خضر الآغا: الكتابة النسوية.. الرجل بوصفه امرأة

0

في أحد التحقيقات الصحفية عن كتابة المرأة قالت إحدى الباحثات والأكاديميات العربيات إن سبب عدم متابعتها الكتابة والبحث هو انشغالها بالوظيفة وتربية الأولاد والواجبات المنزلية الأخرى، ولدى دخول الصحفية التي أجرت التحقيق إلى مكتب الباحثة وجدته مكتظًا بألعاب الأطفال وزوائد البيت… ما يعني أن المكتب تحول إلى مستودع.

ثمة حالات، وإن كانت قليلة، يقوم الرجل فيها، نتيجة ظروف خاصة، بالاعتناء بالأطفال ورعايتهم وتأمين مستلزماتهم، وتتحول غرفهم/مكاتبهم إلى مستودع لألعاب أطفالهم وزوائد البيت… فإذا كان هذا الدور منسوبًا للمرأة فقط، فإن هذا الرجل يتحول إلى امرأة، ولا فارق سوى الفارق البيولوجي. فإذا كان ما يصدر عنه تجاه طفله خطابًا فهو خطاب امرأة، وإذا كان أداء لغويًا فهو أداء امرأة. وكونه رجلًا، من الجهة البيولوجية، لم يؤثر على أدائه هذا الدور. فأين يكمن، من جهة هذا الخطاب أو الأداء اللغوي، الفارق إذًا؟ وما الذي يجعل أداءه أنثويًا؟ ما الذي يجعل من المرأة امرأة ومن الرجل رجلًا غير البيولوجيا إذًا؟

بالعودة إلى ملفات النظرية والاتجاهات النسوية الحديثة سيكون ذلك إثباتًا إيجابيًا على دعواتها وآرائها. تعتبر النسوية أن ما يحدد الفوارق بين الجنسين هو المجتمع والثقافة. ومنذ أن أطلقت سيمون دي بوفوار صرختها الشهيرة: “المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة”، تغير الوضع كثيرًا، فلقد قامت بإلقاء اللوم على المجتمع ومحصلاته الثقافية لجعله المرأة “جنسًا ثانيًا” وبرّأت، عبر ذلك، الطبيعة والبيولوجيا مما آل إليه وضع المرأة. وتبعًا للتفكّر في هذا الأمر واستقصائه ظهر مفهوم “الجنوسة” (gender) الذي لا يشير على الإطلاق إلى الفوارق البيولوجية، بل إلى مجمل الأوضاع التي تترتب على كون المرأة امرأة والرجل رجلًا. فالجنوسة طريقة معرفية لاستقصاء وتحليل ما أهمله التاريخ بناء على ذلك التمييز.

النسوية تعتبر أن ليس كل ما يصدر عن الرجل، بوصفه رجلًا، يعد ذكوريًا ويخدم النظام البطريركي، بل يمكن أن يصدر عن الرجل ما من شأنه أن يصب في خدمة المرأة وقضاياها. والعكس شديد الصحة أيضًا، فليس كل ما يصدر عن المرأة يعد نسويًا لمجرد كونها امرأة، فثمة الكثير من الأمثلة كانت المرأة فيها ذكورية وبطريركية (أي، تكرس النظام الذكوري والبطريركي) إلى درجة صفيقة، والأمر هنا لا يشترط أن تتقصد المرأة ذلك، فالتاريخ، منذ أن تولت البطريركية قيادته، صار يتحرك بأدواتها ومفاهيمها. حتى إن بعض الشاعرات العربيات ما قبل الكتابة، على سبيل المثال، قلن شعرًا بأدوات الذكورة وأعدن قولها، كالخنساء التي رثت أخاها مكرّسة قيم الذكورة ومستخدمة أدواتها كما لو أنها كانت تنتمي إلى ما كان يُطلق عليهم آنذاك “الشعراء الفحول”، وغيرها الكثيرات مما وصل إلينا.

من هنا فلا جدوى مما تقوم به الكاتبات والباحثات النسويات في الذهاب إلى أقصى التاريخ وما قبله لاستحضار نساء كتبن أو قمن بأعمال إبداعية أخرى لتقوية طرحهن المتمثل في أن المرأة كانت عبر التاريخ مشاركة في صنعه إلى جانب الرجال ولكن الرجال همشوهن. إذ ليس الهدف من النسوية تجميع أكبر قدر من النساء المبدعات منذ ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، بل إبراز الجوانب التي استطاع فيها العمل الإبداعي الصادر عن المرأة أو الرجل أن يخفف من غلواء الذكورة والبطريركية، ويقتحم أدواتها ويحرفها لتكون أنثوية، ويمنع الذكورة من ادعائها امتلاك الحقيقة، والتشكيك إزاء قيمها وغاياتها…

نحن نعرف العمل الكبير والمفصلي في التاريخ الحديث الذي قامت به الشاعرة نازك الملائكة عندما حطمت عمود الذكورة العربية الشعري، واخترعت ما سمي “الشعر الحر” القائم على تفعيلة واحدة تنتظم القصيدة، وبذلك لم تعلن دخولها مقر الذكورة المحمي بتاريخ طويل من العظمة والكبرياء وبحراس أشداء فحسب، بل دخلته بشروطها هي، بأدواتها هي، فدمرت، بقصيدة واحدة (الكوليرا 1947) العمود التاريخي الراسخ لقصيدة العرب، وصنعت قصيدةً أنثى حرة. وكتبت عام 1949 مقدمة تمردية لديوانها “شظايا ورماد” تحدثت فيها عن “التحرير التام” للقصيدة واللغة، واعتبرت أن “القواعد شيء واللغة شيء آخر”، وأن “القاعدة الذهبية هي اللا قاعدة”… إلى آخر ما هنالك من نزوع تجاوزي وتقويضي للشعر العربي على امتداد تاريخه. لكن التاريخ يمشي بقوة الذكورة وبأدواتها القادرة، إلى درجة كبيرة، على ترويض حركات التمرد التي يؤسسها الهامشيون والضعفاء والمبعَدون. وضمن هذا المعطى روّض التاريخ البطريركي الشاعرة المتمردة، وأعادها إلى حظيرة الآباء، فكتبت عام 1962 كتاب “قضايا الشعر المعاصر” لتؤكد على ضرورة القواعد والقوانين معيدة النسق العمودي إلى التفعيلة، وقيم الذكورة إلى القصيدة.

