مقطع من رواية نجم وسارة
كان الجهاز يعمل جيدًا، ولقد أنجز نصف المقال الذي طلبته منه ويتكون من صفحتين، خرجت الصفحة الأولى تحمل عنوانًا لطيفًا «نحبكم.. أيها الشعراء»، وتتحدث عن مساعد في المخابرات يشتكي من أنه مكلف بمراقبة إنتاج جميع الشعراء السرياليين، وهي مهمة متعبة حقًا. أكملت المقال يدويًا بكتابة خاتمة سريعة موجزة:
“أيها الشعراء.. أنتم كارثة! كما قلتُ لكم لا أحد يقرأ أعمالكم، حتى النقاد يستطيعون تمييز أسلوب الواحد منكم فور قراءة الكلمات الثلاث الأولى، حتى محبي الشعر سيتمسكون بمن أحبوهم من شعراء في أيام المراهقة وهم الأردأ بكل تأكيد، فما بالكم بالصحفيين الذي يكتفون بأخذ أغلفة كتبكم ونسخ صفحة من الكتاب وصفحة أخرى من الهراء النظري الجاهز في رؤوسهم، ويقبضون. يبدو الأمر لطيفًا، والدنيا تسير جيدًا مع الجميع، ولا أحد يشتكي، وكل تلك الأصوات التي تشتكي من كثرة الشعر منيكة لا أكثر. ففي نهاية الأمر، إنها صناعة كبيرة تقوم على اللا شيء، فأنتم يا أحبائي تبيعون الهواء. لكن نحن فقط يحق لنا أن نشتكي، نحن فقط مجبرون على قراءة كل ما تكتبونه، كل أحلامكم وأوجاعكم وترهاتكم وتقييمها، ومعرفة: هل تشكل خطرًا على الدولة، أم لا؟ مع هذا، لا أحد يحسُّ بنا، أو يسعى لتخفيف معاناتنا. رجاءً لا تكتبوا كل يوم. يكفي قصيدة واحدة كل شهر، أو في المناسبات الرسمية. ربما حينها سنشتاق إليكم، ونحبكم”.
أعود إلى بداية المقال لأشوه قليلًا من عمل المعتوه الرائع، إذ التقط اللعين روح المساعد جميل كأنه ابن سلك من يوم يومه، بينما كانت عباراتي التي قرأتموها حذلقة تسبب الضجر.
هذا المقال مختلف تمامًا عن كل ما كتبته.
خفتُ قليلًا، ثم أردف:
إنه يحتوي على أسلوب. اسمح لي أن أدعوك كاتبًا.
لم أنبس بحرف، ثم أرسلتُ له بعض الملصقات.
في ظروف أخرى، يمكن لانقطاع مصدر دخلي أن يدخلني في حالة اكتئاب لا مثيل لها. لا سيما عندما أرى شحاذًا في الشارع وأتذكر أني لا أملك ثمن علبة سجائر. لكن في تلك الأيام كانت ريما معي تدعمني معنويًا وأحس أني منتصر في هذا العالم بين معتوهين كثر.
الانهيار يلوح في الأفق، ولولا وجود ريما لاستسلمتُ مباشرة. لكن، لأني أريد أن أبقى قويًا أمامها فعلتُ ما لا يمكن أن أقبل به لو كنت بوعيي؛ عدتُ إلى الكتابة، فبعد تجربتي الأخيرة، اكتشفت أنها العمل الوحيد الذي يروق لي.
لم يكن الأمر مأساويًا أبدًا، بل عاد بنتائج لم أكن أتوقعها، معنويًا على الأقل. ما فعلته يومها أنني بت أعود إلى تلك النصوص التي كتبها المعتوه وتجاهلتها طويلًا لأختار منها من جديد.
كما قلت لكم ينتج المعتوه كميات كبيرة من الهراء، وعادةً أختار أفضل الموجود. لكن هذه المرة اخترتُ أي شيء يصلح لأي شيء، وكانت النتائج أفضل من السابق، لأني رحت أبيع بالجملة.
لا يوجد ارتباط عاطفي بيني وبين تلك الأكوام المرمية، وبيعها لا يعد خيانة لذاتي، ولا يعد خيانة للمعتوه أيضًا، بل إني أساعده بنحو ما على الاستمرار.
بقيتْ بضع أوراق فقط، بعد ثلاثة أشهر ونصف من ربيعي الجديد. تلك المرحلة التي سيسميها المؤرخون لو كنتُ أحد أبناء بيكاسو أو شخصية مشهورة: «مرحلة البيع بالجملة».
هذا المقال مختلف تمامًا عن كل ما كتبته.
خفتُ قليلًا، ثم أردف:
إنه يحتوي على أسلوب. اسمح لي أن أدعوك كاتبًا.
لم أنبس بحرف، ثم أرسلتُ له بعض الملصقات. كنتُ أتحدث مع الأصلع، محرر في موقع «تجمع البغال السعداء». نعم، تكرر هذا الحوار حرفيًا، ولا تنتظروا من الأصلع أن يتذكر ذلك.
كان شعار الأصلع: «عندما تصل لا تكن نسخة ممن صعبوها عليك». لا أعرف إلى أين وصل هذا المعتوه الآخر، صحيح أنه كان يدير موقع «تجمع البغال السعداء» يوم إجراء تلك المحادثة، لكنه طُرِد بعد أيام من هذا المنصب بعد حصول الموقع على دعم جيد.
يبدو أنني أصبحت أملك أسلوبًا عندما انتهت كل المواضيع التي يمكن أن أكتبها، وكل البشر الذين أعرفهم… ما الفائدة إذن؟ ربما لو استمر الأمر شهرًا آخر لوجدتم مقالات تتحدث عن جماليات الثرثرة في مقالاتي أو ابتكاري فنًا ساخرًا جديدًا.
لكن للأسف تقترب المرحلة من نهايتها، وينبغي لي التفكير في شيء آخر منذ الآن. لكن طمعي لم يدعني أتنازل حتى عن تلك الأوراق القليلة الباقية.
أمسكتُ تلك الأوراق لأرى ما الذي يمكن بيعه منها، رحت أقرأ السطور وأتجاهلها، حتى صعقت عندما قرأت كلمتي «نجم وسارة». أنا لست خائنًا، لم أستهدف منزليهما أبدًا، ولا أعرف حتى عنوانيهما. فكيف وصلا إلى بياناتي!
إنه وسيم الطالب الذي كان يسألني عن سبب محبتي لشطائر الزبدة والسكر في المدرسة. لقد كان صبيًا لطيفًا. ربما تذكرته يومًا ما وأنا أعمل على المعتوه، فاستهدفته ثم نسيت ذلك في غمرة انشغالاتي، المهم لنرى ما يقوله المعتوه عن نجم وسارة.