حوار: نورة البدوي
يثير كتاب “الفلسفة العربية الإسلامية و الاستتيقا الجديدة”للأكاديميوحيد اللجمي مدرس الفلسفة و الجماليات بتونس إشكالات عدة، حيث يأخذنا اللجمي من خلال كتابه إلى التعمق في مضامين علم الحسن في الفكر العربي الإسلامي و الوقوف على مراحله الفلسفية و العلمية و الفنية ليكشف لنا عن أصالة المفهوم و عمق مضامينه التي تعود إلى ما يزيد عن عشرة قرون، مبينا بذلك تعويض علم الحسن بمفاهيم مسقطة و دخيلة و هي ما يعرف بالاستتيقا كمصطلح غربيا بالأساس.
كما يعرض كاتبنا معوقات تطور علم الحسن مختزلا إياها فيما لحق بالثقافة العربية من تشوهات فكرية و تاريخية و حضارية أثرت في مسار تطوره رغم وجود العديد من المفكرين الذين كانت لهم بصمتهم في التطور المعرفي لهذا العلم مثل التوحيدي والجاحظ والفارابي وابن النديمو ابن باجة غير أنه مع الفيلسوف ابن الهيثم تم وضع منظومة حسنية متكاملة الأركان أثرت فيما بعد في تطور الفكر الاستتيقي و التجربة الفنية في الغرب.
بهذه الإشكالات يقدم اللجمي في حواره مع جريدة ايلاف مسارا كاملا لبحثه في علم الحسن في الفلسفة العربية الإسلاميةمعتبرا “أن علم الحسن بقى خطابا مغيبا في العديد من مراحل تاريخ الفكر العربي الإسلامي أو أنه ظهر كشذرات متناثرة هنا وهناك دون نسقية فكرية وفلسفية قائمة ومستقلة بذاتها رغم تفطن الفكر الغربي لأهمية ما بلوره ابن الهيثم في الفلسفة العربية الإسلامية لما يعرف بعلم الحسن و مفهوم الاستحسان باعتبار أن العديد من الفنانين في الغرب اعتمدوا قواعد الحسن لابن الهيثم لتشكيل أعمالهم الفنية.”
– لماذا اهتمامك اليوم بعلم الحسن في الفكر العربي الإسلامي؟
لقد جاء الاهتمام بعلم الحسن في الفكر العربي الإسلامي من خلال كتابي “الفلسفة العربية الإسلامية والإستتيقا الجديدة” لأسباب عدة وأهمها إزاحة اللثام عن كتاب أعتبر منذ القرن العاشر ميلادي كتابا علميا بالأساس وهو كتاب في البصريات من خلال تفحص الفصل الثالث والأخير من هذا الكتاب التفحص العلمي والفلسفي الدقيق فقد خصص ابن الهيثم هذا الفصل برمته للبحث في مسألتين أساسيتين، الأولى ، هي الاشتغال على المفاهيم ومن هنا عمد ابن الهيثم إلى استعمال مفهوم “الحسن” عوضا عن مفهوم الجمال أو الجميل كما أنه استطاع أن يستخرج من هذا المفهوم؛ المفهوم الخاص “بالحكم الذوقي” الذي أعتبر هذا “الحكم” اكتشافا من اكتشافات الفلسفة الكانطية من خلال كتابه (نقد ملكة الحكم).
في حين أن ابن الهيثم كان سبّاقا لهذا الاكتشاف من خلال اعتماده مفهوم “الاستحسان” وهو مفهوم مستخرج من مفهوم الحسن الذي وضعه كبديل عن مفهوم الجمال، وقد وضع ابن الهيثم مفهوم الاستحسان في موضعه اللغوي والمنطقي والتفكري والفلسفي لدرجة أنه أصبح يحمل القيمة ذاتها التي وجدناها فيما بعد في كتاب (نقد ملكة الحكم)لكانط.
