يعيش ما يُسمى بـ “العالم العربي”، منذ أكثر من عقد، تفجرًا ثوريًا ضد أنظمة الحكم السياسية البالية التي ما كان لها أن تستمر أكثر من ذلك، بعد أن تجاوزها الزمن، وصارت أفعى التاريخ الطويلة جدًا والعملاقة بحاجة إلى تغيير جلدها لتتمكن من الاستمرار بالحياة. وإذ يحتدم السجال السياسي ثقافيًا، اليوم، بين “خطابات” حول إمكانية تسمية ما يحصل عندنا بالثورات أو الأزمات أو المؤامرات أو الفوضى، فإن هذه الخطابات تظل بدورها -بنظري- خطابات صورية شكلية ملأى بلغة سياسة الماضي ومفاهيمها وقيمها التي قامت الثورات ضدها. وبمعنى آخر: إننا نكون بذلك كمن يحاول إغراق مركب السياسة المتصدع بتحطيمه، من دون أن يعي، في لحظة الثورة ونشوة الهدم، أنه لا يزال على ظهر ذلك المركب، أو أن نكون كأولئك المسجونين الذين أرادوا التحرر من السجن فقاموا بحرقه غضبًا، دون أن يتذكروا أنهم لا يمتلكون مفاتيح الخروج منه. ولعل من الأجدى لنا الآن، في هذه المرحلة الثورية -سواء أكان الأمر متأخرًا أم سابقًا لأوانه- أن ننتبه إلى الدور الخطير، للغة ومفاهيم ومصطلحات السياسة، الذي تتولد عنه ممارسات سياسيّة خطيرة، ستحاول هذه السلسلة من المحاولات التفكيكية أن تكشف عنها.
قد يستخفّ البعض بهذه الدعوة إلى الثورة على لغة السياسة، واصفًا إياها بأنها مجرد لعب أو اهتمام بالثانوي على حساب الأساسي والمباشر، فما يصنع السياسةَ الحقة -وفق نظر كثيرين- هو القوة والتحالفات والسلاح والجيوش إلخ، فهي من تخلق لغتها وتفرضها على أنها حقائق، وإن الثورة على لغة السياسة، كالتي أطالب بها، هي كالثورة لتغيير غلاف الكتاب لعدم القدرة على المساس بمحتواه. ولعل نقدًا كهذا له حظه من الصحة، لكن لنعلم أن الثقافة -بما يجب أن تكون عليه- هي البديل عن لغة العسكرة والقتل والدمار، وهي الطريق البديل، وإن كان الأطول، عن لغة الدم والقتل والاضطهاد. لا يجب إذن أن تُفهم هذه الثورة على اللغة بأنها إلهاء للناس عن الواقع بألعاب اللغة، ولا سجن للناس في زنازينها، إنما غايتها الولوج إلى البيوت من أبوابها، لنعرف ما تُخبئه تلك البيوت فيها وما تحجبه عنّا. هي إذن محاولة للكشف والتعرية وإسقاط الأقنعة، ولوضع اليد على شبكة الخيوط التي تقود إلى اليد التي تحركها (وهي ليست هنا يد المؤامرة، كما قد يعتقد البعض سريعًا، إنما هي مكونات وبنى السياسة اللاواعية). إنه -بمعنى أصلب- بحثٌ في السياسة من الداخل، لا من الخارج. هو اشتغال على البنى والذهنيات المكونة للسياسة، وهو دعوة لإنشاء “وكيليكس” يكشف لغة السياسة، ويفضح خُبث مصطلحاتها أمامنا، ليسمح لنا ببناء لغة جديدة تتناسب مع هذا الواقع الثوري المتغير، وببناء حياة حرة جديدة. إنها عملية هدم بناءٍ لغويٍ مُتداع لتمهيد الأرض لبناء جديد. هي تحطيم لأصنام وقيم تعبدها السياسات القديمة، وإنشاء إنجيل جديد لسياسة جديدة.
لا شك في أن مثل تلك العملية التفكيكية والبنائية ليست اعتباطية، ولا يجب أن تكون كذلك، وإنما ستحاول أن تعتمد أدوات التحليل الفلسفي العملي التفكيكي والمعياري. إنها إذن تنطلق من وعي بمحدوديتها، فمحاولتي هذه لا تزعم أبدًا أنها ستؤسس لغة أنطولوجية أو ترانسندنتالية متعالية، وإنما مُصطلحات لها عمرٌ تموت بعده، أو تنحل في مفاهيم جديدة، وهي ليست لغة أبدية، فلا أبدية لشيء في السياسة، فاللغة كالأشجار تهرم وقد تتخشب ويتجاوزها الزمن وتمارس دورها في الحجب والتضليل.
