انتهى الكاتب الروائي المترجم المصري الدكتور ياسر شعبان من ترجمة نص سردي للشاعر الروائي الناقد البرتغالي فرناندو بيسوا (13 يونيو/ حزيران 1888-30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1935)، لم يترجم للعربية من قبل، وعنوانه «المصرفي الفوضوي»، وهو عبارة عن لقاء تخيله بيسوا بين صديقين، واختار له شكل المحادثة. أما المكان، فكان على طاولة طعام في مكان ما، فضل المؤلف أن يكون مجهولاً، ليعطي للأفكار طابعاً إنسانياً وجغرافياً عاماً.
قصة شعبان مع نص «المصرفي الفوضوي» بدأت بإشارة إليه كتبها الروائي حسام علوان على موقع «فيسبوك»، قدم فيها عرضاً وافياً لأهم أفكاره. وبعدها، بحث شعبان عن النص على الإنترنت حتى وجده بالإنجليزية مترجماً، بواسطة مارغريت جول كوستا وريتشارد شاين، فضلاً عن أن هناك ترجمات كثيرة له بالإسبانية ظهرت على مدي الأربعين سنة الماضية. كما أن النص منشور أيضاً في الأنطولوجيا الصادرة عام 2011 عن دار «الاختلاف» الباريسية، التي تضم عدداً كبيراً من النصوص التي تنشر للمرة الأولى لبيسوا، والتي نقلها إلى الفرنسية بارسيديو غونزالفيس، وقدمت لها الباحثة تيريزا ريتا لوبيز المتخصصة في أدب الشاعر البرتغالي.
يقول شعبان: «خلاصة الأمر أن النص مهم، وقد تحمست لترجمته… وانتهيت منه قبل عام، نهاية شهر رمضان قبل الماضي، ثم قمت بنشره كاملاً قبل بضعة شهور في جريدة القاهرة الثقافية، وسوف أسعى لإصداره في كتاب، مصحوباً بدراسة موسعة عنه، بعد زوال خطر كورونا، وعودة الحياة لطبيعتها في سوق النشر».
وتُعد إشارة بيسوا إلى اللقاء الذي جرى بعد ذلك بين المصرفي وصديقه بصفته «محادثة» بين الشخصيتين، وليس حواراً، إشارة مهمة ليس فقط لأنها المصطلح الذي استخدمه «بيسوا» لوصف التفاعل بين الشخصين، حسب ما قال «شعبان» في دراسة بعنوان «المصرفي الفوضوي… محادثة عن الحرية والعبودية والفوضوية» وضعها في نهاية الترجمة، لكن أيضاً لأنه يريد أن ينبهنا إلى الاختلافات بين عمل بيسوا ومحاورات أفلاطون، فبينما يلعب المصرفي الدور المهيمن نفسه الذي لعبه سقراط في محاورات أفلاطون، فإنه يبدو أكثر يقيناً من موقفه من المفكر الإغريقي الذي استحضر بشكل مفارق حكمته في مقدمة المحاورات، بأنه يعرف «لا شيء».
وبالنظر لمحادثة «المصرفي الفوضوي» التي كتبها بيسوا في صورة أفكار يقينية تتداعي مباشرة من عقل «المصرفي»، فإن هناك شخصاً ما يزعم أنه قد توصل للحقيقة، بدلاً من الاستمرار في البحث عنها، فالمصرفي يمتلك الثقة المطلقة بأن الفوضوية هي الفلسفة الأقرب شبهاً بالواقع، وقد راح يفرق بين ما هو فيه وبين من يدعون الفكر الفوضوي، مشيراً إلى أن الفرق بينهما هو «أنهم مجرد فوضويين نظرياً فقط، أما أنا ففوضوي نظرياً وعملياً؛ إنهم فوضويون صوفيون وأنا فوضوي علمي، هم فوضويون ينحنون وأنا فوضوي يقف شامخاً ويحارب لأجل الحرية».
وترصد المحادثة بين المصرفي وصديقه مجمل وجهات نظر وقناعات ومعتقدات الأول الفكرية. وبدلاً من الأفكار التي تنبثق عن التفاعل بين الآراء المختلفة، وإعادة التأكيد التي تتطور بين المحاورين، فإن ما لدينا في «المصرفي الفوضوي» هو نوع من التاريخ الفكري لجوهر رؤاه في الحياة التي يستعرضها في المحادثة، ويصف فيها لصديقه كيفية تحول المجتمعات إلى الحرية.