ومن بين الأسباب التي جعلتنا نهتم بهذه المقاربة الطريفة والنموذجية لابن الهيثم هو؛ تفطن الفكر الغربي الحديث والمعاصر لخطورة وأهمية ما قدمه ابن الهيثم في منظومته الحسنية باعتبار أن العديد من الفنانين في الغرب اعتمدوا قواعد الحسن بن الهيثم في علم الحسن لتشكيل أعمالهم الفنية، ونذكر على سبيل المثال الفنان الفرنسي الكبير نيكولا بوسان الذي نقل العديد من نصوص ابن الهيثم حرفيا في رسائله المعتمدة لتعريف الفنان الحق، دون أن ننسى إسهامات بعض من شرّاح وناقدي الفن في الفكر الغربي في التعريف بهذا الفيلسوف العربي مما جعل العديد من الفنانين والمنظرين ينفتحون على كتاب (المناظر) ليكون أرضية لأعمالهم الفكرية وإبداعاتهم الفنية، وأخيرا وأهم الأسباب التي دفعتني للحفر في هذا المجال بالذات هو إعادة النظر في الفكر الإسلامي باعتباره فكرا منفتحا على جميع المجالات دون قيد أو شرط ومن بين هذه المجالات الفنون والخطابات الحسنية التي لم تكن ليقع تحريمها لولا ثقافة التعصب والانغلاق والوحدوية والكراهية وهي الثقافة التي أبعدتنا على أن نكون على أحسن تقويم أخلاقا وخلقا وهي الثقافة المسقطة التي لا علاقة لها بالإسلام الصحيح وهو إسلام النص المقدس.
– كيف أثر الواقع الديني في تطور ما يعرف بفلسفة الجمال أو علم الحسن في الفكر العربي؟
أولا، لابد لنا أن نفرق في هذا الطرح بين ما هو ديني في حد ذاته، باعتبار أن الدين أو الأديان عامة، إنما وجدت من أجل ترسيخ مبادئ وقيم إنسانية معينة قد تختلف من عقيدة إلى أخرى ولكنها تتفق في مجملها على ترسيخ المبادئ الإنسانية الكونية المثلى، وأعتقد أن الرسالة المؤكدة لكل الأديان على اختلافها وخاصة منها الأديان السماوية هي ترسيخ هذه المثل الكونية التي تؤكّد على قيم كلية مثل العدالة والتسامح والتعايش السلمي وحسن التواصل والمحبةوالخير إلى آخره من القيم السامية.
في حين أننا عندما نتحدث عن الواقع الديني باعتباره الواقع المعيش،حيث أنه من المفروض تطبيق ما جاء به الدين من قيم مثلىكتلك التي قمنا بتحديدها، إلا أننا نجد أنفسنا على العكس من ذلك مع واقع فكري مغاير تماما لما يجب عليه أن يكون الواقع الإنساني،وبالتالي نجد أنفسنا مع واقع يدفع بالمجتمعات إلى التديّن المغلوط والمشوّه ودفعهالتتبنىسلوكات غريبة وقد تكون شاذة ومخيفة في بعض الأحيان،وهي سلوكاتلا تتماشى وكنه الديانات وقيمها الإنسانية الكونية المعتدلة.
ويعود السبب الرئيسي في توجيه المضامين الدينية المثالية في عمومها نحو الأفكار المتطرفة والسلوكات العدوانية إلى اختلال الفكر العقائدي الذي أصبح منقادا من مجموعة من المتطفلين والمشعوذين والدخلاء والمتربصين بكل ما هو خيّر وجميل، ولقد كان دور هؤلاءعادة منذ نشأة الأديانهو مزج الدين بالفكر الخرافي وتوشيح نصه بالخيال الأسطوري وتعقيبه بالتفسيرات والتأويلات المسقطة، زد على ذلك ما نعيشه اليوم من تداخلهجين ولكنه مقصود بين الدين والسياسة من أجل مصالح وغايات خاصة لا علاقة لها بأصل المبادئ التي دعا إليها الدين.
كل ذلك يمثل واقعنا الديني اليوم وهو واقع حوّل كل القيم السامية التي دعت إليها الديانات السماوية ومن بينها الدين الإسلامي؛ حوّلهاإلى منظومة متردية لا تتماشى والسبب الحقيقي الذي وجد من أجله الدين وخلق من أجله الإنسان.
هذا هو بحسب اعتقادي الفرق بين الديني من جهة والواقع الديني من جهة ثانية، وهو ذاته الفرق بين الدعوة للعيش معا في سلام والدعوة لترهيب الآخر والتخلص منه بدعوى الاختلاف الممنوع والمحرم، ذلك هو تماما واقعنا اليوم، وليس أدل على ذلك من الحادث الرهيب الذي وقع مؤخرا في أحد ضواحي العاصمة الباريسية من ذبح أحد الطلبة لأستاذ التاريخ من أجل رأي ذاتي أو اعتقادخاطئ أو تصرف لا يمكن له أن يغير في مجرى تاريخ الديانات القوية قيد أنملة.
