دفــــــــا

0

فكرة: أديب رزوق

كتابة: رافي ميناس، قاص ومسرحيّ وممثّل من سوريا، مدرّب في مجال المسرح التفاعليّ.

أوراق 19- 20

القصة

عاد فريد إلى شقّته الصغيرة التي ورثها عن أهلهِ، بعد أن دفع أجرتها شهراً مقدماً؛ عالماً بأنه الشهر الأخير الذي باستطاعته جمع المبلغ.

تعثّر فريد بشخصٍ نائم فوق الرصيف وبكيس قمامة كبير بلون الظلام. صعد الأدراج مستنداً إلى الجدار حتى وصل إلى الطابق الرابع..

جلس على الأريكة المهترئة، بعد أن خلع حذاءه المهترئ وصفّح نفسهُ بثلاث بطانيات؛ إحداها حملت صورة نمرٍ هندي مخيف. لم يكترث فريد لمخالب النمر ولا للظلام، ولم يقو حتى على لعنهِ. بل لعن البرد والذلّ ومخللات أم رضوان. فلو سمعت أم فريد نصيحة أم رضوان في مشاركتها في صناعة المخللات، لكان فريد وأمه -التي ماتت منذ أشهر- لكانوا الآن في هولندا، يُخلّلون كل شيء؛ حتى الموز!

نظرَ إلى “صندوق الحريق” فرآه فارغاً. أعتاد فريد على جمع أي مادة حارقة من ورشات الخياطة والنجارة؛ حتى كان يجمع أطباق البيض الكرتونية الفارغة من معامل الحلويات، يضعها في ذاك الصندوق؛ ليشعلها فيما بعد بدلاً من المازوت المفقود.

أخرج فريد سيجارة من جيب معطفه بيدٍ مرتجفة وراح يبحثُ عن الولّاعة في جيوبه الفارغة. أشعل ولّاعته الصينية فاندهش من نورها، فرح لدفء نارها الصغير. اعتذر من النار لإهماله لها في كل مرة كان يستخدمها.

ظلّ فريد مُشعِلاً ولّاعتهُ الصينية متأملاً النار، متأملاً ظلال الأشياء الساكنة وهي تتراقص مع خصر اللهب. ضحك لرؤية المدفأة الجالسة بوجهٍ غبي دون أي نفع، باردة، ميتة. أخذ الورقة التي على الطاولة، عانقها مع النار الصغيرة، ثم هبّ من تحتِ أنياب النمر، فاتحاً أنياب المدفأة ورامياً بالورقة إلى جوفها.

أمسك كتاباً عن التنمية البشرية ورماه طعاماً شهياً للنار التي أخذت تكبر. ضحك فريد لرؤية المدفأة تضحك مجدداً في بيته. أفرغ مكتبته الصغيرة التي صنعها أيام الجامعة؛ وراح يرمي الكتاب تلو الآخر في النار كهولاكو…

أخرج ألبومات الصور، وراح يضحك مع بعض الدموع التي لمعت في جحر عينيه. أهدى ذكرياته وطفولته ثمناً للدفء…

أحضر ثياب أمّه التي مازالت معلّقة في الخزانة الخشبية؛ وأحضر الخزانة أيضاً، ثم لوّنهم جميعهم بلون النور…

راحت الأشياء تعانق النار طلباً للدفء، طلباً للحياة مجدداً؛ بينما كان فريد يرقص كالمجنون فرحاً مستمتعاً بكل هذا النور والدفء… فتح باب الشرفة وصار يصرخ “دفاااا.. دفاااا” ليجمد في مكانه مبتسماً ابتسامة طفولية.

كانت النار تخرج من معظم البيوت، من كل الشرفات، كانت المدينة منيرة جداً ، دافئة جداً لا من الشمس التي استيقظت للتو. كانت المدينة تحترق، لكنها دافئة، كما كانت من قبل “محترقة ودافئة” لكن بصمت…!