كان «الخبيث» قد تمكـّنَ منّي؛ لكن لم أستسلم لليأس…
ذهبت لإجراء الفحوص اللازمة قبل التدخّل الجراحيّ، وجدتُ طبيبي المعالج والدكتورة هناء في انتظاري. دخلتُ باسمة، بادلاني الابتسامة ذاتها التي اعتدتُ عليها، وفي غضون نصف ساعة تقريبا أنهيت جميع الإجراءات.
جلستُ في ردهة منفصلة عن غرفة الطبيب أنتظر نتائج التحاليل والسونار، أمسكتُ بمجلة كانت فوق الطاولة المركونة في زاوية الردهة، أو كما تسمى صالة الانتظار، تصفّحتها رغما عني، فقلبي عند أبنائي، وعقلي في مختبرالمركزالطبيّ، يداي ترتجفان، وعيناي لا تبصران ما تحتويه صفحات المجلة، شعرت بالملل، فأرجعتها إلى مكانها. نادت إحدى الممرضات باسمي، ولا أعرف لماذا أشعر هذا اليوم برغبة في الفرح، وأكل الحلوى، وملاطفة من حولي، فابتسمت في وجهها؛ لكنّها كانت متجهّمة المحيا، ربما لأنها تعمل لساعات طويلة مع أجناس مختلفة وأمراض متعدّدة! هكذا اعتقدتُ.
دخلت إلى غرفة الطبيب:
– طمّني دكتور، عسى أن تكون التحاليل إيجابية؟
نظر لي وابتسم، ثمّ أخبرني أنّ الورم لم يستجب للعلاج، وأنّ الجراحة خطرة؛ إذ لا تتعدّى نسبة نجاحها اثنين في المئة! لكن الأمل بالله كبير جدّا.
لم أنتظر حتى يفرغ من كلامه، سألته عن الزمن المتبقّي لي؟
قال: لا نعرف الغيب؛ لكن المرض تمكّن من جسدكِ.
كنت أعتقد أنّ هذا يقال ويحدث على شاشة التلفزيون فقط، لم أكن أدرك أنّ كلّ ما نشاهده هو ترجمة لواقع نعيشه ويعيشه غيرنا، شعرت بصعوبة في بلع ريقي، وكأنّ شجرة عاقول نبتت فيه، شعرتُ بشيء أشبه بالجمر يتقلّب في محجر دمعي، فلم أنبس ببنت شفة، أخذت صور الأشعة والسونار وتقرير التحاليل، وخرجت بخطى كأنّها مكبّلة بسلاسل من حديد. لم أستطع قيادة سيارتي، بقيت جالسة لدقائق طويلة، وضعت رأسي إلى المقود، وبكيت، شهقت، ثمّ رفعت نظري إلى المغلف الذي يحتوي على أوراقي الطبية، شيء ما بدأ يدور في عقلي، ودمي وجسدي، شيء أشبه بصعقة كهربائية، شيء أشبه بكائن آخر يريد أن يأخذني من أحلامي وبيتي وآمالي وأبنائي وغدي.
كائن لم أحبّه، ولم آلفه، دخيل، مقيت، ثقيل.
مسحت دموعي، وعدلّتُ من جلستي خلف مقود السيارة، كبست على زر تدوير المحرّك، وانطلقت دون وعي إلى الصالون النسائيّ الذي اعتدت أن ارتاده بين الحين والآخر، استقبلتني السيدة ريتا كما تفعل كلّ مرة، تحتضنني ثمّ تطلب لي كوب نسكافيه، نظرتْ في وجهي مليّا، ثمّ سألتني:
– «شو بكِ؟ ليه عم تبكي»؟
– لم يبق لي الكثير في الحياة!
