أحمد سليمان، كاتب وشاعر وإعلامي سوري
أوراق 19- 20
نصوص
عاشق فقد فمه
فراشة تجر طائرة ورقية، عربة يدفعها الصغار وأصواتهم تشق الفضاء.
كأن نبأً طارئ عن جيوش انتحرت ولم يعد هناك مُتسعاً لأي حرب.
لكن برق ابتلع الحديقة
والنار التهمت الطرقات.
همسَ عاشق تبعثر بمقذوفات
بأنَّ المدارس جاثية
ودور الحضانة أكلتها المشافي.
النهر الخجول يمر بفم الحديقة
والبحر يعلن الحداد.
الباعة يتفحصون الأزهار
الأيتام حملوا صور ذويهم.
تاهت الشوارع المؤدية الى عاشق آخر فقد فمه.
للتو رأيت السكاكر تتطاير
فوق أشجار نائمة.
للتو عثرت على فمي قرب مقود طائرة.
لمحت طفلة تغني للبلابل.
الأرانب تتقافز بالفضاء
وكرة الثلج تهرول.
فيما أنا أرتب الورود على مهل.
بعد أعوام – ربما عشرون – أو حتى مئة عام، سيقولون بأنه ثمة مَن حفر المستقبل
لكننا نشم رائحة الجثث التي احترقت.
سوف يعرفون الأمم ومنظماتها التي تاهت عن شعوبها،
زعماء الأديان والطوائف، والقوميات، كذلك الأندية والراقصات.
إلى ذلك الوقت سوف تستمر الفضائيات بتسريب النفاق.
أدرك الجميع على عجل، أنَّ الوقتَ غير متاح للعب، فما قيل عن حرب توقفت كان ملهاة لأخرى.
نسرٌ أمسك بي ودفعني الى الأعلى
اقتنعت بما سربته وكالات الغوث عن توقف معامل تصنيع السلاح، فهمت بأنها ستنتج الألبان، وأن الثكنات ستتحول الى متاحف والسجون إلى حدائق للعشاق.
مع أنها أخبار يتم تدويرها على مسامعنا منذ طفولة الوحل في الشتات، وتنقله ذات المذيعة التي تتشبه بملكة جمال.
مع ذلك رحت أكيل المدائح لصنَّاع “الحياة”.
كتبت عنهم قصائد
كُدت أعلقها على أبواب المُدن المحطمة.
جثوت متفكرا، كأنني أراقب المشهد من الأعلى.
ثم ذهبت إلى سوقٍ للشركات البالية. امتطيت منطاداً يصعد بِي إلى الفضاء.
أذهلني ما رأيت، طائرات حربية تعانق بعضها وأُخرى ترمي الورود على بقايا المُدن.
حتى أن سيدة خرجت من خلف الطائرة وألقت عليَّ سلة أزهار مصحوبة بقُبلة. حينها اصطدمت بغيمة فوقعت الى الأسفل.
لكن نسراً أمسك بي ودفعني الى الأعلى.
رأيت الأرضَ كبقعِ منبسطة، واحياناً ككتل تكسوها أبخرة بيضاء. بحيراتِ وأنهار متفحمة، وشاخصات لموتى تغطي نصف البلاد.
قال لي طائر مر بقربنا:
السلام تحقق لكن الهواء مؤكسد، ثم نقر المنطاد وارتمينا داخل ثقب أسود.
بعد أقل من ثانية استيقظت من نومي. طارت الورود والقُبلات، فكانت الساحات تكتظ بالجثث.
رفيقة أشعاري
اصطادتني بواسطة كتاب، ثم أدخلتني عالمها السحري، كان ذلك أيام طفولتي الممتدة الى الشقاء الأعلى.
شعري الفالت كيفما اتفق، متشبهاً بمشاهير التلفاز، مُستمتعاً بصخبِ الأغاني الرافضة لقيم زائفة، مُتابعاً للأفلام الَّتي تُحاكي الفقر والعوز والمظلومين، إلى جانب كُتب شديدة الوقع عَلى وعيّ الذي بالكاد تشكَّل.