إلا أن التعصب العقائديوغلبة الثقافة والتراث الخاص المليء بالمغالطات والتشوهات الفكرية والتاريخية والحضارية والتي ألخصها كلها في مفهوم “القبح المطبق” الذي لا قبله ولا بعده قبح، إن هذا القبح المطبقالمسلط على دين عمل في نصه المقدس على استعمال وترسيخ في العديد من مواضعه مفاهيم من مثل الجليل والجميل والحسن تجعل من الدين الإسلامي دين عنف وترهيب وكراهية واعتداء متواصل على كل من يخالف فكره وفكر المتدين الأعمى.
هكذا تسقط أمام هذه الثقافة العرجاء وهذا التراث البربري وهذه النمطية القاتلة كل إمكانية لبناء ثقافة متحررة من هذا التدين المتعصب ويسقط أسمى وأجمل ما قاله الإسلام الحق في النسيان أو التجاهل المتعمد من مثل قوله تعالى : “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” وقوله : ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” وقوله : ” إن الدين عند الله الإسلام.” ومعنى مفهوم الإسلام هنا ليس فقط نسبة إلى الدين بشعائره وشرائعه المختلفة ولكن الإسلام بما هو السلام والمحبة والإخاء بين كل الناس جميعاوالترفع عن الأحقاد والكراهية والعداوة،فكلما فتحنا كتب التفسير الصفراء التي تجاوزت أعمارها مئات السنين دون إعمال للعقل وهي كتب بقيت حبيسة لثقافة متغلغلة في التبعية الفكرية والتسليم الأعمى وخاصة رفض الآخر كوجود وكذات وكهوية قائمة بذاتها، فإننا لا يمكن لنا مع هذه التبعية العمياء أن نصل إلى نتيجة تجعلنا نعتبر الإسلام دعوة للسلام والعيش المشترك.
لذلكوفي هذا الإطار لابد لنا أننبرئ الدين الإسلامي من أن يكون السبب المباشر كما يشاع دائما في تعطيل الفكر العربي في الخوض في مسائل فكرية من مثل الجمال أو الحسن وتمثلاتها الفلسفية والحسيّة أو رفضه وتحريمه بطريقة من الطرق للصور الفنية وما يرتبط بها من خطابات جمالية.
بل إن الواقع الديني الذي أشرنا إلى بعض من ظواهره السلبية هو الذي كان السبب المباشر في نكوص العديد من الفنون في العالم الإسلامي من مثل فن النحت والرسم والتي وإن وقع تحريمها في العديد من بقاع العالم الإسلامي،إن لم يكن في جلها فإن هذا التحريم كان نتاج واقع ديني ثقافي لا علاقة له بأصل النص الديني وأصل مبادئه السامية التي هي في الحقيقة المبادئ التي ترتفع إلى درجة قصوى من الاعتبارات الفنية والجمالية التي قد تصل إلى درجة امتلاك الإسلام فلسفة فنية وجمالية متكاملة الأركان لا يمكن أن تظهر لنا جليا من دون أن نخلص الإسلام من واقعه الديني المتردي، عندها فقط ندرك جيدا أن نشوء نظريات فلسفية من داخل الفكر الإسلامي، من مثل نظرية في الفن والجمال أو الحسن – باعتبار أن مفهوم الحسن هو المفهوم الأكثر قربا من المنظومة المفاهيمية لهذا الدين -ممكنا إلى أبعد الحدود.
– أيمكن اعتبارأن التركيبة السيكولوجية العربية أثرت سلبا فيما يعرف بعلم الحسن؟
يجب أن ندرك جيدا أن المجتمعات العربية الإسلامية قديما و حديثا قد خلطت بين مفهومين أساسيين لا يمكن الخلط بينها رغم تقاطعهما في العديد من المواضع، وهو ما أدى إلى الخلط بين واقعين مختلفين وأقصد بذلك مفهوم الثقافي أو الواقع الثقافي من جهة ومفهوم الديني أو الواقع الديني من جهة ثانية.
