في قرية صغيرة نائية على الحدود السورية- التركية أوائل ثمانينات القرن الماضي، تدور أحداث فيلم “جيران” للمخرج السوري الكردي “مانو خليل” لتحكي بلغة سينمائية شفيفة وأسلوب فكاهي ساخر عن ديكتاتورية الأسد وهيمنة البعث على كل مفاصل الحياة، وتدميره لحقبة تاريخية جميلة كان الناس يعيشون فيها بتنوعهم الديني والطائفي والعرقي مع بعضهم البعض كجيران، ويستعرض الفيلم عبر ساعتين و4 دقائق قصة الطفل الكردي “سيرو” البالغ من العمر 6 سنوات الذي يقضي سنته الدراسية الأولى في مدرسة عربية وعليه أن يتعايش مع تحولات عالمه الصغير الذي يتغير بشكل جذري بسبب تعاليم البعث السقيمة.
وكانت بداية شغف خليل بالسينما منذ طفولته في القامشلي التي كانت تضم 5 صالات سينما حينذاك وروى لـ”موقع تلفزيون سوريا” أنه كان يدخل إليها خلسة وبطريقة ذكية جداً، ولأنه لم يكن يملك المال الكافي للدخول اعتاد انتظار بدء الفيلم ومشاغلة قاطع التذاكر، وكان ينقد حارس السينما مبلغاً بسيطاً لا يتجاوز ربع قيمة التذكرة ليسمح له بالدخول، وعند دخوله إلى الظلام كان ينبهر لمرأى الشاشة السحرية الكبيرة ويندمج مع حرية عالمها السينمائي ومن هنا تولدت لديه فيما بعد رغبة دراسة السينما التي كانت بالنسبة له مسألة إنسانية و”نضالية” إن صح التعبير للدفاع عن حقوق الناس والمضطهدين الأكراد وغيرهم من القوميات والأديان.
من التاريخ والحقوق إلى السينما
ودرس مانو -كما يقول- في كليتي التاريخ والحقوق سنوات 1981-1986 ولكنه اضطر لتركهما والخروج من سوريا بعدها لدراسة السينما الروائية في تشيكوسلوفاكيا، وتركه لدراسة التاريخ والمحاماة في سوريا كان له أسبابه –كما يقول- فهو ينتمي إلى مكون من مكونات المجتمع السوري (الأكراد) ولديه ثقافة ولغة كانتا محظورتين فترة هيمنة حزب البعث، وعاش الأكراد خلالها اضطهاداً كبيراً ، ويستعيد خليل جوانب من هذا الاضطهاد على المستوى المدرسي حيث كان المعلمون البعثيون في معظمهم يضربون التلاميذ إذا كانوا يتحدثون فيما بينهم باللغة الكردية التي كانت ممنوعة حتى مع شقيقه الذي كان يدرس معه بالمدرسة نفسها.
اعتقال ومنفى
بعد إنهائه الدراسة في تشيكوسلوفاكيا عاد خليل إلى سوريا وتعرض لتجربة اعتقال لأنه انتقد دولة البعث الفاشي وأنتج فيلماً بعنوان “هناك حيث الله ..” وبعد الإفراج عنه أُجبر على الخروج من البلاد ثانية، وكان همه وأمله الوحيد -حسب قوله- أن يبدأ من جديد في تصوير أفلام تتحدث عن الشعب وقيم الحرية والكرامة وأوجاع البشر، وليست أفلاما فكاهية سخيفة تمجد الديكتاتور على غرار ما تنتجه ما تسمى بالمؤسسة العامة للسينما أو التلفزيون السوري الذين كان همهم على الدوام تصوير أفلام ومسلسلات تسخّف التراجيديا وتجعل منها شيئاً اعتيادياً، وأشار خليل إلى أن نظام الأسد كان ولا يزال يجحف بحق السوريين العرب ولكنه أجحف بحق المكون الكردي مرتين لأنهم لا ينتمون إلى المكون العربي حالهم حال اليهود السوريين الذين قضى نظام الأسد على ثقافتهم ولغتهم ووجودهم.