دائم الجلوس قرب أشجار عالية، متلصصاً من فوق حوائط المدرسة، باحثاً عن رفيقة أشعاري، ومدينتي الغارقة في جحور التجمعات السرية، قضيتُ في واحدة مِنها مستمتعاً بأحاديث السياسة والقمع والحريات، ثم انتبهت إلى أنني أواجه عالم شديد التسلطِ، الإنسان فيه مُدان منذ لحظة ولادته.
فكان لا بد من صرف النظر عن طفولتي، ثم انكسرت حيوية الشباب، وفجأة أصبحت أعد أيامي المتبقية في مدينتي.
* ما أخبارك يا ابن بلدي؟ هل مازلت تتلصص على المنشورات؟
– كلا يا معلمتي، لقد تعلمت كتابة دساتير الأحزاب إلى جانب وصايا أُعدها للعشاق، وأحياناً أتابع عُزلتي وهوايتي مع المشاريع الفاشلة، أشعر أنني شديد الازدحام، لا أطيق رأسي.
* كم خيبة حصدت يا فتى منذ أن افترقنا؟
– تعلمين، فأنا لا أطيق الرياضيات والجغرافيا، أحتاجُ الى مكنة كي تحسب ما أتلفه الزمن في عالمي وما بقي لي من خسائر لم أجربها.
* كم صبية أحببت غيري يا ولد؟
– كثيرات، لكنك الأكثر حضوراً عندي، ربما لأنكِ كما الآلهة السادية، لديكما مشتركات بمراقبة المقتولين.
* سأرميكَ بمنامتكَ التي دَهمت عالمي، عليكَ ألا ترميني بورود مسروقة من الحقل المجاور.
– أنتِ أرقْ، بل أعنف لصة تسرق شموع المقابر. سأضعك يوماً في كتاب.
تجفيف الوقت
الساعة الذائبة بلا وقت، كما الأمس، أي قبل أن تلدني الأم التي أبعدتني عنها هذه المقذوفات التي شطرت مدننا.
رأيت أمنا التي قضمت يديها الذئاب .. رأيتها حين خطفتني الثعالب.
في الأمس، هذا “الأمس” الذي يشبه مساء اليوم، وقعت من قمة جبل.
مرت فوقي صخرة.
نهضت
وفي يدي
حفنة ازهار.
هنيئا لي، فقد أدركت في وقت ما أنني أعيش ضربة حظ كمقامر يصطاد وهم خسارته.
الغيمة التي أنام فوقها منذ أعوام مراهقتي صفعتها الريح، فعشت كشاعر يخبئ في جيوبه حروفا وبذور اليقطين.
وقعت أكثر من حرب كبرى ثم تعلمنا الغناء، كما إخوتي الذين ابتلعتهم أدخنة المدافع وبرد المخيمات.
هذه البحار لم تكن ابتلعت اخوتي لو انهم تعلموا الرقص بدلا من الصراخ
أصواتهم شطرت الحدود المفخخة، وفككت المحيطات.
كنت الناجي الأخير، بكتف هشمته عدسة كاميرا تحتوي على صور الجثث.
المحيطات معلقة على القمر
البحار مصلوبة على أجساد النساء والأطفال.
خفر السواحل ورجال الإنقاذ كانوا يلاعبون الأسماك، ثم أدركتنا الحيتان.
رأسي المتدحرج
قبل ساعتين من العام الفائت، أقنعني أحد الدراويش كي ألعب دور رابورت انتحاري من أجل هدف غير معلوم.
دخلت الى الماركت اشتريت بضع غرامات من هذا الذي يفتل الرأس، وعشرون كغ من الخردل ولترين من الخل، واصبعين “تي إن تي” وعشر طائرات واذاعة وخمس مذيعات، يتوسطهن ببغاء يتكلم بهدوء.
ثم انشأت صفحة للبث المباشر، وطلبت من جارتي كي تقدم وصلة رقص على موسيقى موزار بأداء “أندري ريو”.
تصفحت حينها غوغل، استعرت منه أحاديث الصحابة والقساوسة وضعتها إلى جانب أناشيد سليمان.
كذلك استأجرت مقلدا للأصوات وطلبت اليه ان يفتتح الإعلان بكبسة زر على ماء مُقطر أعده سُكارى البؤس.
المشهد الأول: صورة لي أمد فيها يداي، مصافحا شيخا يُقبل بابا الفاتيكان، وحاخاما يسوي قلنسوته مبتسما على وقع أجراس تُقرع، وطبول الكشافة ونواح النسوة المغتصبات.