حيث أنه كان من الصعب على الفكر العربي الإسلامي العامي خاصة التمييز بين ما هو ثقافي باعتباره تهذيب لوجود فكري وتعاملي وتواصلي بين مجموعات مختلفة أو متجانسة من البشر بغض النظر عن انتماءاتهم اللغوية والعرقية والدينية وهو مكتسب حضاري تراكمي متطوريعكس تركيبة اجتماعية وسلوكية وسيكولوجية معينة، وما هو ديني باعتباره الخطاب الذي يحدد بطرق معينة المبادئ والقيم الإنسانية الكونية والتي تخطط لما يجب عليه أن يكون الإنسان المدني المتحضر.
وعلى ذكر مفهوم المدنية والتحضر من المهم أن أشير هنا إلى أن الواقع الذي يعيشه الإنسان في أي مكان من العالم لابد أن يؤثر في تركيبته النفسية بطريقة مباشرة فيوجهها ويوجه سلوكها بحسب درجة الانتماء والتمرس على الأشياء والتطبع بها في أطار زماني ومكاني معين، فمن يسكن المدينة على سبيل المثال سيتطبع بسلوكات المدينة ومدنيتها ومن يسكن القرى سيكون له نصيب منها ومن طبيعة محيطها وطبيعة ساكنيها،ونحن نعلم جيدا كيف أن الإسلام الأول عمل على ترسيخ مفهوم المدينة والمدنيّة على حساب مفهوم القرية باعتبار أن المدينة هي مكون أساسي من مكونات الإسلام، وليست هجرة الرسول من مكة إلى المدينة سوى إشارة مركزية لفهم سيكولوجية الفرد وطبيعة تكونه ومدى تأثيره في المحيط الذي يعيش فيه وتأثره به، فهجرة الرسول إلى يثرب كانت من قريش أو ما سميت أيضا في القرآن بأم القرى : ” ولننذر أم القرى ومن حولها”.
وهو نموذج من الواقع القروي السائد في ذلك الوقت والذي عمل الإسلام بكل جهده على تعويضه بأسلوب جديد من العيش المشترك وهو العيش بالمدينة وبفكر المدنية، فكان اختيار الرسول على يثرب كرمز لهذه المدنيّة الجديدة في المدينة المنورة التي هي في الحقيقة غريبة في معناها ورمزيتها عن سيكولوجية الفرد في ذلك الوقت، وأقول غريبة ومستهجنة لسيكولوجية القرىبالتحديد التي لا تؤمن إلا بفكر الانغلاق والوحدانية والعصبية أي بالرأي الواحد، في حين عملت المدنيّة الجديدة على ترسيخ فكرة التعدد والاختلاف والتعايش مع الآخر وهو أهم مغزى من هذه الهجرة من القرية إلى المدينة.
ورغم هذه التعددية المطلوبة في الفكر الإسلامي ما بعد الهجرة لم يستطع الفكر العربي التخلص تماما وإلى حد هذه اللحظة من الفكر الأحادي الذي لا يؤمن بالتجديد والتطور والتنوع والاختلاف ولا بأي فكر منفتح على علوم وثقافات لا تتماشى والفكر الديني، لذلك كان التعصب الديني يمنع منعا باتا الحديث في مسائل لا تعمّق القول الديني إن كان نصا أو سيرة نبوية لأن تصورهم للدين كان تصورا أخروياً أي أن الآخرة هي الهدف الأسمى من الوجود الإنساني وكل ما يسبق ذلك إنما هو تمرين متواصل لهذه الآخرة المنتظرة، لذلك كانمن الواجب على كل مسلم في هذا الإطار الفكري الضيق أن يتجاوز كل الأفكار المستنيرة وكل خطابات العلوم التي لا تخدم هذا الهدف أي الاستعداد الجيد لليوم الآخر، بل لابد من استبعاد هذه الخطابات وإن لزم الأمر تحريمها.
ومن ذلك جاء تحريم الفنون على اختلافها وكل ما يتعلق بها من فلسفات، ففن الرسم أو التزويقعلى سبيل المثال هو عبارة عن تقليد الإنسان للخلق الإلاهي والحديث عن الجمال والحسن إنما هوحديث في ملذات الدنيا، فكان التحريم هو الحل الأمثل لتنغلق الذات داخل الشعائر الدينية وينغلق الدين على الإنسان. لم تكن التركيبة السيكولوجية المتدينة للمسلمين إذا تسمح في الخوض في مسائل دنيوية قد يراد بها طلب اللذة والمتعة وبالتالي وجب تحريمها التحريم المطلق فالجمال والحسن واستحسان الصورة المستحسنة خارج الصورة الإلاهية على سبيل المثال إنما هي رجس من عمل الشيطان ومن الواجب تجنبه باعتبار أنه يبعدنا عن أصل الدين بحسبهم.
