حفيف رسائلي إلى العالم

0

أحمد سليمان*
مجلة أوراق العدد 12

نصوص

كلما رأيت حافلة مسرعة يحضرني شكله، الشكل الأسمر الضئيل، كما لو أنه لم يغادرني في مدينة الغبار والتعب، وقتها قرأنا عن الأحلام الكبرى، وعن المرأة التي ستقودنا إلى النور، ثمة ما كان يشدنا فنذهب كوحوش تقبض على السحر الذي يحدثه (أندريه بروتون)، ثم فهمنا في المطلق بأن السريالية تحرر الأفكار والفلسفات والسياسة من الجمود، وأدركنا أيضا الطريق إلى الثورة المتجددة عبر (ترو تسكي) وقليل من النظر إلى تاريخ (روزا لوكسمبورغ)، فوضعنا على قمصاننا صور (غيفارا).

ها نحن كأي شيء يتحول إلى طيف يمر في سماء العالم، نتذكر أو نحدو في الذكرى بقسوة وإيمان مضطرب، وثمة حديث لم يكتمل

عن زياد عباس وآدم حاتم، عن ربيع خليل وجميل حتمل، عن أحمد سليمان ودونا فاضل.

– لعلَنا لم نمت، ولعلني أتذكر.

ما زلت ألبس خوف امرأة وعجوز يوزع خرافات كيفما يشاء، ومنذ أيام قليلة غادرت مرسيليا هذا الزمن القصير، مرسيليا كانت قبل أربعين عامًا هنا قبل سقوط الحلم، وقبل أن يتكسر وجهي في هذه اللحظة.

بنفس اللهفة التي جعلتني أغادر ذات ليلة، وللأسباب ذاتها أبدأ ذاكرة الأمس من هنا، قبل أن ألتقي وجه المدينة، وبعد أن غادرها الأصحاب والأصدقاء الذين جمعتني بهم طفولة الوحل والضياع.

 أدخل دوار الساعة المعطلة بينما تطل مثل برج إيفل، وحدها هذه الساعة جعلتني أشعر أنني بعيد عنها، كما لو أنني دخلت مدينة غومل وأنا أخمن بمدينة ما دعوتها يوماً مدينتي.

دون حيلة، أدخل حجراتها متفحصاً أماكن تشبه سنوات تَيبّستْ في حلقي بالقرب من السور المتآكل نسبيّاً والذي تم تأهيله مجدَّداً.

آمنت كغيري، في حين أن المدينة لم تكن مؤهلة لذلك البناء، أقنعت نفسي وقلت للمنطقة أسبابها، لكن، ما زلت أسأل عن شساعة السر الذي يحيط بالأمكنة التي يستخدمها المصلون والمؤمنون اليتامى.

مضيت، واليتامى قبلي، الوقت متأخر.

ككل شيء هنا، أصحاب جديرون بالحب والمغامرة، ثمة آخرون لا أعرفهم حملة كتب وقصاصات صحف، إلى جانب موزعي نشرات موت أكيد.

حي الشراكسة

 تحدس النفس ذلك الحي … هناك حي الشراكسة، قالت النفس، يبدأ بجامع، على زاويته شارع طويل، جامع ومئذنة عالية، صوتها خافت، توازي ساحة ذات ساعة معطلة.

المئذنة تجاور السجن المركزي، يقابلها شارع يصل منه وافدون من المجمع الحكومي وكنيسة الأرمن، ثم نرى حديقة وسطوحاً يحتلها هواة طيور، هي ذات الطيور التي رأيتها تتجول بالقرب من ساحة الكرملين منذ أيام، هي ذاتها تُعتقل وتباع قرب شارع يُفترض أن يكون بؤرة للثورة.

لم تكن الطيور ترفرف إلا كقلبي، لم ألمس الطيور التي كثيراً ما كنا نرسمها في مهرجانات السلم والحرية؛ حيث كنا نُمجد الشمس فترمقنا، تنسحب من رسومنا الطفولية، تنسحب إلى قلوبنا.

على رؤوس أصابعها تنسحب الشمس، صحبة مطرقة تهوي علينا وعلى الطيور التي لم تكن ترفرف إلا كقلوبنا.

وبقوة كانت ترفرف.

ونيسي

 كي لا أظلمه سأصفه بـ (الونيس) أتقاسم وإياه أحوالنا وحظنا الأغبر بدءاً من نوبات المرض، مروراً بلعنة الشعر والكتابة. على الأغلب نسخر من كل شيء .. حتى من أنفسنا.

لـ ونيسي طرائف مثيرة، قلما يسلم منها الآخرون، لسانه المرن، السليط جدّاً عند إثارته لمواضيع قد تسبب إحراجات سياسية لدى البعض. وعنه أروي سيرة سياسي، قصد هذا السياسي طبيباً نفسانيّاً ليفك معضلاته في الإحباط والفتور التي ترسخت في حياة بدأت تضيق.

ينصحه الطبيب النفساني بأماكن اللهو وما يطيب لراحة النفوس. وقف الرجل وهو بحال من الذهول مما وصفه الطبيب سائلا:

كيف لي بأماكن اللهو وأنا في حضرة مهرج سيرك يسألك الخلاص؟!

نخلص من السيرة وإمكان مقارنتها بما يمتلك إنساننا المعاصر من نزوع تهكمي فاضح للذات.

إنساننا هذا يحتاج لما يقوم به السياسي السابق ورجل السيرك ذاته في زمن بدأت أقانيمه تفرز فظاعات بائنة، بعدما أعلن إفلاسه من ذخائر الممكن.

 (ونيسي) الذي ألفت مشاغبه القاسية يرمم جوارحه؛ كي تقوى على مداعبة روح الآخرين؛ فهو على عادته القديمة يتعمد ذلك كنوع من الهروب والمزاح؛ لعلها السبيل الآخر للخروج من صمت يطغى على كل شيء.

قبل سنوات ليست بعيدة أجريت له عملية إصلاح لكافة أعضاء جسمه، كان بنفس الجناح الذي جمعه بامرأة تركية مسنة، ونفس الأعراض القلبية التي عانى منها الاثنان، المرأة التي أحفظ وجهها، أمي تهذي لكثرة أمراضها ولم تكمل حياتها الأخيرة، بينما (ونيسي) شامخ متهدم كما سور(الرقة) وجامع (أويس القرني)، بل مثل باب بغداد.

(ونيسي) بعدما أصلح أعطاله الكثيرة، وبعد أن غير صمامين في القلب، بدأ يفكر بالزواج، صمامين … يضخان أكثر من معدات المياه عند صديقي سكرتير اتحاد الكتاب.

حصل وكان لهذا السكرتير أن يدعوني بعد أن هاتفني لحضور جلساتهم.

لم أكن متحمساً لمثل هذه الجلسات؛ حيث تكثر الموضوعات وتتشعب أمور الأدب بالسياسة، ولا يخفى الأمر على أحد كي يدون ملاحظاته أسوة بهواة المحو ورجال الخلسة.

وقد لا يروقني سماع حكاياتهم مع أعضاء الاتحاد ورؤساء المؤسسات الثقافية؛ فأنا خارجها، منشغل بأثر الزمن الذي يحتضر.

مع أنني أميل إلى الصمت والتأمل أكثر من الحديث، في مشكلات من نوع مختلف قد لا يطيب لهم سماعها.

أذكر حالتي في حينها، كنت أعيش عزلة حقيقية؛ إذ لم يكن لي أي علاقة بما يجول في تلك الفترة التي دامت لشهور قضيتها كمن ينتظر فرصاً كثيرة، وأنكفئ دون أية نتائج كما حياتي التي أكتبها وما لمست واحدة من شذراتها، ما أنا اليوم وما يصلني بهذا العالم إلا سماعة هاتف، وعلبة بريد، وبعض أدوية وسموم أتناولها بانتظام

جاءت دعوة الصديق بعد أن عملت على تسوية أمور خاصة بطباعة كتاب يحمل اسم شقيقي، هو ذات الكتاب الذي رفضته الرقابة عندما قدمته باسمي!

