يَرحلُ كما يَحلو لمزاجِ قدمَيه المحيَّرتَينِ. يقطعُ المَسَافات الطويلة
ويعبرُ الجسور الخَطِيرة دونَ أدنى شكٍّ بأنَّه سيعبرها حتى ولو كانَ ذلكَ
على جثته. يشربُ الماء من الينابيع ويسبحُ في الأنهار العميقة.
يرضعُ الحليبَ الطَّازج من أثداء الذئبات، ويقول لهنَّ: شكراً لكنَّ
أيتها الأمهاتُ الشَرسات.
يستريحُ تحت شجرة دلَّبٍ ويتأمَّلُ شقوقَ الوديان بشَهوة مثيرة.
يركضُ وراء أرنبةٍ فزعة ويهدئ من رَوْعِها بجزرةٍ تخرجُ كسَهمٍ
من قلبه.
يتمرَّغُ بالعشب ويقلِّد حَركة الطيور في السَّماء.
يُمازحُ السَنَاجبَ ويرمي إليها حبَّات البندق، وهو يتقافزُ مثلها هنا
وهناك.
يسقي زهرةً ويأخذُ أجرَه منها نفحة عطرٍ، هامساً لها: “من يمتلكُ
الأزهارَ ليسَ بحاجة إلى الله”.
إن جاعَ يطرقُ الأبوابَ كعابر سبيل، يطلبُ خبزاً يتقاسمه مع أخوته
العصافير.
يعشقُ أول إمرأةٍ يُصادفها ويطبعُ على جبينها قبلةً كأنها إمرأته منذ
ألفِ عام.
لا يبالي إن اهترأ قلبه من الحبِّ أو الرذيلة، ويقولُ له: شكراً لكَ يا
قلبي الكبير.
يرقدُ قربَ جدولٍ رقراقٍ، وينامُ ملءَ الكوابيس. يفتحُ عينيه، فجأة
يرى لبوة تكمنُ بقربه،
بكلِّ برودٍ يقولَ لها: صباحُ المَخَالبِ أيتها اللبوة، ويسألها دونَ
اكتراثٍ: أتفترسينَ الشعراء المهوَّلين؟.
تديرُ اللبوة وجهها وتركضُ بعيدةً عنه!
يشدَّ حقيبته على ظهره ويضعُ وجهته القادمة نصبَ الغرابة.
لا يحملُ عبء وطنٍ أو بيتٍ أو إمرأةٍ أو طفل. وطنه هو المكان
الذي يحلُّ فيه ويملأه بماء الفتنة، وبيته حيث يفترشُ الأرض ويسكرُ على
أعشابها النَّدية، وإمرأته حيث كل النساء اللواتي يُصادفهنَّ في ترحاله،
وليَكن طفله عصفوراً، فراشةً أو نجمة…
ها هو ذا الآن يقفُ على رابيةٍ عالية. يجمعُ كلّ قواه ويركلُ على
مؤخرة الحزنِ،
صارخاً بأعلى مَوته: سألتهمكِ أيتها الحياة، سألتهمكِ… فأينَ المفر؟
2
رحلَ، يرحلُ وسيرحلُ…
لم يتركْ بحراً إلا وملَّحَ به جَسَده، ولا جبلاً إلا وطبطبَ على رأسه.
لم يتركْ غابةً إلا ونهلَ من خفاياها، ولا أرضاً إلا وزرعها بجنونه.
لم يتركْ لغةً إلا وتعلَّمَ منها أقذعَ الكلمات وأكثرها ضَرراً وشروراً!
يتخطَّى كلَّ حدودٍ، ويقولُ: شكراً لقدمَيَّ القويتينِ.
يجدُ نفسه في كلِّ مكانٍ، ويقولُ: شكراً لروحي الهائمة في أرجاء
العالم.
عاشَ في أكواخ الفقراء وصارَ واحداً منهم. دخلَ قصور الأغنياء
ولم يطق العيشَ فيها.
عرفَ الفنادق والحانات والأرصفة كما يعرفُ أباه وأمه وأخوته
وأصدقاءه.
عرفَ التَّشردَ كما يعرفُ جوربيه الممزقين. شربَ، ثملَ، دخَّن وملأ
العالم بطيشه وهذيَانه.
أحبَّ الأشجار أكثرَ من البشر والطيور أكثرَ من الطائرات والخريف
أكثرَ من كلِّ الفصول.
أحبَّ الليل وأخذه من يديه، قائلاً له: يا أعمى كم أنكَ تُضيء قلوبَ
الشعراء.
عرفَ البرد والتَحَفَه. خبرَ لكْنة الثلج القوية، ولم يبالِ!
لم يأخذ هذيان الزوابع على مَحْمَلِ الجَّد، وجهه كانَ يناطحُ دوماً
وجه الرِّيح.
إنْ ماتَ فلن يستكينَ في قبره، سيتركه إلى قبرٍ آخر. من مقبرةٍ إلى
مقبرة،
سيصادفُ قدماءَ الموتى ويسمعُ قرقعةَ عظامهم وهم يتناكحون
وحديثي الموت وهم يتفسخون. سيقابلُ المحكوم عليهم بالجحيم
والمحكوم عليهم بالنَّعيم
والذين يتأرجحونَ على الصِّراط المستقيم.
