خيري الذهبي: في الحزن الشركسي

0

كانت بدايات العلاقة شبه الرسمية بين الشرق الأوسط والقوقاز في فترة سيطرة المماليك على مقدرات الحكم والسلطة في بلدان الشرق الأوسط، حينما لم تكن فكرة القوميات العرقية، أو التشدّد الديني، مسيطرة على الفكر الشعبي في عظائم بلدان الشرق العربي، وشرق المتوسط، مثل سورية (بلاد الشام)، والعراق، ومصر، وجزيرة العرب.

العلاقة بين الكتلتين البشريتين والتاريخيتين قديمة وعميقة ومتأصلة منذ قرون وعهود سابقة، ولعقود لاحقة. وللطرفين دور كبير في تاريخ بعضهما بعضًا، بالتأثير المتبادل، والشراكة الهائلة، التي امتدت من بلاد القوقاز الكبير، الإسلامية منها (داغستان، والشيشان، وأذربيجان، والكورج، والشركس، والبلقار، والأبخاز، والبشكير، والأنغوش، والأديغا)، والمسيحية (الأرمن والجورجيون). لقد أثرى كل طرف منهما تاريخ الجنوب الشرق أوسطي، العربي والآرامي والسرياني.. وهذا حديث يطول له مقام آخر، ومقال مفصّل.

في كتاب “الدرة المضية في أخبار الدولة الظاهرية” 1387 ـ 1397، وهو كتاب تاريخ شعبي، وهذا مكمن الجمال والصدقية فيه، يحدثنا الكتاب عن أحداث انقلاب المماليك الشراكسة على المماليك الترك. هذه اللحظة كانت لحظة تاريخية مفصلية تالية لمقتل السلطان برقوق، وانتصار المماليك الشراكسة وإمساكهم بالسلطة بشكل تام، في بلاد الشرق الأوسط كاملة.

يقول الكاتب: (فأحرقوا في ذلك اليوم حريقًا كبيرًا في الشاغور، واحترق فيه شارعان، وأحرقوا زاوية باب الصغير، وقد عاينت أهل دمشق الهلاك في تلك الشهرين، أو الثلاثة، حصار، وخوف، وغلاء، وبرد، وقلة ماء، فنسأل الله العافية والعفو، عما أذنبنا به ليبتلينا بكل هذا الخراب!!).

تاريخيًا، اعتمدت دولة المماليك على مدد قوافل المخطوفين القادمة من الشرق لإضافة دم جديد إلى الجسم الحاكم. في ما بعد، أوقفت الدولة العثمانية مدد المماليك الجدد إلى القاهرة المملوكية، فماتت القاهرة المملوكية بالضربة البطيئة.

واقترحت شكلًا جديدًا لتزويد الجيش بالدماء الجديدة، والإدارة العليا بالمفيدين من دون دم قديم فاسد، فاخترعت نظام “الدفشرما” بديلًا من نظام قوافل المخطوفين المستوردين من القفقاس.

كان نظام الدفشرما يعتمد على الحظ، ففي كل عشر سنين كان يمر الموظف العثماني على قرى البلقان والقوقاز ودساكرها، يستعرض الفتية من سن العاشرة فما دون، ثم ينتقي الأقوى، والأذكى فيهم، ويكون من عُشر الفتيان المولودين في تلك الفترة… ثم يحملون إلى إسطنبول، فيعلمون الدين والكتابة، والحساب، والهندسة، والفنون الحربية… وكان منهم من يصل إلى منصب الصدر الأعظم، وإلى القائد العام للقوات المسلحة، وإلى كبير الياوران في القصر…!!

على الرغم من إمكانية تحول هؤلاء المخطوفين من الأطفال في ما بعد إلى قادة، أو وزراء، أو مستشارين، إلا أن الحزن الناجم عن فقدان العائلات لأولادها، وإحساس الأطفال الهائل بالفقد، وانعدام حنان الأهل، والتربية الطبيعية، وفقدان حقوق الطفل، أثرى الوجدان الشركسي/ الأديغي بكثير من الأغاني والأشعار التي كانت الأمهات ترددها في وصف فقدان أطفالها.

في كل عام، وفي الحادي والعشرين من شهر مايو/ أيار، يحيي الشعب الشركسي القوقازي ذكرى واحدة من أبشع مجازر التاريخ المُدونة، وواحدة من أقسى أيام القوقاز والشرق.. ففي عام 1864، أي بعد أربعة أعوام من مذبحة (طوشة النصارى)، أو (فتنة دمشق)، كانت الحرب المستعرة بين روسيا القيصرية والقوات الشركسية بقيادة الإمام شامل، الذي قاد حروبًا دفاعية عن القوقاز الممتد بين بحر قزوين والبحر الأسود، وهي منطقة استراتيجية مهمة جدًا لروسيا القيصرية، وإحدى أهم الأحلام الاستراتيجية الروسية القديمة في كسر الطوق الجغرافي المحيط بروسيا، جنوبًا لتصل إلى المياه الدافئة.. قد وضعت أوزارها معلنة انتصار القيصرية الروسية على شعوب القوقاز، وإخضاعهم بشكل كامل لسيطرة القيصر في سان بطرسبورغ.

