بينما عثرتُ على أرشيفٍ فوتوغرافيٍّ فرنسيّ لدمشق في فترة الانتداب.. استعدتُ به دمشقَ ما قبل انقلاباتِ العسكر؛ كتب أحدُ الأصدقاء على صفحته الفيسبوكيّة؛ قولاً.. قِيلَ بأنّه للحجَّاج بن يوسف الثقفيّ عن أهل الشام:
“لا يَغُرنّك صبرُهُم؛ ولا تستضِعف قوّتهُم؛ فهُم إن قاموا لنُصرة رجلٍ ما تركوه.. إلّا والتاجُ على رأسِه؛ وإن قاموا على رجلٍ ما تركوه.. إلّا وقد قطعوا رأسَه؛ فانتصروا بهم.. فهم خيرُ أجناد الأرض؛ واتقِ فيهم ثلاثاً:
– نساءَهُم.. فلا تقربهُم بسوءٍ وإلّا أكلوك كما تأكل الأسودُ فرائسَهَا.
– دينَهُم.. وإلّا أحرقوا عليك دُنيَاك.
– أرضَهُم.. وإلَّا حاربتكَ صخورُ جبالهم”.
فإذا كان القولُ للحَجَّاج.. فِعلاً؛ فهو من عصر ازدهار الحقبة الأمويّة في دمشق؛ ويعني أنَّ دمشق أُتِيحً لها في التاريخ مرّةً.. أن ترفعَ شخصاً كمعاوية من والٍ عليها.. إلى خليفةٍ للمُسلمين آنذاك؛ أسَّسَ فيها لأولِ امبراطوريّةٍ عربيّةٍ وراثيّة في التاريخ.
والمُفارقةُ.. أنّ لا شيءَ يستديمُ في دمشقَ منذ مملكة آرام دمشق.. فبعدَ أقلَّ من 90 عاماً؛ لم يبقَ للأمويينَ من أثرٍ فيها.. سوى “صقر قريش” الذي نجا من المذبحة العباسيّة؛ عابراً كلَّ الولايات التي كانت أمويّةً.. ليستقرَّ ملكاً على الأندلس؛ ثمّ.. خليفةً؛ ليصيرَ فيما يُسمّى العالم الإسلاميّ.. خليفتان: أحدُهما في الأندلس؛ والثاني في بغداد؛ ولتفقد دمشقُ.. مركزيَّتَها؛ فتعودَ كما كانت على مدى تاريخها: مدينةً مُتنازَعاً عليها.. ما بين كُلِّ امبراطوريتَين؛ وما بين كلِّ مملكتَين؛ وما بين كلِّ غازٍ لها.. وبين كلّ طاغيةٍ عليها؛ لا تختلف مصائرُ حلبَ عنها؛ ولا.. كلُّ حواضرِ بلاد الشام.
لم يتسنَّ لدمشق أن تستقلَّ بنفسها أكثرَ من بضعة عقودٍ في التاريخ؛ ولطالما حكَمَهَا على التوالي.. أحدٌ مِن غيرِ أبنائها.
ولم يحدث أن نشأ فيها وفي كلّ بلاد الشام.. حُكمٌ مركزيٌّ مديد؛ كالفراعنة في مصر؛ أو البابليين والآشوريين؛ أو.. كالرومان والفرس.. الخ. وسنَجِدُ أنّ كلَّ ممالك بلاد الشام المُتناثرة؛ لم تتحِد في حُكمٍ مركزيّ؛ كما لم يمتدّ الدهر بها؛ بدءاً.. من مملكة ماري على الفرات؛ إلى مملكة إيبلا؛ إلى أوغاريت؛ فعمريت؛ وأرواد؛ فصيدا؛ وصور؛ ويافا؛ وعكا؛ وليس انتهاءً.. بمملكة الأنباط؛ أو أريحا في كنعان الفلسطينية؛ إلى آرام دمشق؛ ومملكة يِمحَاض؛ ومملكة تدمر.. وسواها؛ حتى أن بعضَ هذه الممالك استعانت بالغُرباء ضدّ شقيقاتها؛ وبعضُها الآخرُ.. رَهَنَ سيوفَهُ كلُّها عند الآخرين!.
