حيدر هوري: النداء بتقنية الهدم مواربة لقول الحقيقة.. (في هجاء البلاد) لـ ياسر الأطرش

0

الهجرة واللجوء والنفي، وما يوازيها من ألقاب وصفات وتعابير يحملها الإنسان المهاجر أو المنفي أو اللاجئ، تحثه على الشعور بالحنين في منفاه أو مهجره؛ ليتذكر تلك اللحظات التي تفجر في ذاته طاقات روحية متوحشة غالباً، ومسالمة في بعض الأحيان، حيث تتماهى الأضداد ببعضها، وكأنما تحاول أن تعجن وتكون ملامح شخصية جديدة، غريبة عن صاحبها الذي اختلط بتفاصيل ووقائع وأحداث ولغات جديدة،  ولكننا وأمام هذه التناقضات وحالات التشظي التي يشعر بها هذا الإنسان الغريب عن مرابع الطفولة والصبا لا نجد في أحاديثه وتعابيره عن الوطن والبيت والأهل والخلان سوى مفردات الشوق والحنين والحب، وكأنما سيصلون من خلال تلك التعابير وخاصة الشعراء إلى حالة من الصفاء الروحي، الصفاء الذي قد يربطهم بحالة وجودية لا متناهية مع تلك الذاكرة وذاك المكان.

غير أن الشاعر السوري (ياسر الأطرش[i]) يسير على الطرف النقيض من هذه الحالة التعبيرية السائدة في عدد من قصائده، إذ يبدأ مجموعته الشعرية وهو الإنسان المبعد عن أرضه وجذوره بعتبة هادمة، لبناء صور للخرائب الداخلية التي يعاني منها السوري داخلها وخارجها بعد سنوات الحرب الطويلة التي استنزفت فيها كل أسباب الجمال، ولتكون هذه العتبة بمثابة المرآة التي تعكس صورة حقيقية لقبح الحرب والقتلة والمجرمين، وذلك بالمزاوجة بين مفردتي (هجاء) و(البلاد) مع استخدام حرف الجر (في) قبلهما، وكأنما يريد أن يقول باستخدامه لحرف الجرف (في) الذي يعبّر عن الظرفية الحقيقية ما يريد وصفه،  فنجد أنفسنا معه في مضمار هذه الحقيقة، أو ليكون الحرف جسراً يؤكد ويعلّل كنه المعاناة والمأساة السورية بوجه عام ومأساة الشاعر بوجه خاص، ولنصل إلى حقيقة مفادها؛ أن الشاعر (في هجاء البلاد[ii]) يؤكد ذاته ويعبر عن حقيقة الوجع الذي يتوارى في مفرداته وأبياته!

يفتتح الأطرش مجموعته الشعرية بقطعة شعرية من بيتين تحت عنوان (سيرة ذاتية)، في محاولة للتعبير عن مكابدات اللاجئ الذي لا يسعى إلا وراء ما يثبت إنسانه الذي أصبح على طاولة المزادات والبازارات الدولية، وتكاد تكون هذه القطعة الشعرية كفيلة بتلخيص حالة اللاجئ في كل بقاع الأرض.الأرض التي تزاحم عليها المتزاحمون إلى المقامات والعروش والأمجاد المشبوهة، لتعلو أمامنا تلك المفردات التي تقسّم الناس إلى فئات ومستويات منها العالي ومنها المنخفض والمتوسط، فيقول:

“مالي بلعبة أهل الأرض من غرضِ

ولا بعالي جنابٍ أو بمنخفضِ

لأني مريضٌ بإنساني.. ألوذ به

وأسالُ الله أن يبقي على مرضي”

يميل عدد من الشعراء والكتّاب إلى توزيع نصوصهم بتراتبية تتناسب وسياق ومضامين تلك النصوص، لنكون أمام بناء شعوري متوازن وإتقان في توزيع المشاعر والحالات في الوقت ذاته على مساحة البناء الكامل، ما يجعل القارئ أمام حالة قرائية يتحكم بها الكاتب لا هو، ولقد تحقق هذا الأمر لدى الشاعر الأطرش الذي افتتح مجموعته بقطعة حملت اسم (سير ذاتية)، لينهيها بعنوان صادم يختتم به سيرة الإنسان الذي يحاول الحفاظ على قيمه ومبادئه بـ (طلب لجوء)، وفي ذلك إشارة غير مباشرة ومراوغة إلى أن البقعة التي كانت تسمى الوطن أو البلاد، لم تعد صالحة للبقاء الإنساني، والصادم في طلب الشاعر أنه لا يطلب جغرافية مكانية يسكنها بحثا عن الأمان والسلام، وأن هذا الطلب لم يكن مخصوصا بأمة أو عرق أو دولة، حيث كان طلبه نداء عامة يتماهى معه الإنسان الذي يسعى إلى السلام ونبذ أضداده من مولّدات الفجائع والمآسي في زمن تتكاثر وتتوالد فيه أسباب الوجع والظلم والحرمان…

“لا تتركونا وحدنا.. كغيمةٍ نذوبْ

ولتعلموا بأنّني أريد ظلّ منزلٍ.. في حارةٍ قديمةٍ.. في دولة القلوبْ”.