استغربتْ ريتا من لهجتي وحزني ويأسي، وحاولتْ أن تخفّف عنّي هذا البؤس قدر ما تستطيع، مسحتُ دموعي، وطلبتُ منها أن تقصّ شعري، وتصبغه بلون لم أجرؤ أن أصبغه حين كنت في ريعان الشباب، أحببت أن أعيش لنفسي، أن أفعل جميع الأشياء التي حرمتُ نفسي منها، أن ألبس جميع الألوان التي كنت أعتقد أنّها لن تناسبني، أن أرتاد السينما، أن أتنزّه، أن أضحك، ألا أفعل الأشياء التي يجبرني عليها المجتمع! وبينما كنت أنتظر مرور الوقت المحدّد لغسل الصبغة من شعري، فتحتُ هاتفي، وبدأت في البحث في جهات الاتصال، عن جميع الأسماء التي كانت تستفزّني، وكنت مرغمة على مجاملتها، وتلك التي طرقتْ بابي باسم الحبّ وخذلتني، وأخرى باغتتني باسم القرابة وقتلتني، فقمتُ بمسحها اسما بعد اسم، لا أريد أن أثقل هاتفي وقلبي بعد اليوم بأشخاص كانوا يعنون لي الكثير، ولم أعنِ لهم سوى اسم. بعد الانتهاء من جلسة الصالون، توجهتُ إلى أحد مراكز التسوق لأشتري «سكارفا» ملونا وعطرا كان قد أعجبني؛ لكنني حجبته عن نفسي لغلاء سعره، ثمّ اتّجهت لمقهى «كوستا» لأشرب فنجان قهوتي المفضّل، المقهى الذي اعتدنا أن نلتقي فيه أنا وهو! تذكّرتُ حديثنا في آخر لقاء، اعترافه بأنه لن يستطيع التخلّي عن زوجته الأخرى، ملامح وجهه التي بدت أشدّ قسوة من وطن أرضع أبناءه ويلات الحرب.
– رغم كلّ شيء أحبّكِ.
– أحببتَ امرأة معجونة بماء القهر، وقلبها متشظٍ.
تعويذة الحبّ تقتل أحيانا، قراءتها على قلوبنا أشبه بالتسول في حضرة الغياب، ليتنا نتقن الفرح كإتقاننا الحزن والبكاء. تُرى هل أخبرهُ بمرضي، هل أستجدي عطفه؟ لكنه استهتر بمشاعري. كيف أسامح من يستهتر بمشاعر الآخرين؟
خسارة واحدة؟ خسارتان، ثلاث، مئة.. ماذا يساوي الاعتذار أمام ذلك الكم من الخسائر؟
هاتفته:
– فهد.. أنا بحاجة إليك، أو بالأحرى ضعفي بحاجة إليك.
– ما بكِ، لماذا صوتكِ مختنق؟
– لأنّني بحاجة لمن يحميني من هذا التشتّت والتيه، بحاجة إلى وطن، أيّ وطن لا يهمّ، لا أريد أن يكون زادي الخوف والقلق.
– انتظري، سأكون عندكِ.
القسوة والغياب جعلا منه رجلاً آخر، قتلا الرجل الذي أحبّ، هو يعيش في منظومة اللا جدوى والمستحيل، وأنا بسيطة جدا، أعيش في منظومة جدّي وأبي، ومجتمع يستهجن عدم رضوخ المرأة لقرارات الرجل. تنّقلي من دولة إلى أخرى، ليس كتنقل الفراشات بين الزهور لتجمع الرحيق؛ بل كتنقل الطيور المهاجرة بحثا عن الدفء، هذا التنقّل جعل منّي امرأة قوية الإرادة؛ لكن رهيفة المشاعر.
– عواطف، ما بكِ؟
– الفرح يليق بي بعد سنواتٍ من التيه، أريد أن أعيش دون عزاء، دون حروب، أريد أن أمتلك قلبي، أن اقرأ جميع الكتب المنضّدة على رفوف مكتبتي، أن أزيح الغبار عن مرآتي، أن أفرّغ ذاكرتي من الذكريات المؤلمة، ثمّة مطر لم أقفز كالأطفال تحت قطراته، ثمّة حدائق لم أفترش اخضرارها، ثمّة فساتين ملوّنة لم أرتَدِها بعد.. ثم أنتَ يا فهد.
– ابتسمي، سلامٌ على ابتسامتكِ.. تلك التي تمنحني الفرح، أدعوكِ للفرح، للبهجة، لنسيان الأمس، كنتُ أبني في روحي وقلبي وعمري؛ أبني لكِ بيتا، وأخلق لك كيانا، وأفرد لك مساحة، أعلم أنّني أتيت متأخّرا؛ غبتُ عنكِ كثيرا.. لكنّني أحبكِ، لا أعرف ما أقدّمه لك سوى هذه الدعوة المتأخّرة، وقلب يحبّك، ووعد بأنني سأكون إلى جانبك منذ هذه اللحظة.
*القدس العربي