هكذا تبدو إذا التركيبة السيكولوجية العربية على ما هي عليه من تعصب وتذبذب وتأخر فكري والذي يعود إلى هذا الاختلال الفادح في قياس مقامات العقل وتعقلاته، ولا أعتقد أن المشكلة تكمن في الإسلام ولا في الفكر الإسلامي في حد ذاته الذي طالما وقع تشويهه بالتفسيرات والتحليلات اللامعقولة بل إن المشكلة تكمن في فئة كثيرة من معتنقي هذا الفكر وهم الذين تعودوا تبعا لإرث جغرافي واجتماعي وثقافي ونفسي وعقائدي تميز بوحدوية الموقف والبقاء للأقوى وسلطة الخواص، وهي كلها من السلوكات التي أثرت كثيرا في التطور الفلسفي والعلمي والثقافي والفني فيما بعد نشوء الحضارة العربية الجديدة أي ما بعد الجاهلية بل وقد تكون هنالك العديد من المجالات الأخرى التي بقيت مغيبة أو معلقة أو منسية عن قصد من مثل الفن بمعناه الواسع والمخصوص كإنتاج عملي وما يتعلق به من علوم نظرية من مثل علم الحسن وهو ما تعودنا على تسميته بعلم الجمال أو علم الإستتيقا، وهي التسمية التي بقيت مستعملة إلى حد يومنا هذا من دون إدراك للمغالطات المفاهيمية والفكرية والفلسفية التي تحوم حول هذا الاستعمال.
– في كتابك استشهدت بنص للفيلسوف فتحي التريكي وهو نقد موجه لحاضر الواقع والفكرالعربي فهل فلسفة الحسن لم تجد مكانا لها اليوم بيننا؟
تدهور الواقع العربي الإسلامي أمر معقد إلى أقصى الحدود ولا يمكن لنا في حيز ضيق فهم ومعرفة الأسباب المباشرة وغير المباشرة في ما تعاني منه اليوم هذه المجتمعات التي قيل فيها بأنها خير أمة أخرجت للناس، وقد يصعب علينا أيضا طرح الحلول الممكنة بسبب تعقد وتشعب الأسباب، ولكن قد أقدم بعض الأمثلة لتلك الأسباب التي جعلتنا نعيش هذا الواقع المتردي وهي أمثلة من تاريخ الفكر الإسلامي القديم بقيت تقريبا هي ذاتها في عصرنا الحديث والمعاصر.
فمسألة الخلافات والصراعات الكبرى التي عقبت وفاة الرسول طبعت كامل التاريخ الإسلامي من مثل الفتنة الكبرى منذ مقتل عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان بطريقة تذكرنا بالطرق الداعشية في التفنن في القتل والتمثيل بالجثث تمثيلا في غاية القبح،ومثلما قتل أيضا طلحة والزبير وغيرهم من الأئمة وظهور الخوارج وتفرع المذاهب وتكاثر الفرق كالمعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة وما تفرع عن هذه المذاهب من الفرق قد يصل إلى العشرات إن لم نقل المئات، ورغم أن هنالك من يحاول التخفيف من حدة هذه الخلافات التي نشأت في فترة لم تكن من المفترض أن تنشأ فيها أو أن يجد لها تبريرا مقنعا، كان هناك من يحاول جاهدا انكارها وطمسها كليا، إلا أن هذا التخفيف وهذا الانكار لن يمنع من التأكيد على ما في تاريخ الحضارة العربية من إخلالات كبرى أضرت كثيرا بقواعد التعامل الإنساني وأخلاقيات التحاور التي أظهرت ما لا يمكن إخفاؤه من قبح متفش في هذه الأمة.
