قصة حياة الموسيقار المصري الراحل عبد العظيم عبد الحق (أول كانون الثاني/ يناير 1905- 1993) تستحق أن تحكى. إنها حياة عامرة بالموسيقى والطرب، ومليئة، في الوقت ذاته، بالدراما، والكوميديا، وفيها ضياع، وتصميم، ومعوقات، ورياح مواتية، وصراعات، وهروب من المدارس، وتشرد، ونوم في أماكن غير صالحة للنوم… وحتى تسجيل ميلاده لم يكن ثابتًا، فحين ذهب ليسجل نفسه في المدرسة الثانوية، كان كبيرًا في السن، بسبب هروبه المتكرر السابق من المدرسة… علم ابنُ عم له بالأمر، فذهب معه، دون علم والده، وزعم أمام مكتب النفوس أن عبد العظيم الأصلي مات من ست سنوات، ونحن لم نبلغكم بوفاته، لذا لم تُسجل واقعة وفاته في قيودكم، وهذا عبد العظيم الجديد، المولود سنة 1912، لم نبلغكم بمولده، ولم يسجل هو الآخر في قيودكم.
ومن طريف ما جرى معه، ذاتَ يوم، أن إحدى الصحف أعلنت وفاته، وبدأت الاتصالات تنهمر على بيته، وأيقظته زوجته، وأعلمته بالخبر، وقدمته له الجريدة التي نشرت الخبر فابتسم، وهي سألته:
– ألم تحزن؟
قال: أحزن ازاي وأنا قدامك أهو أقْرَا الجرنال؟
وكان ذلك مصدر سرور لديه، فالناس عادةً لا يعرفون موقف الناس منهم بعد الوفاة، أما هو فقد عرف، واكتشف أنه محبوب بين الناس.
يمكننا أن نسرد التفاصيل الجوهرية التي تلخص آراء عبد العظيم عبد الحق وفلسفته، بحسب التسلسل الزمني الآتي:
كيف اكتشف هواية التلحين؟
قال الشيخ الكرداني، معلم مادة القرآن الكريم، للتلميذ عبد العظيم: أسْمعني تلاوتك للآية الكريمة (الله نور السماوات والأرض). أخفض الفتى عبد العظيم صوته عند لفظ “السماوات”، ورفعه عند لفظ “الأرض”. فقال الشيخ: الله الله، أنت كدة بتقلب الدنيا. جعلت السماوات تحت، والأرض فوق!
يقول عبد العظيم: هذه الملحوظة جعلت مني ملحنًا. فبعد هذا، كنت كلما وضعت أمامي نصًا لألحنه، أتأمل في الجملة الموسيقية التي تخطر لي، وأتساءل: يا ترى هذه الجملة مناسبة للمعنى أم لا؟
صراعه مع بيئته لأجل الموسيقى
في صعيد مصر، عندما تقول (فلان موسيقي)، يعني أنه هايف. الفنان في نظرهم إنسان ضائع، لا قيمة له، وبناء على هذه المفاهيم المغلوطة، كان والدُ عبد العظيم يضربه كلما ذكر أمامه أنه يحب أن يتعلم “مزيكا”.
ويقول: ربما كان أهالينا على حق، لأنهم لا يعرفون من الموسيقيين سوى ثلاثة أنواع، الأول؛ الفرق المتجولة التي يصبغ أعضاؤها وجوههم بالدقيق (الطحين) لأجل إضحاك الناس، الثاني الرقاصات شبة العاريات، والثالث أولئك الذين يدورون على الأرياف ويقدمون التحيات للناس، فيعطونهم بعض القروش. وكلها أنواع مهينة، وأما الفن الراقي الذي كنت أبتغيه، فهم لا يعرفونه.
بين الأزهر وسيد درويش
كان والده يريد أن يسجله في الأزهر، وفي تلك الأثناء كانت أوبريتات سيد درويش (عاملة ضجة في البلد)، وعبد العظيم تعلق بها، وكانت هي السبب في اتجاهه إلى الفن بالكامل.
يقول عبد العظيم في حوار تلفزيوني:
– في صغري كنت أحفظ أغاني زكريا أحمد وسيد درويش كلها. أذكر، ذات يوم، كان سيد درويش يحل ضيفًا على رجل اسمه “مناع بيه عطيه”. قال مناع للشيخ سيد:
ـ أنا أعرف واد صغيّر اسمه عبد العظيم عبد الحق يحفظ ألحانك كلها.
قال له: مش معقول.
قال له: أجيبهولك حالًا.
واتصل عطية بأخي، وأنا كنت يومها في القاهرة بالمصادفة. بعثوا لي عربية حنطور، ورحت للشيخ سيد. بقيت عنده تلات أيام، غنيت له كل ألحانه، وكانت دهشته عظيمة.
الموسيقى الشرقية… وبس
الموسيقار عبد العظيم متعصب للموسيقى الشرقية، هو يقول هذا الكلام صراحة، ويضيف: لا أسمح لأحد أن يحاول إقناعي بأن التجديد يمكن أن يكون في الشكل. العالمية هي أن نخدم لوننا الشرقي بإخلاص. موسيقانا صعبة جدًا. الغرب عنده سُلَّمان، الماجور؛ يعبر عن كل ما هو قوي، والمينور، يعبر عن كل ما هو ضعيف. أما نحن، ففلاسفتنا القدامى ربطوا الموسيقى بالفلك، يعني، أنت الجالس على الأرض، يوجد فوقك نجم، كوكب، ماذا تفعل بك حالةُ الجاذبية الآن؟ على ضوء جوابك وإحساسك بهذه الجاذبية نقول: يبقى يناسبك المقام الفلاني.