تفكيك مفهوم الوطن:
لكي يصبح لدينا وطن، علينا أن نتحرر أولًا من المفهوم الكلاسيكي للوطن، كما وصل إلينا وورثناه، فصار الوطن سجنًا مفاهيميًا يناسب بلاد الموت لا وطن الميلاد. والتحرر يبدأ من اللغة، فمن مادتها تُصنع قيود المفهوم الأولى وحباله وحبائله. فاللغة تحجب، كما تكشف وتخفي، كما تُفصح وتسجن، كما تُحرر وتغسل العقول، كما تكشف لها.
نقول في العربية “وطن”، والوطن هو، بحسب (لسان العرب)، المنزل الذي يقيم فيه المرء ومحله. وأوطن المكان حلّ به. ولعل لهذه العبارة الأخيرة دلالتها الكبيرة، وهو ما سنعود إليه بعد قليل. بينما يحدد (القاموس المحيط) هذه الكلمة كما يلي: “منزلُ الإقامة، ومربط البقر والغنم”. ولنتوقف عند تعريف هذه الكلمة في (الصحاح في اللغة) الذي يُعرف الوَطَن بأنه “محل الإنسان. وأَوْطانُ الغنم: مرابِضها. وأَوْطَنْتُ الأرضَ، ووَطنْتُها تَوْطينًا، واسْتَوْطَنْتُها، أي اتخذتها وَطَنًا”. من الصحيح أن قواميس العربية مُحنطة، وقد تجددَ العالم، ولم نجدد نحن في لغتنا وقواميسنا، ولذلك تحنطت مفاهيمنا وعلاقتنا بالعالم والفعل فيه؛ فنحن مكبلون، باللاوعي، بلغتنا وسجونها. وقبل المضيّ في ذلك التحليل اللغوي، دعونا نرَى دلالة مفهوم الوطن، في بعض اللغات الأجنبية ذات الأصل الإغريقي واللاتيني؛ فكلمة patris الإغريقية، والتي تعني بلد الآباء، هي أصل كلمة patrie بالفرنسية التي تحمل المعنى نفسه، ومرادفاتها في الألمانية vaterland أو father land و birthplace في الإنجليزية. ولو قمنا بمقارنة سريعة للدلالة اللغوية لمفهوم الوطن بين اللغة العربية وهذه اللغات، لوجدنا أن مفهوم الوطن في العربية أكثر مرونة وفردية وشخصية، في علاقة المرء مع المكان الذي ليس ثابتًا هنا، وإنما قابل للتغيير والانتقال والسفر، فهو ليس فقط منزل المرء (بحسب “لسان العرب”) ولكنه أيضًا المكان الذي يحلُ فيه الإنسان، وهذا يعني أنه لا يرتبط بمكان الولادة ومسقط الرأس، وإنما يغدو الوطن أوطانًا تتعدد مع تعدد أماكن الترحال والسفر. ولعل هذا التعريف القاموسي القديم يتوافق مع حالة العربي البدوي المتنقل في الصحراء التي قد يجد فيها مواطن عدة، بغض النظر عن مكان ولادته أو أهله وأجداده، ولعلنا نجد في الأبيات الستة الأولى، من لامية العرب للشنفرى، أحد الأمثلة الكثيرة على الوطن القابل للتنقل والسفر مع العربي؛ فهو لا يعني هنا (هنا ليست ثابتة جغرافيًا) المركز أو الوتد الذي يشد “مُواطِنَهُ” إليه بقدر ما يصبح ظل المسافر ورفيق سفره. وطن العربي البدوي هو رمال الصحراء بتنقلها الدائم مع الريح وعدم ارتهانها للمكان الثابت الجامد. وهذا المصطلح القاموسي العربي للوطن لا يتوافق مع المعنى الذي تختزنه اللغات الأوروبية التي تعطي لمفردة “الوطن” دلالة تقليدية قديمة تدلّ على الأرض الثابتة والمكان القار الذي عاش فيه الآباء والأجداد. فهي بأصلها الإيتمولوجي، في اللغات الهندوأوروبية والأنجلوساكسونية، تعني الأرض التي دُفن فيها الأجداد فصارت مُقدسة، وصار هناك انتماء وجداني وحس بالانتماء للمهد والقبر الثابتين في المكان. هنا العلاقة ليست شخصية تمامًا بين الفرد والمكان، بل علاقة بالوكالة أو على درجة ثانية وثانوية، فهي الأرض التي ولد فيها الآباء وماتوا، ومن هنا جاءت تسميتها الإغريقية patris. بينما ليس وطن العربي (لغويًا على الأقل) أرضًا راسخة عاش عليها الآباء والأبناء فقط، إنما رمال متحركة، فالأرض تميدُ وتتحرك تحته وتنتقل معه، كلما سافر ورحل. انتماء العربي سابقًا كان إلى القبيلة والعشيرة التي تهاجر وتنتقل بدورها: “وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويتُ وإن ترشد غزية أرشدُ”. لكن “غزية” قبيلة وترتحل، فالانتماء هنا إلى رابطة عصبية نفسية ترتبط بالأصل والنسب والقرابة القبيلة لا للأرض والمكان أولًا.