وقد تضاءلت بلاد الشام على مَرِّ العصور.. فبعد أن كانت تمتدُّ من سفوح طوروس إلى طور سنين في سيناء؛ تقلّصَت.. حتى صارت دمشقُ هي الشام.. تسميةً واصطلاحاً؛ والشامُ هي دمشق.. مجازاً واستعارة.
على أن أبناءها.. أيضاً؛ قد تغيّرت تركيبتُهُم مِرَاراً؛ بحيثُ لم يبقَ من أبنائها الآراميّين.. سوى ثلاثِ قرًى في قلمون الله؛ تنطِقُ بالآراميّة؛ وتغيَّرت فيها أيضاً.. نسبةُ أبناءِ عمومتهم: العرب الوافدينَ إليها تحت راياتِ دينٍ جديد؛ حتى لم يبق شعبٌ في هذا الشرق مِن المتوسط إلى الصين؛ إلّا.. ولهُ عائلةٌ فيها؛ قد تدمشقَت وتشوَّمَت؛ كحالِ الذين انجذبوا إليها ترحالاً من كلِّ المناطق السورية بلا استثناء؛ حتى غَدَوا دمشقيين.. هوًى وهياماً بها؛ أو وافدينَ إليها.. بكراهيةً مُستَتِرِة لها!.
وبالعودة إلى قَولِ الحجّاج إذا صحّت نِسبَتُه إليه؛ سنجِدُ أن جملة “واتقِ فيهم نساءَهُم.. فلا تقربهُم بسوءٍ؛ وإلّا أكلوكَ كما تأكل الأسودُ فرائسَهَا. ” قد تمَّ تدميرها مراراً في طوابيرِ مُسلسلاتٍ مثل “باب الحارة” وسِوَاه؛ حين تمَّ طبخُهَا في دهاليز فرع المعلومات الأمنيّ الأسديّ.. لتبدو نساؤها: مجرَّدَ ثرثاراتٍ.. بارعاتٍ في حَبكِ الدسائس الصغيرة؛ سجيناتٍ.. في “غيتو” اجتماعيٍّ مُنغلقٍ على نفسه؛ لا وجودَ لهنَّ في الحياة العامة؛ ولا.. في المدارس؛ ولا.. في المظاهرات ضدّ الفرنسيين؛ ولا.. في النوادي والجمعيات؛ ولا.. في المؤتمر النسائيّ العربيّ الأول الذي عُقِد في دمشق الثلاثينيّات من قرنٍ مضى!.
هكذا.. ستغدو دمشق على يدِ غُزاتها وطُغاتها؛ أحدَ أمرين: كلعنة أمويّة؛ أو.. كمجازٍ شعريّ؛ وكفِردَوسٍ.. فقدناه قبلَ الأندلس بكثير؛ وكعاصمةٍ.. لم يُتَح لها أن تُكملَ استقلالَها الأول 1919 حتى احتلّها غازٍ جديد؛ مع الإشارة إلى أنها استجلَبَت مرَّة أخرى من الجزيرة العربيّة مَن سترفعه مثلَ معاوية.. ملكاً عليها: فيصل الأول؛ ولم تستكمل دمشق استقلالها الثاني ؛1946 حتى اختطفتها انقلاباتُ العسكر.. وأغلبُهم: من غير أبنائها أيضاً؛ ثمّ صدّقَ حافظ الأسد بأنه: معاوية الثاني!؛ فأنشأ فيها أول جمهوريّةٍ وراثيةٍ في دنيا العرب.