للآن أخي هو مؤلف الكتاب خاصتي، وأنا أتأمل.

كم أنا خجول من اسمي!

وكم أنا فخور بأخي!

سأورد شيئاً آخر عن (ونيسي) الذي يشبهني ببعض مشكلاته. كان يفكر بالهجرة إلى الخارج لكن الجهات مقفلة أمام مَن هم مثله، في حين أنَّها مفتوحة على مصراعيها أمام الذين لا يفقهون من الحياة سوى ما زاد من فضلات بطونهم.

كما العديد من الشباب أصدر كتيباً شعريّاً، وعلى إثر الانتهاء منه احتفى الأصدقاء الذين تربطهم به قرابة الأدب والثقافة الأخرى، ربما جاء ذلك الاحتفاء لندرة مادته الشعرية وأسلوبه الذي أجده “يتجه لا يدل” لكنه أكثر دلالة من المعنى.

تكمن صوابية ما سوف يشكله لاحقاً، في حين أننا نجد ما هو على غرارها بدأ يقوى بشكل متمايز بأماكن مختلفة.

أتفاجأ بما كتبه (ونيسي) قبل عام؛ حيث أقرن نصّاً شعريّاً مقدمة من “سفر يهوديت” الإصحاح الرابع، وهو سفر غير مثبت في الكتاب المقدس “المتداول حاليًا” طبعة الآباء اليسوعيين في بيروت 1875، ووضع صورة (إرميا) جاثياً يبكي خراب أورشليم على عمله الجديد.

أبدى مراراً أنه ليس معنيّاً بما ترمي إليه أبعاد فعلته، سوى إنَّه دمج مقتبسات الى جانب نصوصه.

مقولة غير مثبتة وحدها، وتحتاج وقفة متأنية من قبل قارئي تاريخ الأديان.

لا بأس بذلك، هذا ما يمكننا أن نصفه (مغامرة) أخذ بها عبر الكتابة وحدها دون أن يعي ما سوف تقدمه من خدمة واعتراف معلن بما لم يثبت.

أليس بذلك وحده اشتغال كائن آخر. روح شاعر تسكنه نار أخرى، نار حلم وجسد كتابة، هي نار تضع الذي أضرمها في محرقة الحساب على مرأى القداسة.

فكر يعمي بصيرته وحياته، بينما عيناه جاحظتان لما آلت إليه الخيبة الكبرى.

 كأن به روح مغامر لا يأبه لما تحدثه فوضاه.

قبل أيام قليلة، قبل مغادرتي المدينة هناك هاتفني حبّاً بمشاغبات آخر الليل ليقرأ لي نصّاً مسرحيّاً تعتمد مادته على أسطورة، ثم أكد لي أنه ليس أقل تعباً مني، وأنه بالكاد يمسك سماعة الهاتف.

سألني عن هذه السيرة التي دونت ملامحها قبلا، هذه الحكاية الناقصة، هذه البلاد التي يسكنها الأحباب اليتامى، أما اليوم فما أستغربه حقّاً، كيف لبلاد تحيا فيها الثقافة، بينما تميت الحلم والشعراء؟ 

وضربه على قفاه

 ثمة تواريخ لن أنساها مثل 1984؛ في أواخر هذا العام حدث أن التقيت صديقاً من أصدقاء الصدف، كان يعمل لدى مؤسسة إعلامية لإحدى المنظمات السياسية؛ حيث جرت العادة أن يكون لكل منظمة تيار منقسم عنها، حتى حصل أن داهموا المقر ليقتلوا من كان فيه، و كان صديقي معهم.

باسم النضال والحفاظ على الثورة المتأججة جرى تعذيبهم بأساليب لا تختلف عن المشاهد التي نراها على شاشات التلفزة.

لا أتَّفق وما يطرحه الصديق؛ لأنه ينتمي إلى عقل متطرف، وتالياً سيكون من شأنه – كأي سلطة – ألا يرى إلا بعين واحدة.

مع أنني أتألم على حالته تلك، كما لو أنني هو … وهذه الصور الداكنة عن تقوس ظهره ربما ستحدث لي مستقبلا، بينما أصابعي ميتة أكتب حروف القسوة.

 تاريخ آخر لا يختلف عما أوردته قبل قليل ولا يختلف عن غيره حتى … بفارق بسيط حيث نجده أكثر عصرنة.

كنا في منطقة جبلية تستخدم فيها إحدى التلال كسجن سري لمنظمة نشطة بالتصفيات الجسدية، وقرار 242 كان موضوع تلك الساعة.

ثمة عمليات انتحارية، خطف طائرات، اغتيالات عشوائية، وغير ذلك.

العاملون على حراسة السجن كانوا – على الأغلب – من المثقفين والملائكة الأبرياء، إلا أنهم أداة لترويج مخططات ما آلت إليه الأمور في أيامنا هذه.

مع ذلك قرروا تصفيتنا، عرفنا ذلك قبل ساعات، بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيلية أحد المواقع المجاورة للسجن ذاته. من المنتظر أن نموت بعد لحظات، لكن ثمة أموراً تسير في صالحنا، المحقق إيراني، والصحافي الذي كان يستدرجنا ببعض المعلومات الشخصية لمجلته فلسطينيٌّ من القرى السبع، ورجل آخر – أجهل جنسيته – له ذقن كثيفة، عمل على تهريبنا في أثناء نوبة الحراسة لأحد الباكستانيين بعدما ناوله قطعة حشيش وضربه على قفاه.

لم أكن أدري أن لذلك الإيراني علاقة بمزار “أويس القرني”. أذكر انه – فيما مضى – لم تكن ذقنه حليقة، لكنه كان يحمل كتاباً سميكاً، يقرأ بهدوء، يبكي خلفه المؤمنون. أتذكر شكله، غالباً ما أراه على شاشات التلفاز؛ فهو يشبه قياديّاً بارزاً في البرلمان. كنت كما اليتامى، لكن لا كتاب بين يدي، حزيناً ومتعباً ومنهاراً كنت، كما هذه اللحظة، لحظة استفاقتي من المنام.

رقابة المركز

واضع الختم غائب، كونه في عمل دائم، نجده يشغل مهام كثيرة، يعمل معاوناً للمدير، مراسلا شعبيّاً لإحدى الجرائد التي تصدر في الولايات المتحدة، منسقاً لمعظم خدمات البلدية، ومعدّاً للتقارير الشهرية عن أحوال المنطقة؛ حيث لكل منطقة أسبابها وأمور أخرى أجهلها. هذا ما ذكره أحد المراجعين من أجل الختم ذاته، وبعد قليل وصل واضع الختم الغائب، أخرج من جيب البنطال ختمه، ثم راح يقلب الأوراق التي تضمنت الطرد خاصتي، وقع نظره على مقال “رقابة المركز”، لم يجد بالعنوان أي أهمية بعد أن تأفف وطلب إليَّ أن أغيره، هذا ما لم أفعله على غرار ما طلب أموراً أخرى حول الطرد في حين أنَّ المقال المذكور لم يكن له أي علاقة بالمدينة أو البلاد أو “المركز” الذي يختم الطرد البريدي؛ حيث كانت مادته حول ما كتبته مستشرقة أمريكية متخصصة بجنوح حركات التحرر العربية عن مشروع إبداعي يطمح للارتقاء؛ حيث اعتبرت أن ذلك الطموح امتداد لخلفية ناجزة لأكثر من خمسة وسبعين عاماً.