قبح لم تستطع التعاليم الإسلامية معالجته بكل ما فيها من دعاوي متكررة لنشر مبادئ ومعاني الحسن والجمال على المستوى الفكري وعلى المستوى التطبيقي. لقد استطاع المفكر التونسي فتحي التريكي في العديد من كتاباته التي تهتم بفلسفة التعايش لا فقط في الفكر العربي الإسلامي بل وكذلك في الفكر الكوني في كليته وشموليته، لقد مثل مفهوم العيش المشترك في كتابه : “فلسفة الحياة اليومية” ركيزة لفلسفة تصف الواقع الفكري والحضاري المتردي للفكر العربي المعاصر الذي بقي تابعا وفياللسلف ولشيوخ الماضي المظلم حيث أن المعقولية العربية الآن كما يقول هذا المفكر الأصيل : “ما تزال خاضعة إلى منهجية المحاكاة في تعاملها مع قضايانا اليومية. مازالت تبحث عن أقوال السلف وأعمالهم لفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل، فلحل مشاكلنا الاجتماعية والشخصية نعود إلى الكتب الصفراءبحثاً عن الحلول، وأحياناً حتى عند المشعوذين والدجالين كما نعود إلى شيوخ الماضي وكأن لديهم مفاتيح القدر. فالوعي السلفي الذي يسود اليوم في المعقولية العربية هو وعي مغلق ومتحجر يقوم على عبادة الأسلاف ويرفض كل إبداع وكل تفكير عقلي مشفوع ببرهان بما أن برهانه الوحيد هو ما أتى به السلف وبما أن ثقافته ثقافة تكفير وليست ثقافة تفكير.”
فمن الطبيعي ألا نجد في هذا الفكر مكانا لتطوير مباحث من مثل المباحث الجمالية حيث بقي الخطاب مغيبا في العديد من مراحل تاريخ الفكر العربي الإسلامي أو أنه ظهر كشذرات متناثرة هنا وهناك دون نسقية فكرية وفلسفية قائمة ومستقلة بذلتها، فقد تجلى الحديث في الجمال والحسن كما بينت ذلك في كتابي : ” الفلسفة العربية الإسلامية والإستتيقا الجديدة ” عند العديد من المفكرين العرب من مثل التوحيدي والجاحظ والفارابي وابن النديم وغيرهم إلا أن قضية الحسن لم تتحول في الحقيقة إلى منظومة فكرية وفلسفية سوى مع الحسن بن الهيثم الذي استطاع من خلال كتابه ” المناظر” أن يطأ أرضا جديدة لميطأها قبله أحد من المفكرين حيث أن الاكتشاف الفلسفي المنقطع النظير الذي قام به ابن الهيثم من خلال اكتشافه للمفهوم المناسب أي مفهوم “الحسن” للمنظومة الفكرية المناسبة أي المنظومة الجمالية أو بالأحرى المنظومة الحسنية نسبة إلى مفهوم الحسن لم يجد صداه في القرن العاشر ميلادي ومع بداية الدولة العباسية أي عند ظهور كتاب ابن الهيثم وإلى حد هذا اليوم وقد يكون كتابنا “الفلسفة العربية الإسلامية والإستتيقا الجديدة” منطلقا ومحاولة للكشف عن أهمية كتاب “المناظر” لابن الهيثم في إرساء منظومة فلسفية حسنية (جمالية) قد تحمل قيمة فكرية كبيرة كتلك التي حملها فلاسفة الغرب من مثل بومقارتنوكانطوهيغل وغيرهم من الفلاسفة الذين تركوا أثرا عظيما في البحوث الإستتيقية.
إن واقعنا اليومي والذي أشرنا إليه مرارا والذي بدأ مع الدولة العباسية حيث بدأت تتشكل الثقافة الإسلامية التي بقيت إلى حد عصرنا الحديث، تلك الثقافة التي أشرنا إليها في حديثنا السابق والتي عمدت على سبيل المثال إلى اعتبار السنّة النبوية إنما هي الوحي الثاني بعد القرآن ومنذ ذلك الوقت أصبح من العسير علينا الخروج عن الكتاب المقدس والسنة والإجماع، وحتى ندرك استمرارية هذه الثقافة العرجاء إلى يومنا هذا ما حدث في حرب سنة 1967 والنكسة العربية الإسلامية الكبرى حيث كان التفسير الوحيد السائد في ذلك الوقت هو أن السبب لهذه الهزيمة النكراء هو خروج النساء كاسيات عاريات وهو أغبى ما يمكن أن نفسر به هذه الهزيمة ولكنها هي ذاتها الثقافة التي وقفت في وجه كل الخطابات الإبداعية ومن بينها خطاب الجمال والحسن.
