خطيب بدلة: ملاعب معرة مصرين لكرة القدم: اعتبار الأرض المتوفرة

0

بقي فريق بلدتي “معرة مصرين” لكرة القدم، فترة طويلة، يلعب بتسعة لاعبين وحارس، وينقسم اللاعبون، أثناء التدريب، إلى خمسة مقابل خمسة، يقف الحارس في أحد الفريقين المنقسمين، ويضطر أحد اللاعبين للوقوف مكان الحارس في الفريق الآخر.

لم يكن لدينا مكان ثابت للتدريب، أو لإجراء المباريات، كنا نلعب إما على “بيدر الرام”، أو في ملعب ثانوية معرة مصرين للذكور، بالإضافة إلى ملاعب صغيرة كانت تتشكل في الأحياء السكنية من قبل الأولاد الصغار، أو من الشبان الذين لم يتمكنوا من الانضمام إلى الفريق الرئيس.

يجب أن يكون التدريب في ملعب المدرسة الثانوية خارج أوقات دوام الطلاب، حتمًا، وهذا خلق أمامنا عقبة صغيرة، ففي هذا الوقت يكون الباب الرئيسي مقفلًا، والمفتاح مع الآذن “أبو أحمد”، وعندما طلبنا من الآذن أن يفتحه لنا، ساعتين كل يوم، بعد العصر، قال:

– أعوذ بالله. إذا عرفت الإدارة بذلك مؤكد أنهم سوف يسرحوني من عملي الذي أطعم منه الأفواه التي خلفتها.

قلنا له: طيب.

وسرعان ما تجاوزنا العقبة من خلال السور الغربي. صنعنا فيه، بواسطة الأزاميل، نتوءات صغيرة، وصرنا نتعلق بها ونصعد بسرعة، مثل السحالي، حتى نبلغ ذروته، ثم نقفز إلى داخل فناء المدرسة، نمضي ساعتين أو ثلاثًا باللعب، وأثناء الانصراف، نكرر سيناريو تسلق السور، ولكن معكوسًا.

كان تخطيط الملعب عملًا سهلًا: تذهب مجموعة من اللاعبين والمشجعين إلى “المحفرة”، على طريقة كفرية، ومعهم زنابيل، يملؤونها بالتراب الأبيض (الحُوَّارة)، ويعودون إلى الملعب، حيث يكون آخرون قد قاسوا المحيط الخارجي لمستطيل الملعب، بخطوات واسعة تسمى واحدتُها (الفَشْخة)، مفترضين أن طول الفشخة متر واحد، ووضعوا في كل زاوية حجرًا اسمه (القباع)، وهذا مصطلح زراعي أساسًا، فالقباع يوضع عادة بين حدود الأراضي، ليَعرف كلُّ صاحب أرض، أو بستان، حدودَ أرضه، أو بستانه… ويبدأ الشبان برش الحوارة في خطوط مستقيمة توصل بين كل قباعين، ويرسمون، كذلك، خط الوسط، ومنطقة الـ 16، وتوضع، مقابل كل مرمى، دائرة صغيرة مخصصة لتنفيذ ضربة الجزاء التي كنا نسميها “طوزما”. وللعلم فقط، فإننا لم نكن نخطط ملاعبنا وفق القياسات العالمية المتعارَف عليها، بل على ضوء مساحة الأرض المتوفرة، فخط الـ 16، إذا كانت المساحة ضيقة، يكون على بعد عشر “فشخات” من المرمى، مثلًا، والكلام نفسه ينطبق على طول الملعب، وعرضه، ومقاسات المرمى. 


في البداية؛ كان المرمى يُصنع على الشكل التالي: تكدس، في كل من جانبي المرمى، قطعٌ من الحجارة المسطحة، فوق بعضها البعض، شاقوليًا، بارتفاع متر تقريبًا، يُطلق على العمود المتشكل اسم “قزموع”، وكل كرة تمر، أثناء المباراة، بين القزموعين، على ارتفاع أقل من مترين، تُحسب هدفًا للفريق المهاجِم، وأما الكرة التي تمر على ارتفاع يقدره الحكم بأكثر من مترين فلا تحتسب. وفي وقت لاحق؛ تبرع الحداد أبو سمعو بصناعة مرميين للفريق، وعندما سأل أبو سمعو أعضاءَ إدارة النادي عن القياسات المطلوبة، قالوا له: لا نعلم. وأرسلوا معه حارس المرمى، الذي وقف عنده في الدكان، ورفع يديه على مداهما، وقال له:

– اصنع المرمى بحيث إذا رفعت يديَّ لا تصطدمان بحديد العارضة.

لم يكن اللعب بعشرة لاعبين ناجمًا عن قلة الشبان الذين يريدون الانضمام إلى الفريق؛ بل لأن الإدارة الارتجالية التي تشكلت في البداية، صارت تمارس (فوقية) على الذين يرغبون بالالتحاق بالفريق، فيقولون لأحدهم: أنت ما عندك لياقة بدنية. وللثاني: ساقاك مقوستان، إذا ركضت مئة متر لا بد أن تتعثر وتنبطح على طولك. وللثالث: قدماك مسطحتان إذا جريت كثيرًا ستتعب، وتهلّش. وللرابع: واضح أنك ما بتطس (لا تبصر) هات لنا تقريرًا من طبيب عينية، يثبت أن عينيك سليمتان، وتعال.