المشهد الثاني: بدوت جاثياً قرب شارع يؤدي إلى دير قرب حي الأمين، في دمشق الباكية في شام التي اكتسحتها جثت أهل وأصحاب ورفاق حملوا بيارق ورسل سلام.
المشهد الثالث: دخلت الى قيمرية التي خلف الحجاز، واتجهت الى المقهى النائم على كتف صنبور ماء. هناك رأيت فرج الله الحلو فأهداني كتاب يحمل صورة فوتشيك، اهديته وشاحاً ثم اختفى.
المشهد الرابع: كانت سارة التي دهمت مخيلتي، صورها كانت تنزف وعيني تدمع حين أكلتها الغابة، فقد رأيتها بعينيها الواسعتان تغمزان بهما طفولتي، مثل طيف يلاعب الفراشات ويمتطي الغيوم، سارة التي أعرفها، مازالت تحرس منام وفي يديها ازهار وكتاب.
وقد دخلت ذات عشرات وألفين ساعة في مخدع قيل لي بأنه لملكة ووصيفات شدهن السحر الصبياني أعلى رأسي.
رأسي المتدحرج بين أقدام مسوخ هبطوا فجأة إلى عالم لم يكن فيه يوما سوى حدائق وعصافير تختبئ في جيوب الحوائط، حمائم تتجول بين العابرين في صالحية شام والعابد وقصر العظم وقاسيون.
طفل مُعلق على قسطل ماء
الموضات، تلك التي تتصدر الفنون والشعر والآداب، أيضاً حركات التشكيل، حتى المنظمات والجمعيات المدنية، هؤلاء جميعهم تلعثموا أمام الاحتجاجات والثورات.
السياسيون والمفكرون، وحماة البيئة كذلك النخب الأممية، ما زالوا يشتغلون بالتنقيب عن أحدث الألبسة التي تجعلهم بأناقة عصرية.
أمَّا أنا أصفن بصورة عالقة أمامي على شاشة التلفاز.
فردة حذاء طفل مُعلق على قسطل ماء وسط بركة من الدماء.
فيما البعض من سكان هذا العالم، يبحثون عن ضحايا “مودرن “، قضاياهم لا تستدعي الكثير من التفكير، ولا تجعلهم يستقرون في سن الكهولة المبكرة، سأعود إلى هوايتي المفترضة بقيادة الطائرات، مع إنها مضرة بقوانين الطبيعة.
كلام كهذا انتظر سماعه من أفواه المحاربين بالإنابة عن سادة القتل في العالم، لذلك سوف أستقل دراجة وأصبح مجرد موزع بريد وقطع حلوى وأزهار.
وقد قضيت عمري كله كمبرمج حواسيب وتقني لدى شركة اتصالات، ثم خبيراً للرسوم البيانية، واحياناً كنت أعمل مخرجاً على برامج مخصصة لإنتاج الكتالوجات الضوئية. لكنني اليوم، كمن يدفع عربة يسترزق منها للعيش، عربة طائرة حوت الخضار والخبز وسلع يحبها أطفال، أيضاً اقتنيت نسراً أجلسته على كتفي، رسمت على جبيني قرص شمس وطفلة جعلتني أبتسم كعاشق يلاطف حبيبته.
عالمي كله مثل مهن متنقلة لا تجلب لي ثمن باب منزل أو دراجة، لكنني أواظب على هندسته كمهن أترزق منها، ولست أعمل فيها طوال الوقت، كما أنها لا تجلب الأذى للناس، ربما شركة البيوت سوف تتلقى احتجاجاً من بواب العمارة يطلب فيه أن أكف عن مزاحمته بمهن قد يفكر هو بمزاولتها، وهكذا سوف أعود الى مهن أخرى.
سأشتري صاروخاً بحجم مخيمات اللجوء ثم أفرغ محتواه وأحوله الى مستوعب يجتمع فيه الأطفال والسناجب. مهنة تدعمها منظمات حماة البيئة، والنقابات المهنية، وتحقق لي دخلاً لنشر كتبا تدعم التحرر والطبيعة والإنسان، كذلك تؤكد للعالم بأن الجنون الَّذي أمارسه هو مشهد رافض لحماقة القوى الخفية الَّتي تحكم الكوكب.