– لماذا بقيت قضية “الإستتيقا” في الفكر العربي الاسلامي سجينة مرحلة تاريخية معينة؟
في الحقيقة لا يمكن أن نتحدث عن مفهوم الإستتيقا في الفكر العربي الإسلامي سوى على سبيل الاستعارة، فالمفهوم هو صناعة غربية بالأساس وقد ظهر لأول مرة في معناه الذي نفهمه به اليوم مع كتاب الإستتيقا للفيلسوف ألكسندر قوتيلاببومقارتن في القرن الثامن عشر، وعندما نتحدث عن المفهوم السجين أو المنظومة السجينة فإن هذا التعبير الذي جاء في السؤال كان في غاية من الدقة.
حيث أن الفكر العربي الإسلامي في مسألة الجماليات بقي في غالب الأحيان سجين المنظومات الفكرية والفلسفية الغربيّة حتى أنهم استعاروااستعارة مقيتة المفهوم المستعمل من طرف هذا الفكر الغربي أي مفهوم ‘الإستتيقا”دون محاولةللبحث الجاد عن المفهوم الأصيل الذي من الواجب أن يعود إلى اللغة العربية ليستخرج منها مفهوماً نستطيع أن نؤسس عليه منظومة فلسفيةفي هذا المجال تكون قائمة بذاتها. وخاصة أننا نعلم جيدا أنه لا فلسفة ولا منظومة فكرية حقيقية دون خلق للمفاهيم المناسبة وشحنها بالمعاني والفلسفات المناسبة.
يبقى أن المفكر الوحيد منذ تاريخ الفكر العربي الإسلامي قديما وإلى يومنا هذا الذي استطاع فعل ذلك باقتدار هو الحسن بن الهيثم من خلال كتابه “المناظر” وهو كتاب في البصريات، وخلافا لذلك فإن كل ما وجد من حديث في الإستتيقا والجماليات في الفكر العربي الإسلامي بقيت مجرد تحليلاتواستنتاجات وتعليقات ولكنها لا ترتقي في حقيقة الأمر لتكون منظومة فلسفية كتلك التي نجح ابن الهيثم في تأسيسها رغم أنها بقيت مغمورة في كتابه منذ القرن العاشر وإلى حد كتابنا “الفلسفة العربية الإسلامية والإستتيقا الحديثة”، التي لن تكون هذه الإستتيقا سوى علم للحسن وليس علم للجمال كما تعود الجميع على نعته بهكذا نعت.
– أين يقف اليوم الخطاب الفلسفي الحسني اليوم فيما يقدم من أعمال فنية عربية؟
إن المشكلة الكبيرة اليوم التي تواجه الإستتيقا في الفكر الغربي وعلم الحسن في الفكر العربي الإسلامي هي مشكلة الفن المعاصر الذي أصبح فنا منفصلا كل الانفصال عن تاريخه وعن ماضيه وتراثه، فالفنون الأصيلة وخاصة منها الفنون التشكيلية والفنون البصرية وفنون التصميم لابد لها من تاريخ تطوري لا يقطع مع الماضي القطيعة الراديكالية التي نجدها اليوم في الفنون التي نسميها بالفنون المعاصرة.
وهي فنون تتخذ لنفسها موقعا خارج التاريخ وخارج التطور التراكمي لكل الإبداعات الإنسانية على اختلافها، وتتعلق هذه المشكلة بالفنون المعاصرة إن كانت غربية أو عربية على حد السواء وهو نفس المشكل الذي واجه المباحث الإستتيقية والمباحث الحسنية مما جعلنا نبحث عن التناغم الذي كان قائما قبل المعاصرة بين الخطاب الحسني والتشكلات الفنية، وقد يكون مثال فن الخط العربي في القديم وفي الحداثة أيضا أكبر دليل على ذلك التناغم المفقود اليوم.
فعندما نعود إلى كتاب ابن الهيثم نجد أن فن الخط العربي الإسلامي كان من أهم الفنون التي اعتمدها في كتابه ليطوع الخطاب الفلسفي الحسني ليتجلى بطريقة متناسقة متناغمة، وهو التناسق والتناغم بين الخطاب الحسني ( الجمالي ) والعمل الفني، وهو مع الأسف ما لا نجده اليوم باعتبار ما يقدمهاليوم الفن المعاصر من فنون قد لا ترتقي إلى درجة الفن الحقيقي.
*إيلاف