هو الرحَّالة الأبدي، هل يَجرؤ أحدٌ أن يقولَ له: لما لا تَستكين؟
سيحاسبه الله، ويقولُ له: يا ربي ماذا فعلَ هذا المجنون الحزين
لتحاسبه؟
سيحاسبُ الله ويقولُ له: يا الله لماذا خلقتني على صورة مجنونٍ ولم
تخلقني على صورتكَ الطَّاهرة؟
عرفَ اليأس وحزنَ لأجله، لأنَّه كانَ مثله لا يطيقُ الفرحَ الزائل.
هتكَ عرضَ الخيبة لكنَّها اخترقته كرصَاصَةٍ ليست طائشة!
مشَى حتى اهترأتِ الطرقات وتشقق باطن قدميه
تسَاقطتْ سَلامياته واحدةً تلوَ الأخرى، وقالَ لا بأسَ من ذلك: “السفر
أجمل”.
في كلَّ حياته لم يملكْ نقوداً. الخرْدَة كانتْ تكفيه!
حياته كانتْ دوماً على شَفير الهاوية، وقلبه كانَ دوماً على شَفرة
الوجود..
كانَ يقولُ بعنادٍ للحياة: جُودي أيتها الحياة، جُودي عليَّ ببخلكِ، فأنا
أحبكِ بكلِّ شَغفي وكَرَمي الهائل.
3
حلَّ ضَيفاً على حديقة العميانِ
رآهم يجتمعونَ حولَ فيلٍ ويتحسَّسونَ جَسَده
كانَ أحدهم يقولُ هذا حصانٌ. يقولُ آخرٌ لا بل هو بغلٌ. يقولُ ثالثٌ
لا لا، أنه جملٌ ضخمٌ.
يقولُ الأخيرُ لا لا، بلا شكٍّ أنه حمارٌ طاعنٌ في السنِّ.
أمَّا هو فقد همسَ لهم: يا أصدقائي، الذي تتحسَّسونه هو جسدُ الفراغ،
والذي تلمسُونه هواءٌ،
والذي تنشغلونَ به هو خيالكم.. تماماً كما الشعراء المجانين أنتم!
يحدَّقَون به فجأةً، بريقاً حادَّاً يشعَّ من عيونهم…
يصَرخون في وجهه بصوتٍ واحدٍ: أتسخرُ منَّا يا هذا؟ أتكذِّبُ رؤيتنا
يا أعمى؟
قهقه حتى وقعَ على ظهره، وقالَ: أيا ليتني كنتُ مثلكم!
تذكَّرَ بورخيس، وهو يقولُ: “لو استطعتُ أن أعيشَ حياتي ثانيةً
سأحاولُ أن أرتكبَ أخطاءً أكثر”.
وتخيَّلَ كيفَ كانَ يضعُ يده على رأس البشر، ويكتشفُ الحميرَ منهم
فورا!
تذكَّر أعمى المعرَّة، وهو يعالجُ الألم بالغفرانِ ولا يغفرُ لأحد.
تذكَّر ساراماغو، وهو يقودُ عميانه في أرجاء المدينة، وهم يعيثونَ
فتكاً وخراباً…
تذكَّر عاشق جانيشيرو تانيزاكي، وهو يثقبُ عينيه ليتساوى مع
عشيقته العمياء، في العماء.
تذكَّر شيخ قريته الضرير، وهو يقرأ من كتابِ الله ليجمعَ الملائكة
من حَوله،
وتذكَّر كيفَ كانَ يجمعُ كلَّ الشياطين من حولِ الشيخ الضرير.
الآن فتحَ قلبه، فرأه أعمى بالكامل. فَرِحَ، فَرِحَ بذلكَ من أعمقِ
أعماقِ عماه!
4
المَطر يَضربُ بقوةٍ على زجاجِ نَافذته
يُخْرِجُ رأسَه ويقولُ: أيها المَطر أضربْ هَا هُنا على رأسي.
تَماماً على الجُمجُمة المصقولة بعناية فائقة!
أريدُ أن تفرَّ من أمامكَ عفونة العقل ومَهازله المُسْتديمة!
أريدُ أن يذوبَ تحتَ نقراتكَ القويَّة ملح الحكمة وقيحُ اليقين
أريدُ أن تتفتَّتَ صَخرة الهدوء ويتَهاوى عرشُ المُحرمات
أريدُ أن تعملَ بمعولكَ الرَّطب على مَورُوثَات اللطافة والهدوء.
أريدُ أن أبقي على الجنونِ مُشعَّاً، مُتلألئاً، فَاتناً، عَجيباً وغريب
الأطوار.
أريدُ أن تشهقَ الكائنات من الدَّهشة وتردِّدُ: يا لعظمة هذا الجنون
يا لجنونِ هذا الرحَّالة العظيم.
نص منشور في مجلة أوراق