من الطبيعي أن يُعاد تفصيل دلالة معنى الوطن، لتتوافق مع المرحلة التاريخية وعلاقات القوى التي تعيد خلقه بقدر ما تعلق هي بشباكه. هكذا توثق ارتباط الوطن بالمكان الجغرافي الثابت المُحدد بحدود في عصر الإقطاعيات الأوروبية. ففي العصور الوسطى، في فرنسا مثلًا، صار مفهوم الوطن يضيق ويتسع في اللغات المتداولة في تلك المنطقة آنذاك، حسب حجم الإقطاعية، فصار الوطن يعني حدود الإقطاعية، سواء أكانت إقليمًا أم “مدينة” أم حتى قرية. وكان من مصلحة السلطة السياسية آنذاك أن تعيد تفصيل اللغة والدلالة كسُلطة تسيطر بها ومن خلالها على الفلاحين، وذلك بربطهم بمفاهيم عليا تتجاوز هؤلاء وتتعالى عليهم، لكنها لا تعدو كونها وسيلة أداتية في يد الإقطاعيين ليدافعوا بها عن إقطاعياتهم، فسموها الوطن. في حين أن مفهوم الوطن في عصر النهضة تحول ليتلاءم، بل ليتطابق مع أرض الملك أو بلد الملك. هكذا طُوع مفهوم الوطن من جديد، ليوافق سلطة الملك الذي صار يحوز صلاحيات وسلطات تنافس سلطة البابا والكنيسة، محولًا “مدينة الله” إلى مفهوم مثالي سامي، لكنه في النهاية مفهوم سُلطة وسيطرة، فهو لا يعني في النهاية سوى أراضي الملك. بجعل الوطن مرة أُخرى قيمة عليا ومثالًا أخلاقيًا ساميًا، لا يكون الدفاع عن الوطن في تلك المرحلة أيضًا سوى دفاع عن أراضي الملك ومصالحه.
لا شك في أن نشوء البرجوازيات واختراع السكك الحديدية قد دك حدود الإقطاعيات، ووسع مفهوم الوطن، فنشأت أحلام غربية برجوازية المنشأ (ومنها فلسفة ماركس نفسه) بقيام دولة المواطنة العالمية، كما تجلى ذلك في دعوة كانط من قبل لتحويل الأرض إلى ملكية عامة لجميع البشر، أو كما سُمع ذلك في نداءات ماركس المستقبلية لأممية شيوعية. مع ذلك، كان للتشريع السياسي القانوني كلامٌ آخر؛ ففي مقابل “أحلام” كانط وماركس، على سبيل المثال، بمواطنة عالمية أو أممية كونية، كانت فكرة هيغل “الموضوعية” حول الدولة القومية هي التي اتخذت أشكالًا سياسية قانونية في الغرب، تحت مسميات الدولة/ الأمّة. وصارت الدولة/ الأمة وطنًا، وقد تخفف كثيرًا من كوليسترول الأيديولوجيا والتعصب للمكان والحدود الجغرافية. في هذا المنحى، نفهم مقولة ماركس “ليس للرأسمال وطن”، بوصفها تعبيرًا عن واقع ورغبة البرجوازيات والإمبرياليات الغربية في مط ومد مفهوم الوطن، ليترافق مع التوسع والامتداد وإخضاع “أوطان” أُخرى واحتلالها، فصار الاحتلال والإمبريالية مفاهيم وطنية سامية.