كان معاوية قد سَوَّرَ دمشق بجُندِهِ وعَسَسِه؛ ثمّ سَوَّرَهَا الأسدُ الأبُ بشبِّيحَتِهِ وبمُخبِرِيه؛ ثمَّ جلبَ لها ابنُهُ كلَّ الغزاةِ.. أجمعين.
“دمشقُ الحرائقُ” هذه.. احترقت فيها كلُّ أطيافِ السوريين؛ وكلٌّ يخالُ أنّه قد نجا بنفسِهِ مِن حرائقِهَا.. دونَ الآخرين!.
وإذا كان أهلُ دمشق/ الشام.. بحسب الحجَّاج: “إن قاموا على رجلٍ ما تركوه.. إلّا وقد قطعوا رأسَه”؛ فإنَّ طاغيةً مثل بشار الأسد.. سيكون أولَ طاغيةٍ في التاريخ.. يُطِيحُونَهُ؛ لتستردَّ دمشقُ مجازَهَا الشعريَّ في التاريخ!.
بالنسبة لي.. دمشقُ هي الشام كُلُّها؛ دمشقُ المكانُ/ الزمانُ؛ دمشقُ المُشتهَاةُ.. كأندلسٍ شاميٍّ مفقود؛ ثمَّ لن أجِدَهَا.. سوى كمجازٍ شعريٍّ في الأغنيَّات التي لحَّنها الأخوين رحباني عنها.. وغنّتها فيروز؛ وفي قصص زكريا تامر؛ وبالطبع.. في قصائد نزار قباني؛ حتى يغُصَّ القلبُ حين يرى مصيرَ بيتِ عائلته في حيّ مئذنة باب الشحم؛ يرثي فيه شعاريرُ المُمَانعة قاتلَ السوريين: قاسم سليماني!؛ بينما يستبيحُ العباسيّون الجُدد شامنَا باللطم بعدَ سفك دمائنا؛ بذريعةِ مقتلِ الحسين؛ ولكن.. بعدَ أكثرَ من ألفِ عام؛ وكأنَّ سُكّانَ دمشقَ اليومَ.. هُمُ من سلالة الأمويّين المُندثرة؛ وما يزال يزيدَ.. يحكمُهم بعد موتِهِ بالسيف والإتاوات!.
أحياناً.. ألمحُهَا خطفاً في أحجار كنيسة حنانيّا؛ وتارةً.. في باحة جامعِهَا الكبير؛ الأثر الأمويِّ الوحيد الذي نجا من تدمير دمشقَ الأمويّة كلّها على يد العبّاسيين؛ ثمّ ألمحُ في جِدَارِهِ الجنوبيِّ طبقاتِهِ الثلاث: حين كان.. كنيسةً؛ بعد أن كان معبداً لجوبيتر الرومانيّ؛ أمَّا أولُ تجلٍّ له.. فكان في معبد حَدَد بعل.
ألمحُ دمشقَ.. أحياناً: كسَلَّةِ القَشِّ تتدلّى من سور دمشق العتيق في عتمة الليل؛ يُمسك بحِبَالِهَا آراميُّوها بصبرٍ.. لينجو “بطرس الرسول” من بطشِ الرومان به.
لولا دمشق.. ما انتشرت المسيحيّةٌ من دمشقَ إلى روما؛ ومن دمشق إلى القوقاز؛ فالهند.. على يد الآباء السريان الأوائل.
لولا دمشق.. أيضاً؛ ما انتشرَ الإسلامُ من الأندلس إلى الصين.