“جيران” فيلم عن حقبة حافظ الأسد
وحول فكرة فيلمه “جيران” أشار خليل إلى أن سيناريو الفيلم كُتب منذ أكثر من ربع قرن وهو يحاكي الواقع السوري في عهد حافظ الأسد وهو العهد الذي لم يتغير منذ ذلك الوقت بل باتت الديكتاتورية والطغيان أكثر توحشاً، وما دمّره وشوهه الأب أكمل الابن تدميره وتشويهه وربما الحفيد وحفيد الحفيد، وتابع أن هؤلاء سيحكمون سوريا بعقلياتهم إلى الأبد معتقدين أنها مزرعة أو حديقة خلفية لهم أو غابة مليئة بالحيوانات وهم الأسود فيها فقط كما هو الحال اليوم، واستدرك محدثنا أن: التاريخ يعلمنا أنه ليس هناك ديكتاتور أبدي أو خالد، فالكل سيموت ويفنى، ولفت مخرج الفيلم إلى أن فكرة فيلمه هي استحضار لتجربته الشخصية وما عايشه طفلاً وشاباً في مملكة الرعب والخوف، البلد الذي يحكمه 15 جهاز مخابرات والجار فيه يتجسس على جاره لدى المخابرات وحيث تنعدم قوانين الكرامة والأخلاق والمحبة والتسامح.
بين القامشلي وكردستان العراق
ولم يُخْفِ مخرج “جيران” وجود صعوبات اعترضت رحلة إنجاز الفيلم ومنها الميزانية الضخمة التي قاربت المليونين ونصف الميلون دولار وهي ميزانية كبيرة مقارنة بالإنتاج السينمائي العربي، ولكنها ليست كبيرة مقارنة بالأفلام الأميركية مثلاً، إضافة إلى صعوبة إيجاد مكان مناسب للتصوير، وكان يتوق -كما يقول- لأن يصور الفيلم في مسقط رأسه القامشلي على الحدود السورية التركية ولكن ظروف الحرب وصعوبات التنقل حالت دون ذلك مما زاد من تكاليف الفيلم مشيراً إلى أنه قام ببناء قرية صغيرة في منطقة دهوك-شمال العراق– لتشبه قرى الجزيرة- ولجأ إلى بناء حدود ومعابر، ومدرسة على غرار المدرسة التي درس فيها طفلاً،
لصعوبة الأخرى -بحسب مخرج الفيلم- تمثّلت في جمع الممثلين إذ كان حريصاً على أن يكونوا معروفين في العالم العربي ولهم قصتهم مع النظام التي تتفاعل مع قصة الفيلم، ولذلك اختار الفنان الكبير “جهاد عبدو“ والفنان “جلال الطويل” والفنان “مازن الناطور” والفنانة “نسيمة الضاهر” وبعض الفنانين الأكراد مثل “زيرك” و“إسماعيل زاغروس” و”ايفان اندرسون” إلى جانب الممثلة البرازيلية “تونا دويك” وهي سورية الأصل من حلب ومشهورة في البرازيل، وكشف خليل أن أكبر صعوبة واجهها الفيلم هي إيجاد طفل يمثل دور “سيرو” حيث أجرى تجارب اختبار لنحو 300 طفل في المخيمات والمدن الأوروبية وداخل سوريا إلى أن استقر الرأي على الطفل “سرهد خليل” الذي مثل دور الطفل سيرو بشكل رائع جداً.
وشارك فيلم “جيران” في المسابقة الرسمية لمهرجان شانغهاي الذي يعتبر من مهرجانات الدرجة الأولى في العالم وحصل على جائزة نقاد السينما في مهرجان سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأميركية التي تقدم لفيلم سينمائي واحد سنوياً وحصد كذلك جائزة السينما الوطنية السويسرية، ورشح لإحدى جوائز مهرجان سولور 2021 وهي أكبر جائزة سينمائية في سويسرا أيضاً.
ويُشار إلى أن “مانو خليل” عمل في التلفزيون التشيكوسلوفاكي كمخرج، حتى تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا، واستمر بعد التقسيم في العمل في التلفزيون السلوفاكي. ما بين عامي 1990 ـ 1996 شارك في العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية وللسينما كممثل. منذ استقراره في سويسرا 1996 وإلى اليوم، صور أكثر من ألف ريبورتاج تلفزيوني أو فيلم إعلاني. كان يقوم بإخراج برنامج في التلفزيون السويسري لمدة خمس سنوات يدعى بارتي بيوبل ويشارك في تصوير وإعداد برامج أخرى عديدة, قبل أن يتفرغ حصرياً للعمل السينمائي كمنتج ومخرج ومدير تصوير مستقل لأفلام وثائقية وروائية. وأخرج حتى الآن 14 فيلماً، منها الأنفال (2005) ودايفيد توليهلدان (2006) 2009 وفيلم زنزانتي بيتي 2009 وفيلم سينمائي دوكودراما من إنتاج التلفزيون السويسري وقناة 3 سات الألمانية تحت عنوان “جنان عدن, قصص من حدائق سويسرا”.
(سوريا)