حسين جرود، شاعر وكاتب سوري
مجلة أوراق – العدد 14
النقد
قد لا تقارن رواية أمين معلوف الأخيرة بأعماله الأشهر كصخرة طانيوس وسمرقند والتائهون… تلك الأعمال التي نالت جوائز أو حققت شهرة استثنائية وما زالت تحصد الإعجاب حتى الساعة، فهل تمثّل تراجعاً من ناحية الفن الروائي وغزارة المادة التاريخية أم أن الأمر أبسط من ذلك وقد كتبها ليطرح أسئلته الفكرية التي تجلّت في كتبه ولا سيما الأخير (غرق الحضارات)؟
يرى الكاتب محمد سعيد احجيوج أن أمين معلوف يخاطب هنا جمهوراً شاباً جديداً، يريد منه أن يحمل مشعل إنقاذ البشرية، لذا اختار بناءً روائياً غير ما اعتاد، ولعل ذلك هو سبب التعليقات غير الراضية على عمله.
منذ الجمل الأولى نرى قلق الحضارة الحديثة: “ارتعش مصباحي الذي تبلغ قوته مائتي واط في السقف مثل شمعة كنيسة هزيلة، وانطفأ”. ما هي المخاطر التي تتهدد عالمنا وحضاراتنا؟ هل تستمر أمريكا بدورها الذي تورطت فيه شرطياً لهذا العالم بعد أن تقاعست عن مد يد العون لمن هزمتهم وبقيت وحيدة؟
الاتصال والعزلة أرق يلازم الشخصيات، سواء اتصال الجيران ببعضهم أو الدول أو الحضارات أو القيم المختلفة.
“يبحر الرجال، لأسابيع وأشهر، وتبقى النساء سيدات منازلهن. ينسى الرجل عادة العيش مع زوجة، وتنسى المرأة عادة إطاعة الزوج. وعندما يعود زوجها، يجد المنزل قد ضاق للغاية، فيهرب الرجل”، ويتساءل بطل الرواية إنْ أحبّ جارته وفشل الأمر ألن تتحول جنته إلى جحيم.
ألكسندر رسام كندي، يعيش بسلام على جزيرة أنطاكية التي ورثها عن والده، وتقع في أرخبيل مُتخيَل في المحيط الأطلسي. في ذلك المنفى الاختياري لا يعكر صفو حياته شيء، حتى إيف سان جيل جارته الوحيدة، التي نشرت رواية وحيدة بعنوان: “المستقبل لم يعد يسكن على هذا العنوان”، حققت مبيعات هائلة حتى طغت عليها، فجاءت إلى هذه الجزيرة بدورها بحثاً عن العزلة، فهي من “صنف الكتاب الذين لم يؤلفوا سوى رواية نالت نصيبها من الشهرة، ثم أمضوا حياتهم بطولها يحاولون تجاوزها، والتفوق عليها، من غير أن يدركوا مبتغاهم”.
انحاز ألكسندر إلى الهدوء والتأمل، بينما تعود عزلة إيف إلى كرهها البشر، فالعالم -كما تراه-أصبح ساحة معركة، كل ما فيه ملوّث، وتتمنى لو تعيش لترى الانحلال النهائي لحضارتنا، وتتساءل في كتابها: لو رأى البشر مستقبلهم هل سيعرفونه حقاً؟.
الأعطال التقنية في الكهرباء ووسائل الاتصال والبث، تخرجهما من عزلتهما ليسألا عما يحدث يعتقد ألكسندر أن حرباً نووية قد وقعت، خصوصاً أن الولايات المتحدة قد قررت قبل بضعة أيام إثر تفجير نووي إرهابي قرب واشنطن، تدمير رؤوس نووية نصبها في القوقاز مارشال الروس وتبنّى عملية التفجير.