كلُّ ما لا يمرُّ مِن بينِ يَديّ دمشقَ وعبر أنهارها السبعةِ.. لا يُعوَّلُ عليه؛ ومن ذلك أيضاً.. ضمن نقائضها زمفارقاتها؛ أنها قد صَدَّرت موضة الانقلابات العسكريّة للآخرين في شرقٍ وجنوب؛ منذ أول انقلابٍ فيها عام 1949 على الدولة المدنيّة الديمقراطيّة الوليدةِ ولمّا تبلغ الثالثةَ من عُمرها القُصير؛ كما أطاحت انقلاباتُ العسكر المتواليَةُ بأولِ دستورٍ كتبَهُ السوريون بأنفسهم عام 1951؛ وبالبرلمان السوريّ فضاءً ديمقراطياً؛ وحتى بالنقابات؛ وبالصحافة الحرّة؛ وبالجمعيّات والنوادي؛ وبكلّ أنواع الحِرَاك المدنيّ حتى ترسّخ الاستبدادُ المُقيمُ في الحقبة الأسديّة؛ ولم يكد ينتهي.. سوى بدمار كلّ سوريا وبقتل السوريين وتهجيرهم.
كلُّ ما يُخفِقَ في دمشق.. أيضاً؛ لن يُزهِرَ في الشرق من جديد؛ كما قد حصل فيها.. مع ربيعنا العربيّ؛ بعد احتوائه وحَرفِهِ عن مساره الوطنيّ الديمقراطيّ.
يا لَدِمَشقِنَا.. حين لا تكاد تنهضُ من رمادهِا؛ حتى يتمَّ وَأدُهَا من جديد!.
ومع ذلك؛ ألمحُها أحياناً.. كصبيّةٍ في ربيعها؛ تعبرُ ما تبقى من أبوابها: من باب توما.. تارةً؛ ومن.. باب الجابيّة؛ أو من باب كِيسَانَ؛ ومن الباب الشرقيّ إلى غوطتها.. لتتفقدَ ما حلَّ بزُنَّارِهَا الأخضر.. من دمارٍ ودماءٍ وتهجيرٍ مُمَنهَج.
ليس في دمشق اليومَ.. أمويٌّ واحدٌ؛ مِنَ الذين نقلوا قولَ الحجَّاج عنها؛ وليس فيها.. سوى ما ترَكُهُ فيها: المماليكُ والأيوبيّون والعثمانيّون.. ثمّ الفرنسيّون؛ وسوى.. ما دمَّرَهُ منها الطُغاةُ؛ لم يجلبوا لها.. إلّا الغُزَاةَ في كلِّ حين.
ليس في دمشق.. سوى حكاياتنا عنها؛ وسوى.. أحلامِنَا الموءودةِ فيها؛ وسوى.. سطوةِ القهر الذي تجرَّعَتهٌ الشام على مَرِّ السنين.
حتى غوطتُهَا تلاشت: غربيةً وشرقيةُ؛ وغاضت فروعُ أنهارهَا السبعة؛ حتى شَفَّ مجرَى “بردى” عن هُزَالِهِ؛ وهاجرت السنونو عن واديهِ؛ كما.. عن منبعِه؛ لم تبق بعد اضمحلالِ ثلُوجِهِ البيض.. سوى مرابضُ المدفعيّة والصواريخ الأسديَّة.. حولَ قِمّةِ “النبي هابيل” كلّما قتل قابيلُ أخاهُ السوريّ!.
ليس هذا.. رثاءً لدمشق؛ بل.. استنهاضٌ لها؛ ولِمَن تبقّى من أبنائها؛ ومن عُشّاقها.. يتوارون خلفَ الصمت أحياناً؛ ليُحافظوا على ما تبقى مِن شآمِهِم؛ ومِن.. غوطتهم؛ التي استلبتها انقلاباتُ العسكر: استبداداً وفساداً؛ ودَمَّرَها معنوياً ثمّ.. مادياً؛ وطوالَ عقودٍ: نظامٌ دمويٌّ؛ لا يختلفُ عن الممالكِ التي استباحت بلاد الشام عبر التاريخ؛ وقد أعلنَت الولاءَ مرَّةً.. للقيصر؛ ومرّةً.. لكسرى؛ وفي كلّ مرّةٍ.. لغيرِ السوريين!.
كم تليقُ الحريَّةُ بدمشقَ.. لتعودَ عاصمةً لكلّ السوريين.
خاص بالموقع