في المنفى لا يستعين ياسر الأطرش كثيرا كحالة غيره من شعراء المنفى والمهجر بالتعابير التي تخلّد الأوطان أو تلك التي تعظّم معنى الهوية في ذهن القارئ، فهو على مسافة جيدة من الموضوعية والواقعية والحقيقة التي تجرّد اللاجئ والمنفي من هذه المفردات، ولا تمنحه الأحقية في أن يناقض الواقع، بل تدفعه إلى القول الذي يتوافق مع هذا الواقع الذي يجعله ضعيفا وكسيرًا ومزدحمًا بالصور الموجعة التي تتلوها الذكرى في كل مساحة زمنية أو مكانية ممكنة، فيمضي ليتحسس قليلا من النور من الحارات الغريبة  ومن الضياء الذي يشعّ في وجوه الآخرين، ولا ينسى أن يخاف على لغته الغريبة عن أهل هذه الحارات..

“ما بين رفض ملامح المدن الغريبة

وانتحار الظلّ في المنفى

أرتب ما تبقّى من خطاي

لكي أموت كما أريد

معانقا لغتي بريئًا من تراب الآخرين”.

 ومع ذلك لا يستطيع الأطرش أن يتحرر بشكل مطلق من بلاده، فنراه كغيره من الشعراء أمام اختبارات المنفى والمهجر، حين يغالبه الشوق والحنين، ولكنه يميل إلى الوطن/ الضيعة، ربّما يمثل هذا الميل همسا خافتا جدّا عن حالة العجز في الخلاص من أثر الخطوات في أزقتها القديمة، وفي النكران لبراءات الإنسان الكامنة في تراب القرى التي لا أطماع أو عروش توقظ الوحش في الإنسان، لهذا كان حنينه لهذه الوطن البريء الصغير بالرغم من وجوده في حارات المنفى المغرية.

“حارات إسطنبول مغرية

ينام العاشقون ولا تنام

كأنها موصولة بالغيب

لكن حضن ضيعتنا الصغير يظل أوسع

فهو يحتضن المدى ويحد أطراف الضياء

ولا يخون الراحلين”.

نصوص الأطرش على امتداد صفحات المجموعة حافلة ومزدحمة بالأوجاع والمعاناة والدموع والتعب، وكل ما يُعرّف الإنسان والقارئ بما تشهده هذه الأرض من فجائع وحروب، لذلك من الطبيعي أن يعلو صوت اليأس، أو صوت الواقع في أبياته المعجونة بآلام المتماهي معها والممزوج في تفاصيلها، ولأن الواقع مزدحم بالمصائب والمعاناة، فلقد خصص لها ياسر قصيدة حملت اسم (سيرة الأرض)، ومن يتنقل بين أبياتها سيرى بأنها تستحق اسم (سيرة الفجائع)..

“يا قادمين من الأحلام لا تلجوا

بوابة الأرض، إن الناس قد جمعوا

مرّوا إلى غدكم من غير كوكبنا

ولا تكونوا كمن في الفخ قد وقعوا”.

أما في قصيدته (في هجاء البلاد)، والتي شكلت عتبة المجموعة الشعرية، ففيها تتكاثف جمل اليأس ومشاعر الخذلان والغضب التي يستخلص منها الشاعر جموح الكره والبغض من هذه البلاد التي لا تصون كرامة، ولا تحفظ حقاً، من هذه البلاد التي تسلب من أبنائها حناجرها وملح عيونها، فتتعامد فيها أشياء الظلم مع أركان الجريمة، فتصير المدن منافقة، والطرقات مرحبة بالغزاة، وتفقد الشمس قيمة شروقها، لتفقد تلك البلاد أمام ذلك حق الحنين إليها في قلوب سكّانها الهاربين منها

“لا قبر للأحلام، نبحث هاهنا

في الغيب عن قبر به نستوثقُ

فهناك خانتنا القبور ولم تدم

سترا علينا، والعراء مؤرّقُ

فضحت بقايا الراحلين، كأنَنا

صور على جسر الفضيحة نلصق”.

ولأن الإنسان المنفي أو المهجّر يفقد توازنه بين متقابلين هما الحنين إلى الأمس أو الفرح بالخلاص المؤقت، لا يستطيع الأطرش إلا أن يكون مغامرا كغيره ممن يعانون من هذه الغربة والاغتراب بين هذه العوالم المتقابلة والمتقلبة، ليجد نفسه كغيره مصابا بداء الشوق إلى الأمكنة التي نسجت ذكرياته وأحلامه، فتحضر المدن العزيزة على قلبه أمثال دمشق وسراقب، ويحضر مع هذه الأمكنة الوجع وتلك الصفحات الصفراء في الذاكرة والمخيلة لتصير الجمادات حيّة أمامه والأمكنة من طين وماء.

“دمشق تعرف من همسات أعيننا

كم اغتربنا وكم جعنا بلا وطن

وكم شكونا لبرد الليل غربتنا

وللمقاعد، والأحجار، والسفن

وكم سعينا إلى الأحلام نوقظها

حتى تمرِّر طيف الشام في وسن”.

يمكن القول بأن الأطرش (في هجاء البلاد) حاول أن يقول ما أراده عن هواجسه وأوجاعه وآماله وأحزانه بأن ينادي بما يتوافق والواقع الذي صار مثقلا بالتقييمات التي أصبحت على الطرف النقيض من الحقيقة والمبادئ والقيم الإنسانية، فكلنا نرى ازدواجية المعايير وتعددها في التعامل مع القضايا والأحداث الراهنة في هذا العالم، وذلك باختلاف الضحايا سواء كانت أشخاصًا أو جغرافيات أو شعوباً أو حتى أطلالا للأمم والحضارات السابقة.


[i] ياسر الأطرش شاعر وكاتب صحفي سوري من مدينة سراقب.
[ii] في هجاء البلاد مجموعة شعرية صادرة عن دار ميسلون للطباعة والنشر في عام 2018

*تلفزيون سوريا