موسيقانا ثرية جدًا، ومحترمة… الآن يقول بعض السميعة إنهم لا يستسيغون الموسيقى العربية الكلاسيكية، لأن رتمها (إيقاعها) بطيء. صحيح. ولكن حل هذه المشكلة غاية في البساطة (خلي بتاع الرتم يقسم الرتم، يمشي وقتها ويصير زي الحرير).
محمد عبد الوهاب صديق وخصم
يقول عبد العظيم:أنا أحب محمد عبد الوهاب شخصيًا، وأخاصمه فنيًا. كنت أستمتع بأغانيه الأولى، وحينما دخل السينما اختلفنا. لم يأتِ في التاريخ مطرب يمسك عود ويقول يا ليل، ويغني موالًا شرقيًا مثل عبد الوهاب، ولن يكون مثله أحد، سوى قلة قليلة أمثال رياض السنباطي وأحمد صدقي ومحمود الشريف. لو أراد عبد الوهاب أن يخدم الموسيقى الشرقية (محدش حَ يقدر يعمل زيه)، ولكنّ ما أصبح يقوله في ألحانه، بعد ذلك، يمكن أن يؤديه أبسطُ المبتدئين. إنه بهذا مثل جبل كبير يهدم نفسه. المؤلف الموسيقي الكبير حينما يصل إلى درجة معينة يقدم دراما، لا يقدم ترفيهًا، ولا إثارة، أو جملة لأجل التجارة، كلما كبر الفنان تكبر مسؤوليته تجاه الفن أكثر.
لمن يسمع؟
عبد العظيم عبد الحق، وهو في سن السبعين، تسأله الإعلامية فريال صالح عن الأصوات التي يسمعها، فيقول: أسمع أولًا فيروز، عندها جمال الصوت، وعالمية المغنى، وهناك سعاد محمد، وعيشة حسن، وفايزة أحمد التي يجدر بها أن تغني من ألحان الملحنين الكبار الموجودين، لأن محمد سلطان، مهما كان على درجة من الخَلق، لا يستطيع أن يلاحق صوتًا قادرًا على أن يؤدي بشكل أكبر. فايدة كامل أستاذة عظيمة.
وعبد الحليم حافظ؟
كان عبد الحليم حافظ زميل عبد العظيم في معهد الموسيقى، وهو يرى أن حليم يؤدي بشكل جيد، ويحيط ببعض الأساليب… وذات مرة أعطاه لحن أغنية كتبها فتحي قورة، بعنوان “قلبي حبك وانشغل بك”، وبقي شهرًا يحفظ اللحن، فلم يقتنع عبد العظيم بأدائه، وأعطى اللحن لشقيقه إسماعيل شبانة، وهو مطرب عظيم، فغناه على نحو ممتاز.
عن عبد العظيم الممثل
من الأفكار الطريفة التي يتفتق عنها ذهنُ الموسيقار عبد العظيم أن التمثيل هو أصعب أنواع التلحين، لأنك إذا لم تقدر على تحميل المعنى في الإلقاء، لن تستطيع إيصالها إلى المشاهد.
أشهر ألحانه
أشهر الألحان التي أبدعها عبد العظيم عبد الحق، بلا شك، أغنية محمد قنديل “وحدة ما يغلبها غلاب” من كلمات بيرم التونسي، وأغنية محمد رشدي “وهيبة”، التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي.
يروي الأبنودي، في أحد لقاءاته، أنه عرض كلمات أغنية “وهيبة” على عدد من الملحنين الكبار، فاعتذروا عن تلحينها، وأحدهم سأله عن كلماتها باستخفاف قائلًا:
ـ الكلام ده يمني!
وبعدما لحنها عبد العظيم أصبحت على كل لسان.
وذات يوم ذهب الأبنودي لزيارة عبد العظيم، ففتحت له فتاة كانت تعمل عنده، سألها قائلًا: اسم النبي حارسك اسمك ايه؟
قالت: عدوية.
وعبد العظيم لم يستطع تلحين الأغنية، فأخذها الأبنودي إلى بليغ حمدي. وكانت تلك الأغنية التي نالت شهرة عظيمة.
عن سرقة عبد الوهاب أحد ألحانه
يشير عبد العظيم، في إحدى مقابلاته، صراحة إلى أن محمد عبد الوهاب أخذ منه ـ دون استئذان ـ لحن أغنية كان قد لحنها لحورية حسن، تقول كلماتها التي كتبها مرسي جميل عزيز:
والله علي دين، وندر شمعتين
شمعة لأم هاشم، وشمعة للحسين
وقد وضعها عبد الوهاب في أحد كوبليهات أغنيته “أنا والعذاب وهواك”، وهو الكوبليه القائل:
أهل الهوى مساكين
صابرين ومش صابرين
وبيحسدوا الخالي…
*ضفة ثالثة