يا للمفارقة هذه أن تدمج بعض معلومات حصلت عليها من بعض أقسام تخص الاستشراق والبحوث في بلدها الفاخر بالوصاية على شعوب المنطقة.

بالأصح سيكون حظًّاً وافراً لبعض كتاب التقارير في العالم العربي.

مجرد وثيقة تجمّل الكذب، وتلفق معلومات تنشر على حلقات.

مع الإشارة إلى أنَّ مادتها كانت تحتوي على تفصيلةٍ فنية حالت دون الرغبة والجدية للارتقاء بمستوى المشروع الذي بادرت بمناقشته.

بين يدي قصاصات صحف وصلتني بالبريد الذي يمشي مثل سلحفاة، بريد اليوم لا علاقة له بما أوردته قبل سطور قليلة.

لكنه بريد، وقتها كان لي غرام خاص بيوم البريد العالمي حين (يفلش) أسرارنا ويجعلنا عرضة للجميع، كم كان مؤلماً حين استلمت رسائل أصدقاء من مشرق ومغرب العالم وقارنتها مع مثيلات بائسة.

– قلت لنفسي غرام من نوع مختلف، قد يعود تاريخ غرامي بالبريد، حين بعثت رسالة من مدينتي إلى بريد العاصمة عادت إلى عنواني بعد شهور ظنّاً مني أنها مرسلة إليَّ.

وقرأتها كما لو أن الموقف كذلك، مؤلم هذا الشعور، أعني حين تفتح علب البريد لتجده فارغاً يتأملك من جهته الأخرى.

تاجر التحف يحاور البولشفيك

بين أن أكون حاضراً داخل المعترك، وبين أن أقرأ حول قضية، ثمة مسافة يعجز عن تفسيرها من خلال بريد يمشي مثل سلحفاة، بريد مستعجل وجبان، لعل ذلك الفضل يعود إلى انهيار الكتلة الشرقية وإعلان دول الكومنولث بديلها الآخر، وهذا البديل لم يحقق غرضه حتى الآن. اضطرابات في العاصمة موسكو بسبب عرض قدمه رجل أعمال بريطاني له باع طويل في تجارة التحف، لا سيما الموتى اليتامى، بعيد العرض ذاك، حول استئجار ضريح (لينين) ليتجول به تاجر التحف رجل الأعمال البريطاني.

ثمة عواصم عالمية تنتظره بالضريح بطائرة خاصة، سيتعرف (لينين) على نوع مختلف من البشر؛ فهؤلاء البشر سيرمقونه للمرة المليون ويشككون بدولة العمال التي أرادها للعالم.

العالم سيكون تحت طائرة رجل الأعمال، وستفشل هذه المهمة إن لم تتفق الحكومة، والتي بدورها بادرت برفع الحماية عن الكرملين.

  كانت بداية غير موفقة، ثمة حماة وجنود متطوعون دعاة إصلاح وثورة ما بعد ثورة “البولشفيك” بعد انهيار الشيوعية “كنظام حياتي منكفئ”، معادلة يروج لها تجار الأسلحة والعتاد الحربي منتجو العقول وخبراء الفتك والدمار الشامل، قلت: معادلة، من الممكن تأملها.

مفارقات .. ومفارقات لا يمكن للمتأمل إيَّاها سوى أن يربت على نفسه، ويضع كفيه على وجهه كي لا يقهر.

وأخص بذلك حين ألحظ طاولات صغيرة تتوزع في شوارع عاصمة بيلاروسيا فوقها أعلام صغيرة وعلب شفافة يدعوك من يجلس خلفها كي تتبرع، مفارقة حقًّا؛ فثمة من يتأهب لإعادة الأمور إلى عهدها وإن كانت بصور غريرة أقل فتوة وأكثر طيشاً في بلاد يحكمها اليوم رجال مافيا.

هم ذاتهم الذين يفرغون محتويات تلك العلب الشفافة، باسم الشيوعية، بل – لشيء من الحنين إلى تربيتي – وجدتني أتبرع، بينما ألحظ رجال مافيا يقلبون كل شيء في مدينة الحب والمرح .. مدينة الشيوعية المعاصرة هنا في “غومل” على بعد مسافة داخل القارة الحمراء بلاد لا يمكن تصورها خارج تقاليدها ودمها الناري الفاتن، من هنا مرت الثورة الشيوعية، هنا بيلاروسيا.

قصاصات … إف… إف، قصاصات لا تنتهي .. جميعها تدعوك للتأفف .. جميعها تذكرك بغيابك حتى عن نفسك، أقول أحياناً ما الكتابة إذن إن لم تغب عن نفسك؟

أن تكون ضدها، أيضاً سيكون بذلك مزاج غير مؤتلف.

ثمة ملف أعدته الصحافة المغربية عن المغايرة والاختلاف، يحتوي على سجالات ثقافية وفكرية. كان ذلك الملف بمثابة هدية لحركة المغايرة التي نلحظ نشاطها عربيّاً رغم جدار القطيعة الذي تفرضه طبيعة الجغرافيا السياسية في هذا العالم الجميل المتأنق دوماً على جثثنا.

وغداً سأكون أقل تعباً كما تشير بطاقتي الصحية، لكن، سأكون أكثر بطئاً من البريد والسلحفاة، أما الآن فعليَّ أن أقرأ حسب إفادة بعض قصاصات منشورة في صحيفة إحدى أحزاب المعارضة، في الماضي كان للمعارضة أن تحلم كما كان لنا أن نحلم، أكثر منها ربما. أعني تلك المعارضة الرسمية التي تعمل تحت قبة برلمان هزيل.

وتورد الصحيفة “المعارضة” كلامًا نقلته عن وكالة أنباء فرنسية؛ حيث تضيف بأن (أدونيس) هو المثقف العربي الأول الذي بشر بالتطبيع.

خبر آخر ونقلا عن مثقف أقل معارضة، ولسبب خلافي ربما، يشير إلى أن (إلياس خوري) “يحاول تجنيد بعض الأقلام”. لا أدري إلامَ يرمز حضرة المحرر.

(محمد بنيس) ينعي اللغة في المغرب.

“إدوار الخراط تخلف عن مشروعه الكتابي”. ربما يعتقد أن (الخراط) داعية حزب سياسي.

 (محمد شكري) يوزع متاريس الصمت والعزلة، وفي زاوية أخرى نقرأ عن روح شاعرة تنازع تدعى (نازك الملائكة).

وثمة أخبار مربكة وخبر تافه عن موت “الشيخ إمام”، ثم أقرأ في كتاب مرسل مع ذاك الطرد نصوصا لـ (هاني الراهب)، كما لو أنني أقرأ له من جديد، أو أنني سأودّعه بنفس اللهفة التي غادرت بها البلاد، (هاني)، كم أنا غاضب! وكم أنا مستاء من نفسي!

مغرم على ما أعتقد

أنا مغرم على ما أعتقد، لكن اللغة هنا مؤذية، ثم إنّها لا تصلح لبوح عاطفي. معلمة اللغة تأكل تفاحة وأنا أتفحص السوتيان الذي خلعته وعلقته على رقبتي، لا توجد بغرفتي مرآة. نظرت إلى زجاج النافذة:

الثلج يملأ الزجاج، ونعيق الغربان في الخارج يؤذي جسدي، أحتاج لمن يواسيني، هكذا يفكر جسدي، له أسبابه، لكن، اللغة هنا تؤذيه؛ لذا أجد جسدي، على غير هدى يلبس ما يكفي لأربعة بالإضافة لبنطال جلدي ومعطف سميك، أخذته من جنرال متقاعد في الجيش الأحمر الروسي، بالإضافة للراتب والنجوم التي تجعلني أحلق في الجحيم.

أسأت تصرفي مع هذا المعطف.

