خالد النجار: عن معجزة الشعر

0

جوهر الشعر ومعجزتُه أنّه مِثل الحبّ والموت قديمٌ قِدَم العالَم، صاحَب الإنسان من عصوره البدائية السحيقة الأولى. أجناس أدبية كثيرة ظهرت واختفت عبر الأزمنة والأحقاب. زالت الملاحم وحلّت الرواية محلّها في الزمن الحديث الذي دشّنه ثيربانتس صاحب دون كيخوته. ومن أدبنا العربي اختفت المقامة كشكل قصصي والخرافةُ التي وضع ثبْتاً لها ابن إسحاق النديم في “الفهرست”، وليس ابن النديم كما هو شائع.
ومعجزة الشعر أنّه سبق كثيراً مِن الأشكال والأجناس الأدبية واستمرّ بعد أن اندثرت. بل الشعر هو مؤسِّس اللغة بمعناها الأنطولوجي، لذلك قال فريدرش هولدرلين: “كلُّ ما تبَقّى كان قد أسّسه الشعر”.

والشعر حجر الأساس في تاريخ آداب الشعوب. فجْرُ الأدب هو الشعر. بدأ تاريخ الآداب العربية بالشعر الجاهلي. ولغة الشعر الجاهلي هي أساس لغة العرب. وفي حديث لابن عبّاس، عندما سُئل عن تفسير معاني كلمات القرآن، قال: “تجدونه في لغة العرب في أشعار الجاهليين”. وكذلك الأدب اليوناني بدأ شعراً بغناء الشاعر الأعمى هوميروس، الذي غنّى مجد اليونانيين في القوارب. في البدء كان الشعر. الشعر هو المؤسّس لآداب الشعوب وهو الذي استمرّ اليوم عبر آداب العالم.

هكذا يلمس الشعر حقيقة العالم بكلمات وبتراكيب لغوية تبدو غير حقيقية وغير عقلانية، بيد أنّها – وفي لاعقلانيّتها هذه – هي أكثر تعبيراً عن عالَم الإنسان الداخلي الذي هو أكثر رحابةً من العقل. مع رامبو، ولوتريامون، وفان غوخ، وفريديرش نيتشه، وسيزان الرسّام، أجل؛ فإشكالية الإبداع واحدة في الشعر والرسم.

كسرَ الشعراء والفنّانون القوالب والأشكال المتوارثة؛ هدموا المدارس. كان سيزان يسخر بقوّة من مدارس الفن. بيكاسو عبّر عن معنى مُقارب وكتب جملته الشهيرة: “منذ فان غوخ تحوّلنا إلى عصاميّين”. ذلك أنّ الفن يأتي من الحياة، من العُمق الغامض للإنسان، وليس من أكاديميات ومدارس الفن. وهذا غيّر زاوية النظر والقراءة، ووقَع التحوُّل الخطير؛ لم تعد هناك قواعد مرجعية يُحتكَم إليها ولا أشكال مقدَّسة يجب أن تُراعى، كما هي قواعد الشعر من وزن ورويّ وقافية، وقواعد الفن الكلاسيكي كما عرفه رسّامو عصر النهضة في إيطاليا وهولندا.

وقد نتج عن ذلك أن صارت القصيدة واللوحة، أو أيّ عمل فنّي، مُتضمِّنةً قواعده. العمل الفنّي هو الذي يُحدِّد قواعدَه. والناس لا يدرون أنَّ الخروج عن القواعد هو أكثر عسراً وصعوبة من الامتثال إليها والخضوع إليها. أنْ تتبع القواعد هو كما لو أنّك تسير في طريق معبّدة. أمّا أن تُبدِع أشكالك فهو أن تشقّ دربك الخاصّ وتَسير وسط الليل والمجهول. هذا التحوُّل دفع القارئ لأن يتحوَّل إلى مُشاركٍ في الخلق. صارت القراءة خلْقاً ثانياً؛ إذ لم تعُد لقاءً بين القارئ والشاعر حول شكل واصطلاح خارجي من وزن وقافية. وهكذا تعدّدت عوالم القصيدة بتعدُّد قرّائها. بهذا المدخل علينا قراءة الشعر الحديث.

لتفتَحْ تلك البوّابات التي في أعماقك، والتي تفضي إلى ما تجهله. عندما فتح رامبو تلك البوابات وكتب ذاك المجهول الذي يتدفّق منها، أدرك أنّ ما يكتبه ليس صادراً عنه. وكتب جملته الشهيرة: “أنا هو الآخر”. لم تكن تلك الجملة مجرّد لعب لغويّ، لم تكن بلاغةً خاوية. كان رامبو يدري ما يقول، كما لو كان هناك صوت في أعماقه ــ يجهله ــ يُملي عليه كلماته. ونوادرٌ هُم الناس الذين هُم على تواصُل مع أعماقهم السحيقة. إنها عوالم مخيفة؛ شبيهة بتلك الغرفة المحرَّم فتحها في حكايات “ألف ليلة وليلة”، والتي إذا ما دخلها الإنسان تاهَ في فضاءاتٍ أُخرى لن يغادرها أبداً.

(العربي الجديد)