بينما تأخذه التكهنات ليتذكر أخبار الشهور الماضية، يتبين بعد اتصال مع صديقه القديم مورو -مستشار الرئيس الأمريكي- أنّ عملية تفجير الرؤوس لم تتم بسبب تدخل طرف ثالث مجهول.
الغرباء غير المنتظرين هم من تدخل لمنع سارداروف من استعمال الصواريخ ومنع الولايات المتحدة من الرد عليه.
الغرباء يعرفون كل شيء عنا، ولا نعرف شيئاً عنهم، من أين أتوا؟ ومن هم؟ وما هي أهدافهم؟
إنهم أصدقاء أمبيدوقليس، وجميعهم يحملون أسماء يونانية، لأنّهم يبجّلون المعجزة الأثينية التي حققت تطوراً مدهشاً في ميادين العلوم والفكر. عندما خفتت شعلة تلك المعجزة، قرر أسلافهم المحافظة على قيمهم، فهذه المجموعة السرية تراقب كل ما يتهدد كوكبنا. فهل تدخلت من قبل أم أن هذه المرة الأولى؟
أصدقاء أمبيدوقليس أتوا من مكان غير محدد، وبعضهم يعيشون بيننا لكنهم مسالمون، نبلاء، حكماء. ليسوا بحاجة إلى أسلحة فتاكة لإجبار البشرية على تنفيذ طلباتهم، فيكفي أن يقطعوا الخدمات الأساسية عن سكان الأرض، ويضعونهم في مواجهة عجزهم، تلك هي أسلحتهم.
الطب المتقدم الذي أتى معهم والمستشفيات العائمة، يؤدي إلى قلب سلم الأولويات والقيم في كل أنحاء العالم، ولا عجب في ذلك، فحين نصبح قادرين على هزم المرض والشيخوخة والموت، يتغير سلم الاولويات، وكل ما يتحكم بمجتمعاتنا اليوم يغدو هامشياً.
يسخر معلوف من روايات الخيال العلمي التي تأتي بالفضائيين ويقول لو قدِم الفضائيون سيكون اللقاء بيننا أقصر مما يُتوقع.
هذا العمل لا يشبه “1984” أو “العمى” أو أفلام الديستوبيا الأمريكية – رغم تأثره بمثل تلك الأعمال- فهنا لا رعب مجاني ولا شيء فوق الواقع أو نبوءات مستقبلية بل تستمر الشخصيات بممارسة حياتها اليومية مع بعض التغيير.
أمين معلوف يستشرف المستقبل لكن بدلاً من تخيل وباء قادم أو كائنات فضائية يكون القادم جزءاً من البشرية موجوداً منذ عصور ولا نريد أن نراه، إنه سؤال البشرية الحالي عن إمكاناتها ووجهها الآخر، ونتوقّف قليلاً مع ابن الفارض:
“وكتمته عني فلو أظهرته
لوجدتُه أخفى من اللطف الخفي”.
نعم ينتهي الأمر بذهاب الغرباء الذين من الأفضل لهم أن يبقوا غرباء.
الديستوبيا هي حياتنا الحالية، والغرباء ليسوا مثل البرابرة -في تلك القصيدة- بل هم جزء خفي من البشرية وإمكانياتها وقيمها الأصيلة الساعية إلى الإخاء بين البشر وهزيمة الموت.
تستغرق هذه الرحلة الفكرية شهراً كاملاً، تبدأ بوصول الغرباء وتنتهي برحيلهم تاركين حضارتنا أمام أسئلتها من جديد. يتخيل ألكسندر كل ذلك في جزيرته المهجورة ويكتبه في يومياته، ليجيب عن أسئلته التي ولدها عمله في الكاريكاتير السياسي وعيشه وحيداً بجانب جارة منعزلة تنتظر المستقبل بقلق.
*****
عنوان الكتاب: أخوتنا الغرباء
الناشر: دار الفارابي – بيروت 2021
المؤلف: أمين معلوف
عدد الصفحات: 325