ذات يوم صيفي من عام 1975 انطفأت حياة الأديبة (ماري يني عطا الله) إحدى رائدات الصحافة النسائية في الوطن العربي بعد ثمانين عاماً أمضتها في خدمة الأدب والصحافة والمجتمع من خلال مجلتها النسائية (مينرفا) التي وصفها جبران خليل جبران في إحدى رسائله بأنها “أحسن مجلة نسائية في الشرق الأدنى”.
ولدت ماري عطا الله في بيروت سنة 1895 لأب وأم يونانيين ودرست في المدرسة الإنكليزية هناك خمس سنوات ثم في مدرسة (زهرة الإحسان) على يد الشيخ إبراهيم المنذر (1875-1950) وأتقنت خمس لغات هي العربية والإنكليزية والفرنسية والروسية واليونانية _ لغة أجدادها – والإسبانية وبعد أن تضلعت في اللغة العربية أخذت تكتب في الصحف والمجلات مثل (الحسناء) و(النفائس) و(الأحوال) و(الوطن) و(المراقب) و(حمص) و(المهذب) كما أنشأت مجلة خاصة بها سمّتها “مينرفا” في الرابع والعشرين من أيلول عام 1916 وكانت أسبوعية تكتبها أختها الكسندرا بخطها الجميل بسبب ظروف الحرب آنذاك فصدر منها حتى الرابع من آذار 1917 اثنان وعشرون عدداً ثم توقفت لتصدر شهرية من جديد في نيسان 1923 وكانت هذه المجلة منبراً حراً لأقلام عدد من أدباء ذلك الوقت.
غادة الكاميليا
حددت ماري عطا الله مبادئ مجلتها في أحد أعدادها الأولى ومنها “تعزيز شأن المرأة والدأب على مساعدة الفتاة الشرقية للنهوض من كبوة الجهل ونيل حقوقها المشروعة ومساواة الرجل في المجتمع ومعرفة واجباتها الزوجية وإدارة منـزلها وتدبير بيتها وتنشئة النشء الحديث على مبادئ الوطنية وخدمة الأمة وتضحية الفرد في سبيل المجموع”
وفي حوار جرى بين ماري يني وسيدة فرنسية سألتها عن مبدئها في مجلتها، وعما إذا كانت ترغب بمساواة المرأة بالرجل، فأجابتها أنها ترغب في إعلاء شأن المرأة ومنحها بعض الحقوق الاجتماعية التي أنكرها عليها الرجل وشرائعه، فما كان من السيدة الفرنسية إلا أن قالت: “الحق الوحيد الذي يجب أن تسعى إليه المرأة هو الأمومة، من هو المشترع الذي سن قانون حرمان المرأة حق التمتع بأطايب الحياة، أليس هو ابن تلك الجاهلة التي ميزت بينه وبين اخته في تربية عوجاء” ( مجلة السيدات والبنات –العدد 10-السنة 1).
ولا تتوخى المجلة من عملها الربح المادي بل الخدمة المجردة ودليلها أن معظم الجرائد والمجلات يوم هبوط النقد السوري جعلت اشتراكاتها على أساس الذهب ورفعتها إلى مستوى يوازي على الأقل مصاريفها وكلفتها أما “مينرفا” فأبقت بدل اشتراكها على حاله رغم كونها أرخص مجلة على الإطلاق رغبة منها في تعميم نشرها بين سائر طبقات الشعب. وتحقيقاً لهذا الهدف دأبت (مينرفا) على تقديم كتاب للمشتركين مرتين كل عام، لتشجيعهم على شرائها والاشتراك فيها ومن هذه الكتب رواية (غادة الكاميليا) التي قُدمت كهدية لمشتركي مينرفا في سنتها الرابعة. ورواية (الفرسان الثلاثة) لإسكندر دوماس.
شهادة جبران
كانت مجلة مينرفا، التي يرمز اسمها للحكمة عند الإغريق، تبحث في الأدب والفن والاجتماع وتخدم المرأة الشرقية وكانت تتميز برصانتها وجدية موضوعاتها وجرأتها في طرح الآراء والقضايا المعاصرة آنذاك مما دعا الأديب الكبير جبران خليل جبران إلى اعتبارها أحسن مجلة نسائية في الشرق الأدنى في إحدى رسائله لصاحبتها ماري يني.
كانت ترويسة المجلة تُكتب بالخط الثلث وتحتها عبارة (مجلة أدب وفن واجتماع) – صاحبتها ماري يني وفي منتصف الغلاف صورة لمينرفا آلهة الحكمة عند اليونان أما بدل الاشتراك في سورية ولبنان فهو 200 قرش سوري وبدل الاشتراك في الخارج نصف ليرة مصرية يُخصم لتلميذات وتلامذة المدارس /25/ بالمئة وكنوع من التشجيع لقراء المجلة دُوِّنت العبارة الآتية على الطرف الأيمن من الغلاف (كل من يقدّم بدل اشتراك خمسة مشتركين جدد تُرسل له المجلة هدية عن سنة وتهدي مشتركيها في السنة كتابين جديدين).
المدير المسؤول عن المجلة، قسطنطين يني شقيق ماري، عمل لاحقاً رئيسَ تحرير لـ جريدة حمص.
وقد خصّصت ماري سنوات طويلة من عمرها لتعزيز دور مجلتها وتطويرها وكانت تقول عنها “ستظل مينرفا أنا وأنا مينرفا فليس لدي من عوالم الحياة ما هو أسمى منها مطلباً وأعز شأناً”.