ولكن الشيء الذي أدى إلى حسم الموقف، أخيرًا، أن إدارة فريق سراقب لكرة القدم، المتشكل حديثًا هو الآخر، اقترحت على إدارة فريق معرة مصرين إجراء مباراة ودية، على ملعب سراقب، فاضطروا لاستكمال العدد النظامي، بقبول اللاعب “طنطوز”، الذي كان يلح عليهم، قبل ذلك، لقبوله بصفة لاعب وسط مهاجم. وقد أفهموه أن المتوفر حاليًا، قلب الدفاع، وهو المركز الذي يمقته الجميع، لأن فيه تصادمًا مع مهاجمي الفريق الخصم، وكثيرًا ما يرتكب خطًا، (يفوّل) ليمنع هدفًا محققًا، فيشهر الحكم في وجهه البطاقة الحمراء، ووقتها يتلقى التوبيخ من المدرب، والمسبات من الجمهور!

جرت العادة، في المباريات الودية، أن يكون الحَكَم من بلد الفريق الضيف، وهذا نوع من تغطية العجز بالأريحية، فاستئجار حَكَم من حلب، أو حماه، أو حتى من إدلب، يكلف الكثير من المال، ونحن، في معرة مصرين، لم نستطع شراء كرة للتدريب واللعب إلا بطلوع الأرواح، وعندما نفست كرتُنا، لأول مرة، لم يكن لدينا منفاخ (جهاز نفخ الهواء)، فنفخها عبدو الكومجي بفمه، ومع ذلك بقيت رخوة، يحتاج قذفُها بالقدم إلى قوة مضاعفة… المهم أن أعضاء الإدارة، بمجرد ما تلقوا عرض سراقب، أكملوا الفريق بـ طنطوز، وأرسلوا واحدًا منهم إلى مئذنة الجامع الكبير، ليصيح في الميكروفون، داعيًا الأهالي للاجتماع في دار الأفراح، بعد صلاة العشاء، لأجل التشاور بشأن الموضوع.


في الاجتماع؛ ألقى أعضاء إدارة النادي خطابات حماسية، أثارت النخوة العروبية لدى أحد المتعهدين “المقاولين”، فأبدى استعداده لدفع أجرة الباص ذهابًا إلى سراقب، وإيابًا منها، وثمن سندويشة فلافل واحدة مع كأس شاي واحد لكل لاعب، بالإضافة إلى المدرب وأعضاء مجلس الإدارة. وعندما وصلوا إلى مناقشة بند التحكيم، ألمح رئيس النادي أن المطلوب من الحكم الذي سنعتمده أن يراعينا قليلًا… فقاطعه معاونه موضحًا أن ليس “قليلًا”، بل يجدر به أن يجعلنا نكسب المباراة، أو نحقق التعادل في الحد الأدنى، لأن فريق سراقب، بصراحة، أقوى من فريقنا، وهم أساسًا دعونا إلى هذه المباراة الودية لكي يفوزوا علينا، ويتباهوا أمام داعميهم من أغنياء سراقب، الذين تبرع أحدُهم، في جلسة التأسيس، بحاكورة مساحتها ثلاث دونمات، سوروها وجعلوها ملعبًا، وتحمس آخر وقدم لصندوق النادي خمسة عشر ألف ليرة سورية، نقدًا، وأثناء التشاور بشأن المباراة الودية، حلف أحد أغنيائهم بالطلاق، بالثلاثة، على أنه سيدعو فريقي سراقب ومعرة مصرين ومرافقيهما، بعد انتهاء المباراة، إلى عشاء خواريف محشية، مع الرز والفريكة والصنوبر والشنينة (اللبن الرائب)، وهذا ما جعل إدارة فريقنا تطلب من المتبرع المعرة مصريني أن يلغي بند الفلافل والشاي، ويشتري مكانها للفريق كرة جديدة، ولباسًا رياضيًا للاعب طنطوز.

اعترض أحد الحاضرين على فكرة أن يحابي الحَكَم فريق معرة مصرين، لأننا نحن والسراقبيين أهل وحبايب، عدا عن أن المحاباة حرام شرعًا. فانبرى “أبو مازن البصة” وقال إنه مستعد أن يلعب دور الحكم، ويتحمل وزر المحاباة، لأنه ذاهب هذه السنة إلى الحج. ولكنه اشترط أن يتظاهر اللاعبون بأخذ توجيهاتهم، أثناء المباراة، من المدرب الواقف على الخط، بينما يأخذون التوجيهات الفعلية منه.

المهم سيدي نفذ الحكم أبو مازن البصة وعده، فكان يقترب من أحد لاعبي فريقنا، أثناء اللعب، ويعطيه إشارة بعينه، أو يهمس له بجملة، يلتحم لاعبنا إثرها بلاعب من الفريق السراقبي، ويسقط على الأرض، فيتلقى السراقبي بطاقة إنذار (بيضاء لأن إدارة نادي سراقب نسيت إحضار بطاقات صفراء وحمراء) ويمنح لمعرة مصرين ضربة حرة، أو ضربة جزاء. وكان فريق سراقب قد سجل ثمانية أهداف، ألغى لهم أبو مازن منها خمسة، مرة بالتسلل، ومرة بحجة وجود لمسة اليد (هانس)، ومرة بأن المهاجم لم يلعب على الصافرة، وفريق معرة مصرين سجل ثلاثة أهداف، كلها باطلة، ولكنه احتسبها، وفي آخر دقيقة من المباراة، كان المهاجم السراقبي منفردًا بحارسنا، فصفر أبو مازن معلنًا نهاية المباراة بالتعادل.

كانت مباراة رائعة، مع أشقائنا السراقبيين، توجت بعشاء مناسف مع اللبن الرائب، وكان نجم السهرة، بالطبع، هو أبو مازن البصة، الذي انفرد به أحد أعضاء نادي سراقب، وراح يفاوضه على التعاقد معه، ليكون حكمًا بين فريق سراقب وفريق بلدة “تلمنس” التي ستقام هنا، على هذا الملعب، الأسبوع التالي.


*ضفة ثالثة