السوتيان على رتبة المعطف، المعطف دافئ لكن خجلي يؤذي اللغة، والمعلمة الروسية تصر أن أبدأ بلفظ حروف الهجاء.

إف …

سأعود إلى الطفولة، أنا أكثر ميلا للتأمل؛ لذا فضلت الإيماء بدلا من فك رموز اللغة، بدءاً مع حركة يخفيها السوتيان، صوت المعلمة يرتفع وأنا أمتلئ بها، كان صدرها أموميّاً، أنا كأي طفل شقيٍّ؛ لذا سأبدأ بلغة تؤنسني، لكن هذه اللغة تفشل باصطحابي إلى أقرب مترو أو ماركت لابتياع الأكل.

أنا لا آكل هنا؛ لذا لن أحتاج إلى اللغة؛ سأعكف على تعلم الإيماء، الأكل هنا لا يصلح أعلافاً حتى، بعد قليل سآكل وجبة تعدها معلمتي.

– أنا جائع، والأكل هنا يؤذي الشهية.

سآكل المعلمة إذن.

خمنت هذا.

فقد فهِمت المعلمة أنَّني أشعر بالبرودة وضمتني.

الصورة التي بيدي يعود تاريخها لبضعة شهور.

أنظر إليها بدقة.

– من هذه؟ قالت.

معلمتي الفرنسية، أجبت.

– تعلمت اللغة الفرنسية إذن؟

قلت: لا، تعلمت الإيماء والجنس.

ضحكت معلقة، كيف؟

لم أجب في هذه المرة كما أسلفت، أي أني لا أحتاج إلى اللغة الروسية، كما أنني لن أحتاج إلى لغات أخرى، ثم فهمت المعلمة سر صمتي.

 تأملت شكلي المائل إلى الغروب، وأيقنت منها بأنني لن أتعلم اصطحاب امرأة روسية إن لم أعمل على هجاء اللغة.

ولأنني في موقف لا أحسد عليه، رحت أحفظ – كما لو أنني سأتعلم اللغة – خمسمائة مفردة، جميعها تتعلق بالأكل والجنس والنوم.

أما (لينين) الذي علمنا أن نحب الشعوب، و(ماركس) الذي أورثنا (رأس المال)، و(تروتسكي) الذي نسيت ما إذا كان زعيماً ثوريّاً أم أنه بطلٌ لفيلم أنتجته الولايات المتحدة؛ فهؤلاء جميعا يؤكدون ما يمكن أن نتعلمه بلغات الأرض.

وأنا لم أتعلم غير لغة أهلي، الأقرب إلى نفسي، وإن لم أكتب بغير اللغة العربية طبقاً لمعادلة المنطقة التي جعلتنا نغادر إلى بلاد من الممكن أن تنتج بهيئة هجينة، وها نحن مزيج من لغات تركيَّةٍ وعربيّة وبعض فتات من لغات أخرى.

هكذا ببساطة، أن تطلب ما تشاء في رسالة واحدة، أن تُخذل أيها العشيق، نارك باردة، مع انكَ مُلتهب.

في رسالة أطلب فيها أن تعيد لي الكلام الذي قلته لأجلها، موضحاً أنَّ ما ذكرته في الرسالة الخامسة والعشرين لم يكن عنها.

– وصلتني حروف ممرغة بماء الرغبة، وثمة ورقة مذيلة بحرف دقيق بالكاد أبصره، تورد:

 (وهبتك ما لم تستطع امرأة أن تشعله فيك).

تبدو لي المسافة كما لو أنها قبل أربعين عاماً خلت، قبل أن أغدو ناراً مطفأة، بعد أن أحببتها بعنف لاهب، وقبل أن تؤججني.

هنا أعني الفكرة، اهتممت لشكل النص والشعر والبلاد، ونسيت نفسي في الخامسة والستين من عمري القليل. عن حب امرأة في الثلاثين، أي أن الثلاثين عاماً المتبقية من أعوامي بدت مقطوعة مني.

امرأة دعوتها (مرسيليا)؛ تيمناً باسم مدينتها جنوب فرنسا، (مرسيليا) بعيدة هذه اللحظة، هي جسد النار وأنا مجرد فكرة.

وقعت بغرام آخر

كنت قد وقعت بغرام آخر، أغرم بالأشكال الأخاذة، المستطيل مثلاً، يحتوي هذا المستطيل على رسم أعمى .. رسم أخرس مفتون بسبات أزلي.

– الأول داخل الكادر يغلق عينيه بورقة، وعصابة تأخذ من ظل وجهي مكاناً.

– الثاني يتأمل ببصيرته الأخرى يستوطن ذاكرة إذ لا يشي بغير معالمه دون جدوى.

– الثالث مفتون بربطات عنق وشرائط مُذهبة تنزل من أعلى رأسه إلى أنفه، افتعال معلن عن خرس مفتعل، عن صوت مكتوم.

الأشكال هنا، على ما تبدو عليها، كمثل إرهاب فاضح، تحتوي على إشارات نجد بقراءتها شواذَّ، نزوعاً يعكس دهشة المتأمل، لكن هذا الأخير يقف ضد نفسه، أشكال متداخلة لاكتها أبواق حشود في المهرجان.

خاب ظني، الحسود حين يمارس البغي مع الأشكال، أعشق الأشكال؛ إذن أنا مغرم بالمستطيل، عليه ما عليَّ، إذن المستطيل، ألا أجد صورتي لأنني تعب، بل كي أهرب من نفسي. قد أضع فاصلة تحد قدرتي، فاصلة تلمسها يد إله وجسد مشوّق، الجسد الذي نهيئه دون جدوى، المُنهمر لحظة نصبو فيها صبابة من يتأمل.

– ما هذا الكلام؟

هي تقرأ حروفي، وأنا أبداً لم أغفُ.

ثمة خوف يرجئ كل شيء؛ حيث الندم هنا صواب متأخر، كما أن العالم لا يهلك، لا يعنيني أيّاً كان هذا العالم، ثم إنَّني أحتاج ألا أفكر، بغير النار الصافية، جسدي الظل الآخر، أبصر تاريخاً عنه.

عندما نزلوا محملين بالهراوات والخطو السريع مثل رجال كوماندوز فتشوا الوقت والأمتعة والقصائد المعلقة. فتشوا المدفن الذي يحتويني، تحدثوا مع موجة الإذاعة، ثم ضربوا أخي الكبير والمتهدم مثلي، ضربوه كما لو أنه أنا، أخذوا شكلي وصوتي المتيبس على شفة أختي ذات الخال المرسوم على أرنبة أنفها.

قالت: هل أزيلها بجراحة تجميلية؟

إذن، سيطير أنفك، أجبت.

ثم إنَّها لا تليق إلا بك يا أمنا.

لم يتركوا سوى صوت أمي وصلاة أبي اليتيم.

– وجسدي، صباح كل عيد يهلك، كأن أضرب جسد اللوحة بالسكين، ثم أهوي في الثالثة إلا ربعاً بعد النوم، في الخامسة والستين بعد هذا العمر القصير.

شرقنا الأليم

أنتم تحاولون امتلاك كل شيء، بما في ذلك الجسد، فلكم ما تحدسونه من خطايا أليمة قد تأسر الجسد إن لم ترجمه في هوة سحيقة. وحدها الأفكار بمنأى عن اهتمامكم، وإذا وجدت ستكون في عالم يمتلئ بالتعقيد.

إنني حقًّاً آسفة بما تدعونه بالغرب الفاجر )كما يصفوننا (لكنكم في الوقت عينه تثيرون اهتمامنا، مع أننا لا نملك سوى أفكار قد لا تصلح لإعادة تأسيس “أنظومات” تخرج بلاد الدفء من عفة المستحيل.