بهذا مارست المرأة ذاتها دورين معًا: الدور النسوي في تأنيث القصيدة والمفاهيم والغايات مرة، والدور الراعي البطريركي لشؤون القصيدة والتاريخ مرة أخرى.

ما فعلته الملائكة كان أول حركة شعرية نسوية في العصر الحديث. وإن تراجعاتها عنها، بدرجة أو بأخرى، لم يؤثر على هذه الحركة في شيء، فلقد شاعت قصيدة التفعيلة، وانحسر إلى الوراء كثيرًا أيضًا العمود الذكوري الشعري.

ثم راح بدر شاكر السياب يوالي التأسيس النسوي للقصيدة الحديثة بلا هوادة وباطراد، وكانت قصيدته “أنشودة المطر” مثالًا كبيرًا على ذلك. فلم يشترط على قصيدة التفعيلة، بوصفه مؤسسًا إلى جانب الملائكة، أن ترتهن لقانون أو قاعدة أو تراث أو طريقة كتابة ووزن، بل اشترط الحرية لتواصل تقدمها، وبهذا يكون تنازل عن مكتسبات الرجال التاريخية في القوانين والقواعد والفرض والإرغام، وبهذا، أيضًا، يكون قدم للجانب الأنثوي من التاريخ والشعر والإبداع فرصة كبيرة لإثبات أن التاريخ يمكن أن يصغي لصوت الأنثى. في هذا المكان كان السياب شاعرًا-امرأة، بالمعنى الثقافي!

كانت قصيدة التفعيلة في بدء انبثاقها حركة في تأنيث النص وفي نسوية الإبداع. بدأت بتأسيسه امرأة شاعرة، وواصل ذلك رجل شاعر. أو لأقل بعبارة أكثر تعبيرًا: قام بتأسيس الحركة النسوية في الشعر العربي امرأة ورجل معًا وفي الوقت نفسه. لكن ذلك لم يستمر، ودخل شعراء الحداثة العربية (أغلبهم) على خط هذه القصيدة وحقنوها، بقوة، بأدوات وقيم البطريركية ودافعوا عن ذلك بجلافة واستعلاء وغطرسة وإبعاد للرأي المخالف وبنوع من النزعة التشبيحية. ولم تزل ماثلة في ضمير الثقافة العربية العقوبة الشديدة التي أنزلوها بالشاعرة سنية صالح جراء تمردها على ذلك، وكتابتها قصيدة نسوية.

في هذه الأثناء كان محمد الماغوط، وبرغم ادعاته الذكورية والمضادة للمرأة، يوالي حرف القصيدة العربية وإزاحتها عن أدواتها وقوانينها وقيمها الذكورية، فكتب قصيدة نثر نسوية إلى درجة عالية. وما دموعه التي لم تتوقف حتى رحيله إلا تعبير عن هذه القيمة التي ما انفكّ يؤكد عليها ويبعثها عبر ذلك الشكل الجديد الذي ابتكره مع أنسي الحاج وهو قصيدة النثر. يعتبر الماغوط أن قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائمًا على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أنها مرنة، وتضع الشاعر وجهًا لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور ودوران على القوافي. وأنها جاءت كضرورة صحية لإلغاء دكتاتورية الشعر الكلاسيكي. يمكن ملاحظة أن الذي يتكلم هنا هو رجل إنما بضمير الأنثى، ولسانها، وتجربتها (حنان وتواضع، ضد القسوة والغطرسة، ضد الدكتاتورية، ضد البطريركية وشعر الذكورة).

قصيدة النثر ذاتها، وفق الأوصاف التي أغدقها عليها الماغوط، حركة نسوية في القصيدة الحديثة: لا قوانين ولا قواعد ولا فرض ولا إرغام. رائحة زيزفون في الأرجاء. قصيدة يمكن لها أن تكون نبشًا واستقصاء للمهمل والصغير والمتروك والضعيف والأشياء البسيطة.

إنه لذو دلالة أن الشاعرات العربيات في العصر الحديث وإلى يومنا هذا، معظمهن، أو (جميعهن؟) يكتبن هذه القصيدة. رغم أن مؤسسها رجل.

قد تكون القصيدة العربية الجديدة منحازة للقصيدة الأنثى المضادة لقيم البطولة العنترية، وقيم الادعاء بالقوة والغطرسة. لم يعد الشاعر العربي الجديد هو “الرجل الضّرب” كما كان يقول طرفة بن العبد، ولم يعد هو “الذي نظر الأعمى إلى أدبه” وفق غرور المتنبي، ولم يعد “قادر أن أغير، لغم الحضارة، هذا هو اسمي” كما اعتبر أدونيس نفسه، أو “أنا الذي شد البحار إلى قرون اليابسة” وفق محمود درويش… إلخ.

*ألترا صوت