أُعيدَ تكبيل مفهوم الوطن وخنقه بالشعارات الكُبرى والقيم “السامية”، في العصر الحديث، مع نشوء الفاشيات الغربية، وبخاصة في ألمانيا النازية. فراحت الفاشيات على اختلافها بما فيها، وبخاصة النازية والستالينية، تغسل عقول الناس بمفهوم الوطن والوطنية، خدمةً لحروب كانت تشتعل باسم الهويات والمصالح؛ فصار هناك تركيز أيديولوجي، عبر “التعليم” المدرسي، ومن خلال الصحف، لجعل الولاء للوطن ولاءً مُقدسًا يتعالى على الفرد الذي يُصبح أسمى ما يفعله هو الموت في سبيل هذا الوطن الذي لم يكن في النهاية سوى ميدان لحرب الهويات والمشاريع القومية للغرب الإمبريالي. مرة أخرى، لم يكن الوطن هنا سوى أداة سُلطة؛ فباسمه قُتل عشرات ملايين الأوروبيين الذين التهبوا بفكرة الشهادة لأجل الوطن، كقيمة عليا مطلقة فوق المصلحة الفردية الخاصة والحياة الشخصية للفرد. حتى إن الاتحاد السوفيتي سنّ عام 1834 عقوبة الإعدام للخيانة العظمى، أي خيانة البلد، حيث تنص العقوبة على معاقبة جميع أفراد عائلة من اعتُبر خائنًا للوطن. هكذا صار الوطن فوق الفرد، وفوق الحرية الفردية، بل فوق إمكانية مناقشة مفهومه، التي كانت تعدّ “خيانةً عُظمى للوطن”. في الفاشيات، صار الوطن أداة للسجن والتعذيب والملاحقة، وتمت إعادة مواءمته وتفصيله على قدر مصالح السلطة الحاكمة، حيث اختُزل إلى الدولة، فالحزب الحاكم، فرئيس الدولة الذي صار هو الوطن، وصار الاعتراض على سياساته خيانةً كُبرى للوطن تستحق الإعدام.
ما الوطن، إذن، بعد هذه الخلخلة للمفهوم المقدّس، بل تحطيم صنم الوطن الذي سحق الإنسان وحريته واستُخدم عبر التاريخ كأداة في يد السلطة؟ هل يمكن أن يحيا الإنسان بلا وطن؟ بلا هوية وطنية؟ بلا انتماء إلى أرض وناس ودولة؟ ربّما نعم، بل إن هذا ما يجب أن يكون. وقبل أن أنساق في الحلم الكانطي في سطح الأرض، بوصفه وطنًا لجميع البشر، سأكون واقعيًا وأقول: الوطن -كما أراه- هو مُصطلح رمزي لهوية سياسية لدولة/ أمة، ومن الصعب، بل من العبث التخلي عنه، فنحن بحاجة إلى مُثل وقيم عُليا، على أن تُعرّى من كل زيف الأيديولوجيات والمصالح التي تُستخدم وتوظف لقتل الناس دفاعًا عن المصالح والقوة والنفوذ. إن الإجراء التفكيكي الذي أدعو إليه يقوم على قلب قيمة الوطن، لتصبح كما كانت عند العرب، قديمًا، رفيق الدرب وظل المسافر، يرتبط بالإنسان ولا يربطه. وبمعنى آخر: لا توجد قيمة أعلى من قيمة الإنسان، فهو قيمة القيم ومصدرها، كما ذهب إلى ذلك بروتاغوراس، ولا يجوز أن يُطوّع ليتواءم مع مفهوم وطن مسبق الصنع، صنعته له جاهزًا سلطات الاستبداد لتحرقه، كلما اقتضت مصالحها ذلك، ثم تعوضه بلقب وبصورة أو بعنزتين، كما يفعل النظام السوري مع من يعدّهم شهداءه. الإنسان هو الوطن، هو الجسد، وليس الوطن سوى الظل، والعكس غير صحيح. لكي يكون هناك وطنٌ بخير، يجب أن تكون قيمة الإنسان فوق قيمة الوطن. وبمفردات أقل تجريدًا وأكثر سياسية وقانونية، أقول: المواطن هو أصل الوطن، لا العكس. الأول يخلق الثاني، والعكس غير صحيح، إلا في الفاشيات التي لا تنظر إلى الوطن في النهاية إلا كما قدّمه لنا (القاموس المحيط)، بوصفه “مربط الغنم والبقر”. لا يكون الوطن بخير إلا في دولة المواطنة وحقوق الإنسان؛ لأن الإنسان هناك يكون بخير.
(مركز حرمون)