ما قالته المستشرقة في رسالتها لي، كلام صائب إذا ما عمدنا إلى مطابقته واهتمام جيل وصل اليوم عبر مفاهيم هذا العالم إلى سدته.

كلام استشرافي، لكن لا يمكن تعميمه على نحو مقارب، من ميول أمزجة ملايين من شعوب الشرق، وإذ لم يُخضِع هذا الشرق بعض شعوبه لمصحات، بالطبع ذلك يمثل كارثة، وبالتالي فإنَّه يتحرك ضمن خرائطية القوى المسيطرة على العقل البشري، والوصاية على برمجته حتى، وما الجسد – حين يكون ضمن هكذا مشهد – سوى النزوع إلى الشذوذ مطلقا.

وممكن أيضاً أن يكون هذا “الجسد” حقل تجارب لآخر عقار استحدثته القوى المسيطرة، من يدري إن كانت ثمة أدوية وسموماً تجيره، حيث يتابع المستفيدون بعض رموز وقادة هذا الشرق وأحزابه النهابة، مجهود خبرة أبناء هذه المنطقة وما تُدره عليهم من أرباح ثراء مجنون.

إذن، الجسد سيكون على سوية وما تمثله أدمغتنا، وفق كلامها، أما أجسادنا، فإنَّ لها أن تفكر بالإخصاب، لا بالوعي واختراق حرمته.

لكنه يعي حاجة الغرب، أعني الأقل خصوبة هستيرية كأحوالنا، بالتالي فإنَّ هذا الغرب، غالباً ما يتأفف فيما نجد تركيزه على ذات الشرق.

مهلا حبيبتي المستشرقة، حين تجدين هذه القصاصات منشورة لن أكون إلى جانبك، بينما أنت بأحضان صديقك الإسباني، “الفرنساوي” الأصل كما تزعمين، وأنا كعادتي أملي على جسدي بألا يفكر؛ كي أمارس عليه وصاية خارج الوعي، الذي يتملكه غربكم الجميل حد السقوط، بأحضان وغرام هذا الشرق.

لذا لن أخاف على جسدي بعد اليوم؛ لأنه ضمن وعي كامن، لا إلى وعي خارق كجسدك، جسدك الذي لن أجد متعة أشد من حرارته وقت صيف لاهب.

لتوي أنهي هذه الليلة خارج المدفن الثلجي في قارة حمراء قبل أن يجف دمي، قبل أن تصلك حروفي وترمي بلاغة لغتها بأكثر من إشارة؛ إذ لا تليق ولعثمة صفحات كتابكِ الذي عملت على مراجعته كما لو أنه لي.

هذا إن لم أفكر بدلا منك، حين تتأسَّس لدي رغبة بكتابتها يستحيل أن أنظر إليها دون أن أتذكر جسدي والمغامرة التي لا تقصيه إلى غير اللهيب.

جسدي المهمل، أبعثه إليكِ، طي هذا النص المستحيل، فهو دين قديم على أي حال، أسديه لما وهبتني إياه ذات يوم، ما لم تستطع امرأة أن تشعله فيَ ـ كما تقولين في واحدة من الأوراق التي وصلتني بحروفٍ دقيقةٍ ـ كما لو أنك تهجرين كنوز الشرق، كما لو أن الغرب لم يشرب من حلمنا الأليم.

أربعة معتزلة، وخامس يشم المعرفة

يحدث أن يتأمل أي قاص ثلاثين عامًا مضت، إلى جانبه كاتب مسرحي فاز بجائزة، إلى جانبه امرأة توازي الفطنة، كما روحها الأكثر شباباً من العمر المديد.

زوجها شاعر ذو سلوك متحفظ، رزين يؤانس الجلسة بتودد كلما امتلأ الوقت بالصمت وأزيز الطبيعة، يتهامسون مع النار والعزلة، أربعة كانوا وخامساً يتقطر وجهه بالمعرفة وطلاقة اللغة وإمكاناتها التي أحب.

هذا ما لم أجده في جلسات أيام زمان قبل مغادرتي مدينة القحط والضياع، خلافاً لما كانت تعانيه العاطفة من نزوات المثاقفة، أمكنة كتلك أشبه ما تكون بأضرحةٍ وتماثيل، يقدسها الشباب، شاب يدلل على الأشياء قبل أن يتجه، إلى آفاق يحتاجها قبل أي شيء أكيد.

  رغبت أن تكون الدلالة بعيدة؛ لأنه ما من معنى يستحق وقفة، أعني ومضة لا تلتفت، كما يحدث بأجواء هذه السيرة وأنا أبداً خارجها.

زوجة الشاعر والناقد الذي يعرف تاجر القماش، بائع العطور الذي دُفن في استانبول، قيل إنَّه يحترم مفهومه للثروة التي يريدها أن تأتي من لحم ودم؛ لذا، كان ينشئ جمعيات بدلا من الأحزاب.

ما أنا سوى ابن لا يعرفه الناقد، أنا ابن تاجر القماش وبائع العطر، في حين أنَّ أبي لم يعد يذكر اسمه الذي يأتي بعد اسمي.

كنت طفلا يدعى اورهان

سموني بهذا الاسم، “أحمد”؛ فهو يدل على نزعة بائنة، أدركت ذلك عندما صفعني المفتي بينما كنت أحدثه عن رغبتي بغير هذا الاسم.

يا جدنا. قلت، يا جدنا الذي في البعيد، عليَّ أن أهيئ صورتي، أظنني حفيدكَ؛ فقد كنت طفلا يدعى (أورهان)، ثم (أمجد)، ثم خطأ في سجلكم، و(أحمد) المكتوب على بطاقة الهوية يصغرني بأعوام أربعة!

تقول أمي: كنتَ مجرد خلوة في أرض الحلال!

ثم خطأ في سجل الدولة، عمري المكتوب على بطاقة دون جدوى، صحتي تنهار واسمي الحقيقي تذكَّره أبي عند المقبرة، صباح يوم عيد تذكَّره أبي، بينما أنا نسيت حتى شكلي.

ما زالت الدلالة تلبسني، ملامح أبي ذاهبة إلى زوال، صورتي وسط العائلة، أبي يشير إلى دلالة صورة وهي تودع فقيدها المعارض.

زمن دفعتنا فيه أوهام الأحزاب وغضبنا العاصف حتى الصميم. مع ذلك وقبل أن أرتحل وأبي، الذي سبقني إلى رحيل من نوع خاص، هو الآن يمكث بخلوته، بينما أنا كدت أدمر نفسي بانتظام هانئ.

 كما لو أنني أعمل على تأسيس مدفني، أوزع صوري وقصاصات الجرائد إلى صغيرتين تركتهما بأعمار تحتاج إلى أبوة أكثر من أي ثروة.

مع ذلك أسأل، سألت أبي قبل أن يتجه إلى خلوته، قبل أن يلتحف غيمة الرحيل:

– أبي، أين هي الجهات كي تصلي؟

القاص الصموت، الأصفر الشاحب أكثر مني، لم يخف مؤازرته حين سُئلت في مقهى عن جدوى مشروع ثقافي يحاول في هذا العصر الذهبي الأكيد.

لم أجد في حينها ما يؤسس أجوبة مقنعة سوى أنني أحتد كعادتي، وغيرة مغالية إذ لم أجد ما يؤهل أي جهة لتحمل أمزجة ونزعات شعراء في هذا العالم الرحب، رحابته التي لا تتسع لملائكةٍ من لغة وزئبق.

– لم تهدأ رجفة عيني، وسكينة اللحظة كانت أقوى من الصراخ الذي وجدتني أمارسه/ كما لو أنني أهدد نفسي الخربة وأقود هاويتي.