استمرت الحرب قرابة قرن وعام، ابتداءً من عام 1763، ولغاية 1864، وأشاعت جوًا مشحونًا بالغضب والاضطراب، طوال القرن الثامن عشر، بين الدولة العثمانية ورعاياها، وبين الإمبراطورية الروسية، التي تبادلت الهزيمة والنصر مع الشراكسة، وداعميهم طوال هذا القرن، حيث يذكر المؤرخون كثيرًا من التفاصيل عن القصص المروعة الواردة من القوقاز، حينما لم يكن هنالك إعلام، أو مبادئ أساسية تحد من جرائم الحرب، والإبادة الجماعية. هذه الحرب الطويلة التي تكللت بالتهجير العظيم للشراكسة، وكانت هي البذرة الأصلية لمذابح عدة انتشرت في ما بعد، من مذابح سيفو، إلى مأساة الأرمن، وما سواها من مآس تتالت على المناطق الأناضولية والعربية تباعًا.. وأجزم أن الرأي العام العالمي تأثر سلبًا، أو إيجابًا، بهذه الحرب، والترحيل، والتغيير الكبير لإحلال شعب مكان شعب، ولربما كان ممن تأثر بها تيودور هيرتزل، الذي ولد في عام 1860، على وقع تلك الحروب والمجازر، والترحيل.. والتهجير.

كانت الهجرة الكبرى التي نتجت عن إعلان النصر على لسان القائد الروسي (الجراندوق ميشيل)، والسيطرة بشكل كامل على الأراضي القوقازية، بمثابة واحدة من أكبر التغيرات الديمغرافية في تاريخ المنطقة عمومًا، حيث قتل قرابة مليوني شخص، ونزح ما يقارب 80 في المئة من سكان تلك المناطق، من مختلف القبائل والعائلات الكبرى، متجهين جنوبًا، إلى الأراضي الدافئة حيث استقبلتهم الدولة العثمانية، ووزعتهم طواعيةً على الأراضي العربية، في كل من بلاد الشام، ومصر، والعراق، والجزيرة العربية، واندمجوا بشكل أساسي وطبيعي مع سكان البلاد، ليكونوا عاملًا أساسيًا في نهضتها لاحقًا، وجزءًا أصيلًا من تاريخها السياسي والاجتماعي..

ولكن هذا التاريخ بقي تاريخًا أسود، في نظر الشركس، فعدوه (يوم الحزن الشركسي)، بما يمثله من هجرة من البلاد، والغربة عن الوطن، وليس لمعناه العسكري المتجسد في الهزيمة، فكل شعوب العالم تنتصر وتنهزم تباعًا، ولكن النفي لشعب كامل كان حادثة نادرة الحصول في العالم، حيث يتم إقصاء السكان الأصليين للبلاد، وإحلال غيرهم مكانهم.. لأهداف سياسية.

في ما بعد، وفي فترة الحرب الشيشانية ـ الروسية الأولى والثانية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حدثت موجة هجرة نتجت عن دافع ديني متشدد لرد الصاع لروسيا، فتطوع الشباب العربي والأديغي للقتال جنبًا إلى جنب ضد قوات روسيا الاتحادية، حينما أزالت قوات الرئيس بوتين مدينة غروزني عاصمة الشيشان من الوجود، باستخدام البراميل المتفجرة، ليعاد تشكيل شيشان جديدة ظهرت معالمها بولاء شديد من الرئيس قاديروف، الأب والابن، المتهم بجرائم حرب دامية، ليبدأ الرئيس الروسي مرحلة جديدة من العلاقة الثلاثية بين الروس والأديغا والعرب، فأرسل قوات شرطة عسكرية شيشانية إلى سورية، في حلب وحمص، وغيرها، ومع اندلاع حرب أوكرانيا في 2022، كانت الألوية الشيشانية في طلائع القوات المقاتلة في شرق أوكرانيا.

بكل تأكيد، لا تمثل تلك القوات، ولا رئيسها قاديروف، الشعب الشركسي العظيم، ولا يمكن للتاريخ أن يحسبهم إلا من المضللين سياسيًا من قبل الإمبريالية الروسية، ومثلهم مثل من ذكرهم (ابن صصرى) في كتابه “الدرة المضية”… عن مماليك أفراد ارتكبوا ما ارتكبوه في البلاد العربية. بينما لعب الشعب الشركسي أدوارًا تنويرية عظيمة في سورية وفلسطين ومصر والعراق، وبرزت منهم شخصيات عظيمة لا يمكن محو أثرها، أو الأثر الذي حققته إيجابًا في بلادهم الجديدة، حيث زرعوا وبنوا وأسسوا وكانوا شركاء حقيقيين، وأصحاب أرض.

لم يكن الشراكسة عبر أكثر من ألف عام زائرًا عابرًا للبلاد الشرقية العربية، بل كانوا عناصر مؤثرة، وذات فعل حاسم في التاريخ العربي، ارتكبوا أخطاء حينما جاؤوا كحكام مماليك، وحققوا انتصارات لا يمكن أن يتم إغفالها، ومن ثم كشعب عظيم شريك في تاريخ ومستقبل المنطقة.. ولا بد لنا من احترام حزنهم، ويوم أرضهم، الذي يشابه إلى حد كبير يوم الأرض العربي الفلسطيني، في تفاصيل عديدة.

*ضفة ثالثة