قلما تصادف اليوم مَن يذكر أمامك المخرج المسرحي السوري فواز الساجر، ولكن؛ عندما تُفتح سيرته عرضاً، ينبري كثيرون لامتداحه، ويسهبون في الحديث عن تجربته الإخراجية التي شكلت علامة فارقة في مسيرة الحركة المسرحية السورية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات.
في حديث خاص مع الصديق الفنان فارس الحلو، لخص فوازاً بكلمات قليلة، قال: (كان كتلة من الألمعية والذكاء والموهبة، رحيلُه المبكر أضعف النهضة المسرحية الوليدة في سورية. كان أستاذنا. ترك لنا معياراً محدداً لتعريف الفنان مؤلفاً من ثلاثة أقانيم: أخلاق. ثقافة. موهبة).
ولد فواز الساجر في إحدى قرى ناحية أبو قلقل التابعة لـ “منبج” سنة 1948، وتوفي في دمشق سنة 1988.
بالمناسبة: اشتهرت منبج بإنتاج الشعراء، فهي مسقط رأس كل من البحتري، وأبي فراس الحمداني، وعمر أبو ريشة. ولعل فواز الساجر أول هاو للمسرح يأتي من تلك المنطقة.
كانت حياة فواز الساجر سلسلة من النجاحات والإنجازات، خَطُّها العريض هو: المغامرة والتجريب والإبهار، وقد قُطعت بالموت الفجائي، على نحو موجع. (يمكن مقارنته بمبدعين عاشوا حياة قصيرة وتركوا بصمة إبداعية كبيرة، مثل تشيخوف، 44 سنة، بدر شاكر السياب 38 سنة، آرثر رامبو، 37 سنة، سيد درويش 31 سنة، رياض الصالح الحسين 28 سنة).
سنة 1965، نجح فواز في امتحان الثانوية العامة، الفرع الأدبي، بتفوق، إذ حصل على 49 درجة من أصل 50. وفي سنة 1966 أوفدته وزارة الثقافة السورية إلى موسكو لدراسة الإخراج المسرحي.
في معهد “غيتس” بموسكو، تتلمذ فواز الساجر على يدي الأستاذ يوري زافانسكي، وهو أستاذ مبرز في مدرسة قسطنطين ستانلافسكي (1863- 1938).
“ستانسلافسكي” واحد من مؤسسي المسرح الحديث، صاحب نظرية اقترنت باسمه، تقوم على فكرة أن يَدْرُسَ الممثلُ الحياةَ الداخلية للشخصية التي سيلعب دورها، ويقدمها كما لو أنها حية، وهو مؤسس مدرسة موسكو للفن، 1898، واشتهر بعروضه الواقعية لمسرحيات أنطوان تشيخوف ومكسيم جوركي، ومن مؤلفاته الشهيرة: “إعداد الممثل في المعاناة الإبداعية”، ترجمة د شريف شاكر- الهيئة العامة المصرية للكتاب 1997.
تخرج فواز من معهد غيتس الروسي سنة 1972 وعاد إلى سورية، ممتلئاً بالنشاط، وبهاجس التجديد.
في سنة 1973 أعد مسرحية “جيفارا” للشاعر الفلسطيني معين بسيسو، وقدمها بالتعاون مع أسرة المسرح الجامعي بحلب تحت عنوان “الضيوف لا يحبون الإقامة في هذا البلد”، وفي السنة ذاتها قدّم مسرحية “حليب الضيوف” للكاتب المسرحي المغربي “أحمد الطيب العلج” لصالح فرقة مسرح الشعب بحلب.
في سنة 1975 عمل مع المسرح الجامعي في دمشق، أخذ ثلاثة نصوص مسرحية من الكاتب الأرجنتيني أوزوالد دراكون وممدوح عدوان ورياض عصمت، وقدمها على هيئة ثلاثية مسرحية بعنوان: “نكون أو لا نكون”، وشارك بهذا العرض باسم سورية في مهرجان دمشق السادس للفنون المسرحية، وفي السنة التالية 1976، قدم مسرحية “رسول من قرية تميرا” للكاتب محمود دياب..
اتسمت المرحلة الأولى (كما أوضحت الصديقة الفنانة أمل حويجة في حديث خاص)، بتبني فواز مذهبَ برتولد بريخت الإخراجي القائم على إزالة جميع أنواع الحواجز بين المسرح والجمهور، وقد ظهر هذا على نحو شديد الوضوح في مسرحية رسول من قرية تاميرا.
نتوقف قليلاً عند مذهب بريخت، فهو لا يقتصر على إلغاء المسافة والحواجز بين خشبة المسرح وجمهور المتفرجين، بل ويسعى لإحداث تغيير اجتماعي جوهري، يتجلى بتحويل المسرح من مجرد سلعة بيد الأثرياء إلى سلاح ووسيلة لتوعية الطبقات المسحوقة، وبالنتيجة تحويل المتفرج من متلق مسلوب الإرادة إلى مفكر، متأمل بما يجري أمامه، فاعل في محيطه.
اتسمت المرحلة الثانية من تجربة فواز الساجر باعتماد منهج ستانسلافسكي، وبالأخص في تعامله مع الممثلين.