وحقيقة أخرى، بل حقائق ممرغة في ذاكرة مائية كما المرأة التي لم تتعلم لثغ اسمي، غادرت وسؤالها يمارس اغتياله لي في كل لحظة، هو ذات السؤال الذي قادني إلى قراءة العالم ومن أحبهم من جديد.

أسأل كما في كل لحظة، كما لو أنني منذ أعوام أسأل: مدينتي، كم الساعة في هذه اللحظة؟ ما ذكرته كان خارج الجلسة، كنت أخمن بنفسي، الطاولة المستديرة، الأربعة والخامس الذي يتقطر معرفة وأنا لست بينهم، كنت أعمل على تسوية شأن آخر، ولم تكن لتلك الجلسة علاقةٌ بما كنت أخمن، لكنني لم أقتنع أنني أكثر قسوة منكم علىَّ.

وما أوردته كان بعد اتصال المسرحي والقاص الصموت الحرج مثل ظلال.

عن بعض مذكرات احتجاج، وامرأة تقودنا إلى النور.

لا بأس، سأعود لأتذكر، حيث أكون بلا ذاكرة، أتذكر فحسب، وجهي الطفولي/ استدارته آنذاك، العيون الواسعة التي تمسك الحياة بكل ما فيها، تنبت بعض شعيرات على ذقني إلى أن جعلت من وجهي شكلا يشبه وجه جدي.

– (تروتسكي) كان جدي، هو لا يعرفني، لكنني أستنسخه وأقوّله كما لو أنه يدري.

وهكذا، مثل كثيرين من أبناء بلادي، حملت الحياة على كتفي. بعض مذكرات احتجاج أخفيها بين كتبي المدرسية، قلما كان يسألني أبي عن جدوى تلك الأوراق، قرأتها بصدق بالغ بينما الحياة تسير باتجاه آخر!

وحدها كانت امرأة كانت تقودنا إلى النور، تخرج من صفحات كتب إلى وعينا الذي يشبه حلم الثورة؛ إذ لم يتعذر الأمر أن يقوم بدورنا نسوة، هكذا دون أي سبب، لكنهن نسوة، يفكرن بالخطب والتصريحات التي تثقب أحلام صغار كانوا في الأمس، لا يشبهون وجوهنا الآن، ونحن لما كنا أبداً بغير أحاديث الثورة المؤججة في دواخلنا، كأن تلك الثورة ستقوم بعد أيام، جميعنا ينحاز للمرأة التي ستقودنا إلى النور.

كنا في عالم أعمى، عالم يفكر بغيره، كنوع من احتراف ألم لمجتمع وبلاد، عالمنا بالمطلق يكره القادة المستبدين، بل المنافقين أعداء المعرفة، الكسالى.

امرأة لا تشبه إلا أنفسنا نقف خلفها كرمز دائم متجدد كان اسمها (روزا) لوكسمبورغ.

ثمة من يكره القادة الكسالى إذن، كنا نحن، فالذين “يضعون على أعينهم أكثر من غشاوة ” كما أشار (فيدريكو غارسيا لوركا) في جملة قرأها حاكم غرناطة من قصاصة صحيفة عثر عليها (فونسيكا) المدبر الرئيسي لمقتل (لوركا)، و(لوركا) أحببناه؛ لما فيه من لغة شفيفة، كما أننا نختلف مع رجل جعل من شاربيه أحجية عصر السرعة يدعى (سلفادور دالي)، وهذا الـ (دالي) مجرد واضع تواقيع على أعمال تلامذة يقلدون رسومه، وحده شاطر (فدريكو لوركا) وطعن حاسته في إحدى رسائله التي وضعت حدا للعلاقة القائمة على المعرفة والفن في قصر الثقافة هناك.

كما العادة، وبحكم الغيرة التي تستلزمها بعض أشعار (بابلو نيرودا)، ثم (ناظم حكمت)، وبعض كتابات عن الثورة المتجددة، صراعات (تروتسكي) مع قادة الكرملن، نأكل هذه الأخبار ولم نشبع، عن ذلك السحر الذي يحدثه منظّر “الحركة السريالية ” (أندريه بروتون )، لم نقرأ (إيلوار) و(آرثر رامبو) و(أراغون)؛ لأن ثمة ما كان يشدّنا لأشعار الثورة إلى أن ماتت فينا ذات الثورة، وبقي الحلم وحده كأنموذج للأمل والثورة الأخرى.

عالم النفس الذي أحتمه

بعد أعوام ثلاثين، وأعجب فيه أكثر حين أنظر إليه من شذرات نفسي وأخمنه بدقة، لكن، ثمة ما يهرول بسري، غير أنني ألوذ بلعثمة أمام حياة غيري، وقد يكون لي مع هذه النفس عذوبة أفتقدها.  

أو أنني راو يتكلم عن ساديّته، بينما ينحو وفق ما تقتضيه سجيّة اللحظة، لحظة ولوج نار حلم وبعض كتابة.

لم تكن الرؤية كما ينبغي، لكن سأفعل بشكل مقارب لدور صديقي عالم النفس، النصّاح الخلوق لـ (ونيسي) صاحب قصيدة (أورشليم). أتذكر وجهه المائل إلى نفسي كأني عجوز لم يعش طفولته في مدينة خارج الأمل.

عالم النفس الذي أحتِّم عليه أن يروي على سيرتي، أعلمه وصفتي الأقرب إلى خرابي الهانئ، من شذرات تلمسني، ولم أكن أبداً بالقرب من نفسي، عالم النفس يقرأ رسائلي إليَّ، وأنا لا أتذكر متى كتبتها!

كما لو أنني هرمت حقّاً.

أو أنني إزاء موت أوقظه في صباح متأخر؛ لأجد على حائط غرفتي العالية التي تحد السماء صوراً ونعوت. شهداء وقديسين، وجهي سيكون على ذات الحائط إذن.

لأعد إلى القصيدة الخالدة التي لا تُكتَب إلا في حياة خارج الحياة لتعود محملة بحفيف أوراق الموتى، وأكفان البريد التافه والصمغ البني النافر.

حفيف رسائلي إلى العالم

بعد أعوام ثلاثين، ما برحتها إلا للتشرد والخوف من الأمل الذي يسكنني، كان على أن أبارح وفق ما تقودني خطاي شرق هذا العالم العصي قُبيل “تشيرنوبل” بالوجهة التي تحد “رومانيا ” كما لو أنني لا أريد تبياناً ما، عالم آخر يتمظهر بلبوس وخلاص وعدالة ما بعد التجربة الشيوعية يوم عودة اليسار إلى مأزقه وكأن شيئاً لم يحدث.

وجهة أخرى من الألم، أكثر فتنة، أفتن بطبعي وأميل إلى الألم، لعله الأقرب إلى نفسي، بذات الغفلة التي دفعتني لكي أغادر إلى “مرسين” العاصمة السياحية لمجانين الشرق، ثم أُعتقَل فور وصولي مع جماعة “حيدر كوتلو” و“نهاد سرغين”، وصحبة امرأة يعود تاريخها إلى “حزب تودة” الذي مات منذ زمن بعيد. لم تكن سوى بعض أسباب تؤهلني كي أدخل مشفى “غول باش” في تركيا، هناك تحولت إلى خُلد خلوق يحن إلى أمومة مستحيلة، بحثت عن “دونا” فلم أجد سوى طابور طويل من عيون ومعتوهين سأكون هنا أكثر ميلا ً لتأملهم، وعبرهم عرفت كيف أنتبه إلى نسبة الأدوية التي تحيلني إلى فناء آدمي، فناء يلازم أمنا “دونا” شاخ جسدها كما شاخ جسدي بعد ما أعلن أول انهياره.

هنا في موسكو سيكون عليَّ أن أحدد ما ينبغي تبيانه بصحبة جسدي الذي يزول في هدنته، لم يكن إلا جسداً في طريقه إلى زوال، زوال يخمن مشهداً يدخل ألفية ثالثة، يودع الرؤيا والقصيدة، مجرداً من أسلحة المقاومة وأسرار البقاء.

