذ اليوم الأول. فحيث حط بها المطاف في بستان زيتون بالقرب من مستوطنة إيتمار، جنوبي شرق نابلس، وبمجرد بدء القطّافين عملهم خرجت سيارة من المستوطنة ثم نزل منها مسلحون وفتحوا عليهم النار، فراحوا يزحفون بحثًا عن مخبأ خلف حجر أو شجرة. وخلال ذلك رفع الفرنسيون الخمسة، يقولها أبو جهاد متهكمًا، جوازاتهم الأوروبية ليقولوا إنهم طرف ثالث، لكن المستوطنين لم يبالوا بذلك، وواصلوا إطلاق الرصاص، فما كان أمام الجميع سوى الهرب في النهاية.
في ذلك اليوم، وخلال تقطّع الأنفاس في الزحف والركض والاختباء، أدرك أبو جهاد أمرًا حاسمًا، هو أن الجواز الأوروبي الذي يساعد حامله في مختلف الظروف فقد قيمته عندما وقف بين الفلسطينيين. ووقتها لم يعد ناشطًا أجنبيًّا قادمًا للدعم والمساندة، كما يمكن أن يحدث لغيره من النشطاء الأوروبيين الذين يجوبون العالم وراء قضايا مختلفة كالبيئة والتعليم والطبابة.. وغيرها، بل غدا فلسطينيًّا مسلوب الحقوق والامتيازات، مُعرّضًا لكل أنواع الأخطار والانتهاكات، مثله مثل كل من يقفون إلى جانبه في ذلك البستان.
تذكرت قولة لمحمود درويش وردت في مرثيته النثرية العظيمة لغسان كنفاني: “أن تكون فلسطينيًا معناه أن تعتاد الموت، أن تتعامل مع الموت.. أن تُقدِّم طلب انتسابٍ إلى دمِ غسان كنفاني”. وبالمثل يمكن لأبي جهاد أن يضع تعريفه: أن تكون فلسطينيًّا معناه أن تفقد امتيازاتك كرجل أبيض!
شاهد في تلك الرحلة أهوالًا لم تألفها عيناه. قصف، قطع طرقات، اقتحامات، اعتقالات.. لكن أكثر ما أثّر به هو مشهد فتيات مراهقات عائدات من المدرسة إلى بيوتهن، فاجأتهن دبابة إسرائيلية تغلق المدخل إلى الحي وتمنعهن من العودة. وعلى الرغم من التهديد بالسلاح والشتائم والصراخ، وعلى الرغم من أن إحداهن أصيبت بإحدى رصاصات التهديد، أصرّت تلك الفتيات على موقفهن حتى خضع الجنود وفتحوا لهنّ الطريق.
بسبب هذا المشهد وغيره لم تتغيّر حياته وحسب، بل تغيّرت علاقته مع نفسه ومع عائلته. وحين عاد قال لزوجته المغربية فاطمة: “ذهبت أبًا إليها، لكن فلسطين أرجعتني ناشطًا”.
شاءت الأقدار أن تتزامن الرحلة الثانية في عام 2003 مع أول يوم من حرب احتلال العراق. فرأى كيف ترفع الدول الكبرى شعارات نبيلة مثل “تحرير العراق” لتكون غطاء لسرقة الشعوب وتدمير بلدانها. ما جعل مقاربته للقضية الفلسطينية تكتسب بين ما اكتسبته من معان أن تكون أيضًا رفضًا لأكاذيب النظام الذي يحكم الغرب.
في هذه الرحلة التقى بفرنسيّ صار فلسطينيًّا اسمه صبري جيرو، تزوج من فلسطينية وسكن في الضفة الغربية، قال له: “إن كنت تريد ان تفعل شيئًا فعليك أن تساعدنا في بيع زيت الزيتون المحلي في فرنسا”. وهو ما حدث فعلًا. من ليترات زيت زيتون قليلة في البداية إلى الآلاف منها فيما بعد. ثم توسعت الدائرة فصار يبيع من كل ما ينتجه فلسطينيو الضفة الغربية إلى جانب الزيت: الصابون، الزعتر، النبيذ، الأحذية والأحزمة الجلدية، أطباق السيراميك، المشغولات اليدوية.. وعن هذا يؤكد أنه لا يبيع فقط، بل يتحدّث مع الزبائن عن القضية الفلسطينية، ويحثّهم على الذهاب إلى فلسطين ليروا بأنفسهم كيف تجري الأمور، ويقفوا على حقيقتها.
تدور شاحنته في أرجاء فرنسا. عليها صورة كبيرة للقدس. في داخلها أعلام صغيرة وكوفيات وشعارات مختلفة، أبرزها حنظلة. إنها فلسطينه المُصغّرة. فلسطين المكثفة بما تتسع له الشاحنة. يُشارك في مهرجات محلية ودولية. لكن ما يحزنه أنه لا يستطيع رفع العلم الفلسطيني دائمًا، ففي الأمكنة التي يسيطر فيها اللوبي الصهيوني يكتفي بالبضاعة. في النهاية، كما يرى، ما يهم أن تصل الرسالة. يتذكر أبو جهاد أنه خلال انتفاضة السكاكين في 2016، شارك في باريس في سوق عيد الميلاد، في شارع الشانزليزيه، وهناك عرض بضاعته، البضاعة فقط، وحدثت إشكالية مع بعض الصهاينة الشباب الذين تهجموا عليه واتهموه بالكذب، فكل ما يعرضه مجرد بضائع صينية، إذ لا يوجد على الإطلاق بلد اسمه فلسطين. وحين نشر على صفحاته في السوشيال ميديا فيديو عن يوميات العمل في سوق عيد الميلاد ذلك، بدأت التعليقات تهاجم قائلة: هناك داعمون للإرهاب في الشانزليزيه
وبالفعل اهتمت السفارة الإسرائيلية في باريس بالأمر وسعت لدى السلطات لإغلاق المحل، لكن أحدًا لم يأخذ تلك المزاعم على محمل الجد، وربما يكون البوليس السريّ زار المكان متنكرًا في هيئة زبائن عاديين وتوصّل إلى أنها ادعاءات زائفة، ولأنه لم يحدث شيء نشر موقع فرنسي تابع للوبي الصهيوني مقالة ضده، وضد عمله، وعلى رأسها صورة له يرتدي فيها قميصًا طبعًا عليه عبارة “انتفاضة القدس”، معتبرين أنه بهذا القميص يدعم انتفاضة السكاكين!
لأن أبا جهاد فلاح يعرف تمامًا معنى الأرض. إنها ليست شقة للإيجار تبدلها متى شاء الهوى، بل قيمة وكينونة. طعام وشراب وطمأنينة وأمان. إنها كل شيء. وحين يختار أن يبيع منتجات الفلاحين والحرفيين الفلسطينيين فهو يقدم للناس في بلاده الأرض الفلسطينية.
*ألترا صوت