ومما حدثتني به الفنانة “أمل حويجة” أنها عرفت فواز الساجر أستاذاً لها في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت معه في مسرحية “سكان الكهف” أواخر سنة 1987 عندما كانت طالبة في السنة الثانية. قالت:
“كان فواز يريد من الممثل أن يفهم واقعَ الشخصية التي سيمثلها، ظروفَها، وخيالاتها، وذاكرتها الانفعالية، وأن تظهر انعكاساتها عليه خلال العرض، جسدياً ونفسياً. وكان يُجري لنا في المعهد، لأجل أن نفهم مرادَه، اختبارات طويلة تشبه “اليوجا”. يقول مثلاً: تخيل نفسك ماشياً في برية، الشمس ساطعة، العصافير تزقزق، وضللت طريقك، ووجدت نفسك في صحراء، السماء غامت، ضعفت الرؤية، شعرت بالبرد، هبت ريح خفيفة، نزل رذاذ خفيف، اشتدت الرياح، انطلقت زوبعة، الرياح أخذت تصفر، المطر تزوبع، بدأت الريح تقتلع الأشجار، وتحمل الغبار وتدور به، بعد قليل بدأت الأمور تهدأ، والرؤية تتحسن.. إلخ. الأمر الثاني الذي كان فواز الساجر يشتغل عليه بدأب وأناة، له علاقة بـ (الكتلة والفراغ)، فعلى ضوء هذا المبدأ تتحدد أماكن وجود الممثلين على المسرح، بطريقة يبدون معها وكأنهم يأخذون صورة تذكارية، وكلما تحركوا تتغير العلاقة بين الكتلة والفراغ والانفعالات المرتسمة على وجوه الممثلين وأجسادهم، وكأنهم يأخذون صورة بوضعية مختلفة.
المرحلة الأكثر أهمية في مسيرة فواز الساجر بدأت بتشكيل ثنائي مسرحي مع الكاتب سعد الله ونوس (1941- 1997). فبدأا ما يمكن تسميته جوازاً “مغامرة التجريب في سبيل الحداثة”. لا أقصد الحداثة بمعناها الاصطلاحي الأكاديمي، بل السعي إلى تحديث الحياة في بلادنا، والتخلي في المقام الأول عن “الخطابة” باعتبارها أسلوباً ديماغوجياً مضللاً للناس.
قدم فواز وسعد الله ونوس في بداية عملهما المشترك مسرحية “يوميات مجنون” عن نص لنيقولاي جوجول.. بعد ذلك أوفد فواز (في سنة 1978) لاتباع دورة قصيرة في اليابان، مدتها ستة أشهر، وعاد ليقدم في سنة 1979، مسرحية “رحلة حنظله من الغفلة إلى اليقظة” التي اقتبسها سعد الله ونوس عن مسرحية “كيف تخلص السيد موكينبوت من آلامه” للكاتب الألماني بيتر فايس (1916- 1982)، وقد عرضت هذه المسرحية في الكويت وألمانيا.
وفي العام (1980) قدم مسرحية ثلاث حكايات، عن ثلاثية الكاتب الأرجنتيني أوزوالد دراكون وهي: ضربة شمس. حكاية صديقنا بانشو. والرجل الذي صار كلباً. لعب أدوار البطولة فيها كل من فايزة شاويش ونجاح سفكوني وحسان يونس وتيسير إدريس. والجدير بالذكر أن هذه النصوص تنتمي إلى ما يعرف باسم “مسرح الشارع”.
(في سنة 2019 أعاد الفنان أيمن زيدان تقديم مسرحية ثلاث حكايات بعد أن أعد النص بالتعاون مع محمود الجعفوري).
سنة 1981 أشرف فواز الساجر على تخريج الدفعة الأولى من طلاب قسم التمثيل بمسرحية “سهرة مع أبي خليل القباني” لسعد الله.
سنة 1982 سافر مجدداً إلى موسكو لدراسة الدكتوراه، وعاد بها سنة 1986، وأصبح مدرساً لمادة التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية وقدم في العام 1988 مسرحية “سكان الكهف” للمسرح القومي عن مسرحية للقاص والروائي والكاتب المسرحي الأميركي من أصل أرميني ويليام سارويان (1908- 1981). إعداد سعد الله أيضاً.
البطولة في المسرحية: غسان مسعود. فارس الحلو. أمل حويجة. دلع الرحبي. جهاد عبدو. مروان فرحات. ماهر صلبيبي. محمد إدريس “السوداني”. (الديكور: نعمان جود).
الصديقة الفنانة فايزة شاويش قالت لي (في حديث خاص): كان فواز، بالنسبة إلي، صديقاً استثنائياً. عملت معه عملين مهمين جداً هما “رحلة حنظلة” و”ثلاث حكايات” كان أستاذاً، معلماً في الإخراج، تعلمت منه الكثير، وباعتقادي أنه مبدع لن يتكرر.
وقالت لي الدكتورة فاطمة ضميراوي، زوجة فواز، ورفيقة دربه:
كان مهذباً جداً، ولكنه سوداوي النظرة للحياة، صعب الإرضاء. عمله أهم شيء عنده، دؤوب، متعتاه في الحياة هما القراءة والعمل.. دائم التفكير بما عليه عمله، وكيف يجب التحضير له حتى في أيام العطل.. كان يخشى الفشل، وفي نهاية كل عمل، عندما يتحقق النجاح، كان يردد: نفدنا. وكان تقدمياً، متحرراً، لم يقف قط في وجه طموحاتي العلمية، ولم يطلب مني يوماً الانتساب إلى حزبه.. أحب ابنته كثيراً، وكان متفانياً بالاعتناء بها، وهذا ما كان يدهشني وأنا أرى مشاغله الكثيرة. لا يفكر بالمال، عرضت عليه الكويت أن يدرس في معهدها المسرحي مقابل شيك مفتوح، واعتذر. تزوجنا في غرفة مفروشة بحي الديوانية بدمشق. ذات مرة استوقفني صاحب دكان في الحارة (سنة 1977 أو 1978) وقال لي:
– والله زوجك مجنون؛ تعيشون في هذا القن، ويرفض إخراج عمل لدريد اللحام بـ مئة ألف ليرة! (أكد لي أنه سمع هذا من مقابلة إذاعية مع دريد).
(سوريا)