 إلى الرؤيا أحن، لكن النفس جبارة، أغرم بنفسي وأميل إلى بعض نزواتها. في الرؤية أمعن طيش الذئاب وأنتبه لأصبو صبابة من يرمق الجحيم، ومن وردة أموت، أنثر أوراقي التي تقود إلى هدر الجسد والثروة التي منذ الأزل أفلست كما أفلست الأفكار في الشرق العربي، في الغرب الأوروبي، في شمال العالم وجنوبه العتيد – جنوب القلب يموت العالم – من العصيان، إلى النفس الخربة.

من الأمل المخنوق عبر صداقات متبقية، حيث جميع الصحب في علبة بريد أفتحه بحرارة الإثم الرحيم، والنشوة التي ضَلت، والهلاك الذي يؤنسني عن قرب.

أمر عبر رجمي في هذا المدفن الثلجي الباهر، قارة البؤس الأحمر، سيكون الشعر أكثر طهارة مما تلوثه نبوءة أبطال واهمين في عالم واطئ مخذول، عالم نخسره بانتظام.

جنة الجحيم

بقوة ستحط الحكاية، كما لو أنها لا تقترن بسياق هرم، أو أنني معها أهرم، وألوذ بما تبقى من كلام آخر كي لا أقع فيما قلته في ليلة غير هذه الليلة، ليلة تقرن بالزهو والبلاء حين أفلست من خلوات الأمل، وعبر صداقات المشروع الشعري الواحد، كما كنت أحسب أنني أردت أن يكون الأمر كذلك.

لا فرق على أي حال؛ فالحياة خارج الشعر، حيث التفاصيل، هذه الحياة على الأغلب لم أتمثلها حتى في نومي.

بقوة سيكتشف كثيرون أنهم هزموا مثلي. على الرغم من أنه ما زال في العروق ينبض دم الفتية وجمر الشباب. من الأمل الذي يربطني فيهم، أغادر، ومن ثم أتابع لتجمعني معهم لقاءات بعيدة. ومن ثم سيكون البريد التافه الذي يمشي كما السلحفاة وسيلة أفضل بيننا.

وأغادر خلسة ذات مرة، أتَّجه بعدها إلى “أنقرة” عبر حدود متاخمة للبلاد التي سيكون لي معها منامات في الشعر كما في الكتابة، ومن القسوة التي بدأتها في “دمشق” وعبر صحافة فلسطينية كانت أولى الرسائل التي أخطها لنفسي، ربما لشيء من الهجر الذي أعيشه في جهة العبور والأمل المتبقي في آخر هوامش التعبير – بيروت – ، وأستقرُّ في هذه الأخيرة بضعة شهور، ثم أغادر بدافع الزهد إلى “قبرص اليونانية” وأُطرَد كبقية الأمل؛ فأعود ثانية حيث غادرت لأزج في جهة جنوبية تحاذي “درب السيم” قرب مقبرة الشهداء والقديسين، هناك كانت نهاية الشاعر (آدم حاتم)، ثم أنتقل، لمرات كبقية القطعان إلى “مجدليون” شرق صيدا إلى “مراح الحباس” ، بل في المنطقة المتاخمة لها أيام عز المليشيات، هناك قرأت كتاب “الإنسان .. ذلك المجهول ” لـ (أليكس كاريل). ويا للمفارقة هذه.

أنتقل كبقية الذين تربطهم أفكار وقناعات، تلك “القناعات” حطت بنا كأي رهان خاسر في زمن ما ملكنا فيه شيئاً، وما وجدنا فيه أنفسنا.

زمننا وجيلنا الخاسر، نحدو بما قدر لنا من أفكار بإيمان شارد كنا نؤدلج جنة الجحيم، كأي مارقين على خطاب عالم ضاق بنا في حين أننا ما عرفنا فاصلة الموت وما بدأنا الكتابة.

العاصمة الأبدية التي أرسمها كانت في مكان آخر قد نودعها بأرصدة الحوض المتوسط، أو أنها تبدو كملاذ آخر، بل سقف حياة نتلذذ ببعدها، من سطوة الوقت الذي أحالنا إلى قصاصات ملوثة بحياة آخرين، ناسياً كما الفناء أسير خارج نفسي في خراب يؤطرها نار الهشيم.

لا بد أن تكون بذلك ضربة قاتلة، كسكين على جسد اللوحة، وأنا الذي يتأمل اللوحة، وحدي أكشف أضرحة وتماثيل يقدسها الراجمون حتفي.

لعله من دواعي اللحظة أن تلج في التأمل.

حيث الراوي رائيًا للأشياء يفتت الصمت والفكرة التي تغادر فور طرحها، وتبقى القشور البائنة كواتم تنتظر حافزًا ينسكب دفعة واحدة وكثيفة.

كما أراد أن يقول صديقي عالم النفس، يروي عن مخرج أفلام بقي في حيرة بين أن تكون مادته خارج الصالة أو الرقص كقياصرة اللحظة وما أقلهم؟ فوق المطر، لا تحته، على مرمى الوشاة، ثمة أرشيف يكتظ بكحل الليل ومدينة لا أحلام فيها.

إذا أمكنني أن أتمثل أحوال المركز المتداعي الأطراف، إذ عليه أن يلوذ بعالم لا كحل فيه، لا حياة تئد الرؤيا، رؤيا ما سميتها غير التأمل.

بينما الآخرون، ولست منهم، أتأملهم خشية السقوط، حب يكسوه ثلج وخفقة طيور ذبيحة، طيور مسروقة من ساحة كبرى، من قصر لم يعد يحتوي على نجوم ثورة أو فتات حتى عشية ذبحها.

الذي أفترض، أو أنني أحب افتراضه، ونزوعي إليه، مخرجاً سينمائيّاً، مُعد سيناريو، متأملا مشروعاً روائيّاً تسكنه حجة صمتي ـ صموت وجهي ـ أنفض عنه غبار أمكنة، أمكنة تهرول أمامي في بلاد حولت كل شيء إلى خردة.

إذن غادرت العاصمة، بعد أن غادرتني، كتبت مطولا ً فور وصولي رسالة تقدر بأربع عشرة صفحة شاكست بواحدة من تلك الصفحات.

 (كنتِ روحاً تبحث عن مسافة أخرى، ولأن البُعد الذي أرصدهُ لن يتحقق، أهرب من ذاكرتي).

في أحايين أخر أفكر بصياغة نفسي، أفكر أن تبعدي الورقة التي بين يديك مسافة، أي بعد وضع مرآة توازي المسافة ذاتها، وقتها يمكنك قراءة ما سوف أكتبه معكوساً “مَنْ يوقظَ ذاكرتي” تفيد المفردة بهذا.

وأفيد أنني بلا ذاكرة، أتذكر جسدي المؤوت. لست والأبراج على موعد منتظم؛ لأن معلمتي ليست بالقرب منِّي، لكنني أستمع وأقرأ حركة الإيماء دون جدوى.

ثمة صور مقرونة مع كلام المعلقة الفلكية وهي تدهم حياة البشر … أسمعها ولا أفهم.

على يقين بفداحة السر الذي تلامسه، بعد أن روج المنجمون لفعلتهم، بل لغاية ما قد تنحو إلى قراءة العالم من جهاته الأخرى.

إذ لم أكن أدري أنه سيكون لبرج السرطان أهمية عندي، وحقيقة هذا البرج أتوضحها في ذات الجسد الذي تحول إلى رقم خارج الإحصاء ما برح عنه العدم وما قرأه غيري.

إذن، سرطانياً كان برجها، سرطان على برجها الفاتن، يوقظ زهور النار على جسدي، برجها الموسوم بفداحة الخوف الآسر.

