ذكرى لعيبي: بروتوكولات امرأة

0

لم يكن الطريق الذي قطعتهُ للوصول إلى أوروبا شاقاً، بقدر قسوة الطريق الذي قطعته للعودة إلى نفسي وقراراتي المهلكة بحقها! هزائم كثيرة؛
منحنيات مغلقة ودهاليز كان عليّ العبور فوقها وليس الولوج فيها؛
أشخاص سلبيون متلونون، أيضا كان عليّ عدم الاقتراب من عالمهم؛
لكن هذا كلهُ كان يتلاشى حين يبادرني بتحية الصباح والمساء، أو حين أجد رسالة منهُ على الإيميل.
أذكر أول رسالة وصلتني بتاريخ عيد ميلادي، لم تكن تهنئة عادية:
ـ أيتها العظيمة، هل تدركين أن شهور السنة أجمعها تغار من تموز؟
وقتها لم أردّ، فلم أعرف هوية المرسل؛ لكن الرسالة بقيت تدور في رأسي، هذا رجل غير عادي لأنه بادرني بجملة لن يكتبها ألا صاحب قلم وفكر عميق: « أيتها العظيمة»!
في صباح اليوم التالي، وجدت رسالة أخرى:
ـ أيها العظيمة، كنتُ أعرف أنكِ لن تردّي، لكني سعيد لأنكِ قرأتِها، لصباحكِ تغنّي العنادل.
ـ هل أعرفك؟
ـ ربما.. المهم أنا أعرفكِ، وصورتكِ تلازمني طوال اليوم
ـ صورتي؟
ـ نعم، صورتكِ نسختها من صفحتكِ
يا إلهي هذا الرقم ليس ضمن جهات الاتصال، وهو رقم أجنبي غير مخزن في القائمة.
لا أنكر أنه أصبح شغلي الشاغل، خاصة أنه لا يهمل تحايا الصباح والمساء، وما بينهما جملة:
ـ على بالي
أو
ـ مشغول، لكن هذه الثواني التي أكتب فيها إليك أوكسجين نقي لرئتي
أو
ـ نستمع الآن أغنية لعبد الحليم أنا وصورتكِ..
هل هذا حُبّ؟
ليته الرجل الذي أتمناه وأحلم به، لكن لا أنكر أيضاً، أني صرت انتظر رسائله بشوق، أشعر بفرح كبير يغمرني حين أسمع الرنّة التي خصصتها لاستلام رسائله.
ـ تصبحين على رجل ينتظر ابتسامتكِ.
إذن هو أكثر من حُبّ!
ـ أيها العظيمة، أنا اتألم لأني لم أخبركِ من أكون، لكن المهم جوارحي تعرف من تكونين!
ـ حبيبتي العظيمة، العالم لا يتوهج إن لم يشرق وجهكِ على نوافذه.
ـ عظيمتي، قلبي يخبرني أنكِ تبادلينني المشاعر نفسها، لكني أقدّر كونكِ امرأة شرقية، لا تُبوح بمشاعرها بسهولة كما تفعل النساء الأجنبيات هنا.
ـ أيتها العظيمة، حبيبة روحي التي انفصلت عن جسدي وسكنت في جسدكِ، لا انتظر أن تبادليني هذه التحايا بالكتابة، لأني أشعر بأنفاسكِ قريبة منّي.
كنتُ اقرأ هذه الرسائل وقلبي يتمزق لوعة وأسئلة تتقاتل في رأسي، قد أسرتني رسائله، طوّعت حديد قلبي وهزمت قبائل سنواتي العجاف، بل جعلتني أصدّق نبوءة الحب، لكنني أخشى من الوهم والسراب، قررت أن أميل لنفسي وأنزع عباءة الاستسلام هذه، خلاص؛ غدا سأضع حداً لهذا الأمر.
ـ عظيمتي، سلطانة قلبي، لا داعي لهذا القلق، أعرف أنكِ متوترة هذه اللحظة، كوني مطمئنة، فالعالم يبدو خراباً، إن لم أشعر بأنكِ هادئة، تصبحين على آخر نجمة صبح، لن تنام حتى تصحو نجمتا عينيكِ.
عندما بادرني بهذه التحية في هذا الوقت بالذات الذي كنت أتحدث فيه مع نفسي، أصابني بعض الهلع، خُيل إليّ أنه هنا، معي، متخفٍ، أو ربما متحّدٌ معي. ما الذي أصابني؟ غدا لا بد أن أعرف من هو، لا أحب ضباب العلاقات والمراوغات والمخاتلات والحزورات، رغم أنه يبدو مغرماً بشكل حقيقي، دون خداع، وألا ما الذي يجبره على الالتزام بهذه التحايا وهذا الاهتمام طوال اليوم؟
ـ أيتها العظيمة، صباح الحياة التي تبدأ بكِ ولن تنتهي
ـ أرجو أن تخبرني من أنتَ، لا داعي لهذا كله
ـ ستعرفين قريباً جداً، وقد تتفاجئين!
ـ اتفاجأ!