وتعدّ المجلة كما يقول الباحث (ميشال جحا) في دراسة له بعنوان (ماري عجمي وماري يني رائدتان في الصحافة النسوية) ثاني مجلة نسائية تصدر في لبنان بعد (فتاة لبنان) لصاحبتها (سليمة أبو راشد) التي أُسِّست عام 1914 وهي مجلة رائدها الصدق والكشف عن الحقيقة ناضلت في سبيل حرية الرأي وخدمة المرأة والمجتمع، ودأبت على نشر المقالات الأدبية لكبار الأدباء والشعراء ومعالجة القضايا الفكرية والاجتماعية ونشر القصص المترجمة والمكتوبة بالعربية وقد أفسحت المجلة للكتاب والأدباء المجال لنشر أفكارهم من دون تحفظ مما أعطاها صفة من التنوع يحلو للقراء أن يجدوها في المجلة التي تعكس أحداث العصر.
رسائل أب إلى ابنته
في عام 1930 توقفت مجلة ( مينرفا) عن الصدور لكن ماري لم تتوقف عن الكتابة بل راحت تنشر مقالاتها في مجلات (الفتاة) لهند نوفل و(الفجر) لنجلاء أبي اللمع و(المرأة الجديدة) لجوليا طعمة دمشقية و(الخدر) لعفيفة صعب و(الكرمة) لسلوى أطلس ومجلة (سركيس) ومجلة (المعارف) لوديع نقولا حنا وفي جرائد (لسان الحال) و(البرق) و(الحقيقة) و(النصير) و(الهدية) و(الشعب) و(الأحرار) و(السلام) و(البريد) و(الميزان) و(السائح) وغيرها من صحف بيروت ودمشق وحلب ومصر وسانتياغو ونيويورك كما ترجمت عن الفرنسية كتاب (رسائل أب إلى ابنته) ونشرت قسماً منه في مجلتها (مينرفا) ولم تكن شهرة ماري يني في الخطابة تقل عن شهرتها في الكتابة إذ وقفت على منابر بيروت وحمص ودمشق وصيدا وطرابلس وزحلة وتحدثت في حفلات تكريم كل من مي زيادة وأمين الريحاني وسلمى الصائغ وماري عجمي ورثت كلاً من ولي الدين يكن والمنفلوطي وغيرهما وأول خطاب لها في حفلة عمومية كان باسم بنات حمص ترحيباً بالطيارين العثمانيين فتحي وصادق شهيدي الطيران في فلسطين ودفيني دمشق.
صادقت ماري الأديبات واستقبلت الأدباء حتى غدا منـزلها ملتقى لأهل الأدب وأشبه ما يكون بمنـزل (مدام دي ستال) – كما يقول الأديب عيسى فتوح في دراسته (المرأة العربية والصحافة) ووقفت على المنابر داعية إلى إصلاح المرأة العربية وتحريرها وكانت خطبها تسترعي الأسماع وتثير الاهتمام والإعجاب، وهي التي دفعت (جوليا طعمة دمشقية) إلى إصدار مجلتها (المرأة الجديدة).
ماري في حمص
بعد توقف مجلتها دُعيت ماري من قبل خالها المطران (اثناسيوس عطا الله) إلى تدريس اللغة الفرنسية في مدرسة البنات التي سميت فيما بعد المدرسة النسائية في مدينة حمص -كما تقول قريبتها (فيوليت كباش) التي رافقتها أواخر حياتها، وهناك تعرفت إلى إبراهيم عطا الله أحد مهاجري حمص في سانتياغو عاصمة تشيلي فاقترنت به وارتحلت معه حيث تابعت نشاطها الصحافي والأدبي والاجتماعي في تشيلي، فألّفت كتاب (تاريخ تشيلي) بالعربية ليطلع المهاجرون العرب على تاريخ البلاد التي يقطنونها وطبعته على نفقتها الخاصة ثم وزعته مجاناً بين أبناء الجالية اللبنانية والسورية ولم تلهها أعباء الزواج والواجبات نحو الأسرة والأولاد عن مواصلة الكتابة فكتبت في مجلة (الوطن) التي كان يصدرها الشاعر اللبناني (جان زلاقط) ومجلة (العصبة) التي كانت تصدرها (العصبة الأندلسية) في البرازيل وسعت إلى تأليف الندوة الأدبية في سانتياغو على غرار الرابطة العلمية في أميركا الشمالية وإنشاء جناح عربي في مكتبة سانتياغو الوطنية فاستطاعت بذلك بعث اللغة العربية في محيط لا أثر فيه لآداب الضاد.
وجعلت ماري من منـزلها في تشيلي صالوناً أدبياً ضم إليه مجموعة كبيرة من أهل الأدب والمجتمع والفن على اختلاف مذاهبهم وأجناسهم يقول عنها الأديب (جرجي نقولا باز) في كتيب تذكاري وضعه بمناسبة إكليلها على السيد إبراهيم عطا الله “ماري يني عطا الله امرأة شريفة المبدأ كريمة الطبع سامية الشعور أديبة النفس فطرةً واكتساباً تكاد تذوب لطفاً وحناناً ممتازة بمعرفة الجميل والعطف على الحزين ومواساة المسكين”.
أما الأديبة (عنبرة سلام الخالدي) فتقول في كتابها (جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين) “كانت ماري يني أديبة رقيقة ناعمة تسير في هذا الكون بلطف جذاب وسعي دؤوب وتخطط لغاياتها من غير عنف وتبدي آراءها من دون إصرار أو تسلط”.
توفيت ماري يني في شهر تموز سنة 1975م، بعد معاناة مريرة مع المرض دامت عدة أشهر لتطوى صفحة واحدة من الصحفيات الرائدات في الوطن العربي.
*تلفزيون سوريا