ويتحدث المصرفي عن «الطبيعة» بصفتها نظاماً متميزاً يجب أن يكون له اليد العليا في توزيع المميزات على الأفراد، ويؤكد على دورها الذي يجب أن يكون أساسياً لتوزيع الحاجات في المجتمع، بحيث يمتلك الأذكياء الطبيعيون حق الحصول على مزيد من المنافع الاجتماعية. لكن الذي يحدث، لسوء الحظ، أن المجتمع يوزع عطاياه بغض النظر عن مستوى ذكاء أعضائه.
ورغم كل ما يقوله المصرفي عن دور الطبيعة، فإنه يعود ليقول إن التخصيص الجيني للمواهب يمكن التشكيك فيه أخلاقياً. فليس من العدل أن يولد شخص أكثر ذكاءً وحيوية من غيره. ولكن بما أن هذا ناموس خلقي، ولا يمكن تغييره، ولأن الطبيعة قوة لا يمكن مقاومتها أو معارضتها، فإن المصرفي يدعو إلى توجيه الجهد إلى إمكانية إعادة بناء المجتمع وفقاً للمثل العليا، فهي مسألة يمكن القيام بها، لأن تشكيل المؤسسات وإعادة بنائها يظل عملاً إنسانياً قائماً على وعي الأفراد بدورها، وما يجب أن تقوم به لصالح تحقيق أعلى درجات الحرية والديمقراطية.
وحسب وجهة نظر المصرفي، يكمن الشر الحقيقي في التقاليد والأوهام التي يتم فرضها على كل ما هو طبيعي، فنحن نولد لنكبر ونصبح رجالاً ونساءً ناضجين، ولا نولد وفقاً لقواعد العدالة الطبيعية، لنصبح أزواجاً أو أشخاصاً أثرياًء أو فقراء، تماماً مثلما لم نولد لنكون كاثوليك أو بروتستانت، برتغاليين أو إنجليز. كل هذه الأشياء، في رأي المصرفي، تعد من قبيل الأوهام الاجتماعية لأنها مصطنعة، وليست طبيعية، ويكمن سوؤها في أنها تفرض نفسها على مظاهر الواقع الطبيعية وتحجبها.
ويوجه المصرفي سهام نقده إلى النظم التي عرفتها الدولة الحديثة، سواء كانت بورجوازية أو ديكتاتورية فئوية، ويرى أن حدوث ثورة اجتماعية لن يؤدي لوجود مجتمع حر، بل إلى ديكتاتورية. لكن ماذا يمكن أن يحدث إذا لم يستطع المجتمع أن يكون طبيعياً؟ يشير بيسوا، على لسان المصرفي، إلى أن أفضل ما يمكننا القيام به، في ظل هذه الحالة المصطنعة الحتمية، يكمن في جعل المجتمع طبيعياً قدر الإمكان، ليصبح عادلاً قدر المستطاع.
ولد فرناندو بيسوا في لشبونة، يوم 13 يونيو (حزيران) 1888، وتوفي والده وهو في الخامسة من عمره، وتزوجت والدته مرة ثانية، وانتقلت مع عائلتها إلى جنوب أفريقيا، حيث ارتاد بيسوا هناك مدرسة إنجليزية. وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره، سافر إلى البرتغال، ومكث هناك عاماً كاملاً، ثم عاد إليها بشكل دائم عام 1905، حيث درس في جامعة لشبونة لفترة قصيرة، وبدأ بنشر أعماله النقدية والنثرية والشعرية بعد وقت وجيز من عمله مترجماً. وبعد وفاته، عُثِر على حقيبة تضم عدداً كبيراً من المخطوطات عن موضوعات مختلفة، منها الشعر والفلسفة والنقد، وبعض الترجمات والمسرحيات، وقد تم حفظها في مكتبة لشبونة الوطنية، وصدر له كثير من المؤلفات التي ترجمت للعربية، منها: «كتاب اللاطمأنية»، و«أناشيد ريكادو رييس»، و«لست ذا شأن»، و«الباب وقصص أخرى» و«قصائد البارو دي كامبوس».
*المصدر: الشرق الأوسط