كما الغياب حين يؤسس حياة داكنة، بل رهبة تقصي الجسد خارج المغامرة. أجثو كثوري كسير وفكرة تائبة عن جسد يسير إلى زوال.

عرفت أنها قرأت نصف ما عنيته عن حبيبتي المستشرقة، وفق ما مكنني السرد ولعثمة حروفي، ههنا، ما زلت ألبس خوفها، خوف امرأة وعجوز يوزع خرافات كيفما يشاء، ومنذ أيام أتبين نفسي، حين غادرت (مرسيليا) هذا الزمن القصير، وأبدو إزاء نفسي قبل أربعين عاماً، قبل سقوط الحلم، وقبل أن يتكسر وجهي في هذه اللحظة.

متنا غيرة، غيرة من يهتف، عاشت البلاد وماتت الثورة، بين أن نكون يتامى، بين أن يتهاوى الملاك، سأكرر شكلي بينهم.

يؤلمني المصلون والحيارى، أورقت أضرحتنا على زهور الحب، وحدها المغامرة سارت بي، لكنني حدودها الأخيرة.

وحدي أهدد حياتي، أمسك السر عني، إذ لم أكن يوماً في أي اتجاه غير الدلالة، تسكنني دون اتجاه يحده ارتهان، كما اليتامى بعد أن تهاوى آخر ملاك يشبه شكل جدي، جدي الذي كنت أتشبه بزواله، منذ أزل العالم، منذ أن ماتت الرغبة، وطافت جثث هذا الكلام الأخير.

لم أرغب باسمي لأنه يدل ولا يتجه، يدل على نزعة بائنة، بينما أغرق باتجاه يتناسل، أهرول كما لو أنني لا أدري، الحياة خلفي، لا دلالة غير التوبة، متجهاً، أو هكذا لمحت نفسي.

إلى ماء الرغبة أتجه، قبل أن تجف الرغبة، ما من حيلة ضد النفس أو ما تبقى من ماء الرغبة.

كل شيء هنا شامخ إلا الرؤوس محنية

 جسد النار إلى زوال يمضي  

جسد يجثو في مرسيليا

النار تزهره

بينما أزول

خارج الجسد أزول.

الظلال واقفة وأزول

لم أكن بصحبة حزانى مضوا

ما مضوا يوماً معي.

حزانى تركوا الرغاب   

تذيبني رغاب الإثم الأليم

رغاب ضد النفس قبل أن تهلك.

كما أبي أوزع عبير المسك في عنتاب

مثلكم أيام زمان

روحي لا تحدني

خارج المغامرة أنوء

بعد أن هجرني كلام أخير

غدوت مجرد حاصد عتب

وفكرة منذ أزل.

كرات ثلج وشمس ترتجف

أمّا قبل … كان من دواعي الأمور أن ينهدم حيلي وأغيب لفترة عن نفسي، بقسوة مميتة أغيب عن نفسي، هزتني تلك الأيام في الأواخر من ذاك العام.

بعض أصحاب وصداقات أمكنتني من احتمال فظاعة ما تهدم فيَّ، أعود بعد هدنة إلى صياغة مختلفة لما بدأته، لكن، ثمة ما خالجني من شعور في قطار يقلني من مينسك إلى موسكو، وكان شرط كتابة هذا النص، كصياغة نفس تحدثني، فكان أغلبه مُنجزاً بنمط حياتي، كان ذلك حين أفلسني العالم من ممكن الأشياء (الأحلام كانت من هذه الأشياء؛ لذا أبدو كمن يحلم حياته ولا يعيشها) .

كما لو أنني لست من شرق العالم، أتبارك بنار باردة، وأسأل بخوف جلي، إن كان هذا الاختلاف المكاني قد أسس فيَّ هدنة مع نفسي، أم أنني أقصيت الروح والجسد في بعد آخر للنفي؟

ومع النفي الذي ألمس معالمه في موسكو؛ حيث أفترض صياغة ما تهدم أعاود النهوض من قارة الثلج الأحمر.

يحيل النص إلى دلالات رمزية في الموت، كما في الكتابة حيث أخرج من تجربة مريرة. كنت أتمرن من خلالها على فعل الحرية، إذ لم أمعن النظر إلى العالم بأعين ذئبية.

لعل ذلك جعلني أن أدعو ما دونته بـ (هدنة المنفي)، نفي الذات، أي إشارة لما كان في الأمس ممكناً حيث نجده اليوم عصيّاً أو أنه تبدل.

سيكون أساس ذلك إقصاءات متوالية، هذا إن لم نجدها بمفردة “النفي” عينها فيما لو أخضعنا مفهوم “الهدنة” للاسترسال اللغوي أو التشريح العياني حتى.

فهل نخلص عبر هذه المواجهة (للذات) إلى ما يتوافق مع جيل تحده كهوف تهجس عن إحباط ونفور من الأحلام التي كنا نغسل بها عيوننا؟

ذلك في وقت ينزع إلى تراجع الإيديولوجيات والأفكار، وثمة تشظ لعديد من الأسئلة التي تطال الفلسفات والسياسة، وبعض ما يصدر عن مقترحات تدعو للتجاوز والاختلاف.

نقول ذلك وندرك بأن الأمس لم يطوِ صفحاته بعد، والثابت أيضاً أن هنالك الكثير من المشكلات لم تنضج؛ حيث اكتنف هذا القرن إحالات سيرثها القرن القادم، وحيث تقنيات التكنولوجيا تجعل هذا العالم أشبه بمستعمرة، مع كل هذا سنجد ثورات تخرج على ما يمكننا وصفه بـ (أماكن محرمة من الوعي)؛ لأن المعرفة والعلوم والفلسفات مليئة بالشك حد اليقين.

ذهبت الأحلام التي أخذت على عاتقها رهانات ذلك الجيل لتستمر بأكثر إثارة يتطلبها عصر التحولات .. عصر صناعة الإنسان.

   بدوت خارجاً لتوي كي أعاود قراءة العالم بأعين نظيفة؛ لأن سمات جيل مضى ما زالت تلازمني، وأحسب ذلك ليس بالهين.

لأستمر إذن، بعد أن غيّبَ “المرض” ما قدر لي من نفي للذات عن مكانها الذي ينوس منذ أزل، وكي لا أستعجل كتابة رسائل إلى نفسي، عليَّ أن أتوصل إلى هدنة حقيقية.

لهذا الغرض ربما تبدل الاسم الأول لكتاب زهور النار، أسوة بما تحدثها النفس لا كما تفرضها شروط السرد ولغة المنفى الأليم.

  • أمكنة السرد : من الألف الثاني في جمهوريات الكومنولث تم هذا النص بعد أن بدأته بمدينة غومل في نيسان 1995 .  كتبته مجدداً في الأواخر من ذات العام في موسكو.

*أحمد سليمان: كاتب وشاعر سوري، أصدر دواوين شعرية خمسة وعملين سرديّين، ومجلداً ثقافياً فكرياً موضوعه الأساس الديمقراطية واستشراف المستقبل. كتب بمجالات مختلفة أبرزها قضية الحريات، وعمل في الإعلام الحقوقي.

عاش في بيروت بين عامي 1990 و2003، نشط خلالها بمجالات ثقافية، كان منها إطلاق مركز الآن.

مقيم في ألمانيا منذ العام 2003.

كتبه: الحفيد السري، خدر السهو، زهور النار، أتشــــكل، قُبعَّـــة المنــام، جـــدل الآن، رومانتيك 2011، اَلْعِشْقُ المشرور. الطريق إلى الحرية مُعبد بالدماء، المحرقة السورية.

 يحررموقع نشطاء الرأيمنذ العام 2004      www.opl-now.org