ـ نعم.. نعم أيتها العالم الذي فتح أبوابه بعد أن قضم منّي سنوات مديدة، أنتِ الطيف والحقيقة والمأمول وكل الروايات التي كتبتها، دون أن أعرفكِ، أنتِ أيها العظيمة الخلاص الذي وعدت نفسي بالإخلاص له.
ـ «روايات كتبتها!» منْ أنت؟
نعم كانت المفاجأة التي كادت أن توقف نبض قلبي؛ الروائي الكبير الدكتور سرّ البحر الناصري، الذي كنتُ أطير فرحاً حين يردّ على تعليقي أو يمرّ حتى لو بكلمة على نص أكتبه:
ـ يا عظيمتي؛ سلطانة عمري وأميرة قلبي، ها أنتِ حقيقة ماثلة أمامي، وها أنا متجرد أمامكِ من بؤس الدنيا وما فيها من بشر، ألتمسكِ ضفّة لما تبقى من العمر، رأيتكِ في كل الأحلام، ولم أتجرأ أن أحلم بأن تكوني حقيقة، أنتِ حوريتي على الأرض وفي السماء، أنتِ جنتي ونفسي..
كنتُ متسمرّة، مشدوهة، كأني بين يدي الله يوم الحشر، بلعتُ ريقي عشرات المرات قبل أن أنطق أي كلمة:
ـ لكن كيف؟ أقصد متى؟ يعني لماذا أنا؟
ـ كنتُ أشعر بكِ من خلال كتاباتكِ، تعليقاتكِ، كنتِ قريبة من ذاتي، من أفكاري، من نفسي، بل أنتِ نفسي أيتها الروح.
ـ أنا حقيقة معجبة بكَ جداً، أقصد برواياتك، مدهشة وهذا ليس رأيي فقط..
ـ برأيكِ أرى الجميع فهو الأهم بالنسبة لي..
ـ لكن كيف تجد كل هذا الوقت لي، أقصد..
ـ لأني أعشقكِ، أحبكِ، أنتِ الكاتبة «تسنيم الحياة الأسعد» ولستِ امرأة عابرة، أنا سعيد الحظ أن ألتقيك وأحبك.
انتبهت لنفسي: نعم أنا تسنيم الحياة، يجب أن لا أظهر هذا الكم من المشاعر قبل أن أعرف الناصري الإنسان وليس الروائي الشهير.
فاستجمعت شجاعتي وجرأتي وعدّتُ صلبة، كما لو أني استعد لكتابة قصيدة هجاء ضد الطغاة والخونة:
ـ أنا لم أعرف شيئاً عن حياتك
ـ تهمكِ؟
ـ نعم إن كنت تفكر في الارتباط بي، أو.. إن كنت تريد أن أبقى صديقة مقربة فقط.
وفي داخلي كانت الأمنيات تتعانق وتدعو أن أصبح عروسه.
ولم أكن أعلم أن حبّي الكبير والعميق له هو فراق مؤجل، وإدراك غيابه فريضة عشق عليَّ أن أؤديها في وقتها. عرفتُ أنه مرتبط بزوجة، وأبناء، حتى وإن ماتت العلاقة الحميمية بينهما من سنوات، كما قال.. لكنها ما زالت على ذمته، في بيته، داخل غرفة نومه وعلى سريره، وهذا الأمر بحد ذاته يجعلني شبه مجنونة، طبع سيئ ربما، لكن هكذا بروتوكولي في الحياة العاطفية، لا أحب أن أتشارك رجلي مع أخرى، غيرة تقتلني وهواجس تبتلع لوني وضحكتي وتسلب راحتي، وربما تجردني من قلمي.
ـ حبيبتي العظيمة، هناك نساء لا يأتين في حياة الرجل ألاّ مرّة واحدة، وأنتِ من كنت أحلم بها، سأخلص لكِ
ـ وأم أبنائك؟
ـ ستبقى كما هي، فقط بالاسم
ـ لا أتقبّل امرأة أخرى في حياتك، لن أقدر، لا أستوعب..
ـ وحبي لكِ؟
هنا كان لا بد من حسم الموقف وقلبي ينزف:
ـ لم تعد صالحاً للحب، هكذا أجبته بكل قساوة، لأجل أن يبتعد عنّي، بعد أن أيقنت أنه لم يعد لي، ثم جلست أبكي بحرقة لأنني تحطمتُ للمرّة الألف.
بعد أن رحل قررت أن أجلس مع نفسي لأحاسبها على كل قرار اتَخَذته بعيداً عن قلبي، عن كل إجحاف وضياع حلم.
فتحتُ جهاز الحاسوب، وباشرت بكتابة رسالة اعتذار وشوق ووله ومشاعر مختلطة:
ـ كيف تركتكَ ترحل وأنتَ الذي رَوضتَ الـ»لا» الجامحة التي كانت تقود مشاعري؟ كيف تركتك ترحل؛ وأنتَ تملأ تضاريس أيامي هياما؟ وتنقشُ فوق شفاهي الابتسام؟ أيها العظيم، يا سدرة الروح؛ امتلأتُ بك، هل تعرف ماذا يعني لي صوتك؟ وبماذا يمدّني وجودك في حياتي؛ أنهما تعويذتي من وحشة الدنيا. أغلقت الحاسوب بعد أن جففتُ لوحة المفاتيح من دموعي التي تساقطت عنوة وأنا أكتب..
وجلست انتظر الردّ.

*القدس العربي