تقف فريدة على بعد خطوات. ترتجف بطريقة غريبة، فلا يتحرك جسدها كله، فقط قلبها وصدرها، وهي تنظر نحو باب المبنى الذي كان على وشك الانخلاع، كأن الباب موصولٌ بقلبها، ويحرِّكه معه.
أقفل المدرِّس باب المخبر، وأنتظرُ أن يفتحه لأنجو بدوري، ولكنه ينتظر موعداً ما، أو اجتماع من سيجرون تلك التجربة، التي لا أعرف عنها شيئاً، ومتأكد أني لن أعرف بعد خروجي.
بعضهم جلسوا في الداخل، وبعضهم تاهوا في الخارج، وتشتتوا في الطرقات، وما زال الوحوش يحاولون تحريك الباب الكبير.
مراد في السكن الجامعي يراقب مطاردة مماثلة، ويرى طلاباً يقفزون من الطابق الثاني، هرباً، وآخرون يُلقى القبض عليهم. يدخل إليه أحدهم، ثم ينظر إليه نظرة، ويخرج. ربما لو اختلف لون بشرته أو طوله لكان الآن في عداد الموتى، أو لو كان مزاج ذاك الطارق المستعجل مختلفاً قليلاً في تلك اللحظة.
كلَّفني تصليح أسناني مبلغاً كبيراً، وأحاول تجنب الابتسام من يومها، فلا أعرف إن كنت أستطيع تصليحها مرة أخرى. كانت أبواب المخبر الابتسامة التي انتظرتها فدخلتُ بسرعة، وأنا ألقي نظرة إلى مكان وقوف فريدة التي اختفت تماماً.
أسعد رأى العلم الأخضر يُكسر في مظاهرة، ثم غادر سوريا، وبقيتْ تلك الصورة آخر ما رآه في حياته فيها.
البحر الأبيض المتوسط: يقف سامر على الشاطئ، وقد اتفق مع المهرب منذ أيام. يصله اتصال من حبيبته، فيعود إلى سوريا. وبعد شهرين، تتزوج غيره.
في يوم غائم جزئياً، يعبر مجد الجبال التي تفصل بين سوريا وتركيا، وتقع شمال سوريا. يتحسر على العمر الذي قضاه في هذا البلد دون أن يكتشف الكثير من الأشياء، ومنها هذه الجبال. لم يعلم أنه سيأتي يوم، ويعيش فيها.
يدخل الحدَّاد يومياً ليصلي في المقهى. جميع من في المقهى لا يُصلُّون. يُسكتون فيروز خمس دقائق، وبعد خروجه يعيدون تشغيل «هالة والملك»:
أنا ما بسكر.. أنا بسكر لأتحرر
عنتر مين هو عنتر؟ أنا عنتر
يموت أحد الأشخاص الذين كانوا يبيعونني بطاقات الإنترنت، وأرى الخبر على صفحات مواقع التواصل. يموت الطبيب المهاجر، عندما مر لزيارة أصدقائه في البلد، أمام باب المستشفى. يموت بائع الحشيش أيضاً، أو يُقتل. لم يحبه أحد يوماً، ولكنهم أحبوا الحشيش.
يقف في الحمام في شهر رمضان، ليدخن، تدخل الشمس من الشباك الصغير بأعجوبة، ويكاد يقع من التعب. يتمنى لو أحضر شيئاً يأكله، ثم يحس أنه تافه أكثر من عقب السيجارة التي تسير وحدها الآن في طريقها الوحيد إلى البحر.
يكره الكلام، ليستطيع الابتسام، دون وجود من يضربه على أسنانه، ويشغله شهرين في إصلاحها. يمكن في أية لحظة أن تقابل من لا يعجبه شكلك، أو يكون مزاجه سيئاً، هل يخبرهم بهذا؟! لا يطيق قراءة الأدب السوداوي أو كتابته، إنه يعيشه فقط.
ما زال يجد نفسه في أحضان الأدب القديم، فكلهم كانوا معقدين: ابن الرومي والمعري والمتنبي، حتى أبو تمام، أمير الشعر العربي، له عقده التي يخفيها بعناية، وكان لا يلقي شعره بنفسه، بل يرافقه شاب للإلقاء، فربما كان سيضحك في أثناء الإلقاء على كل هذه المهزلة.
نعم يدفع الشعراء اليوم لتُسمَع قصائدهم. «ماذا حدث لعقولكم؟» يسألنا أبو تمام، أو لا يسألنا، فالموضوع لا يعنيه.
يخرج نزار قباني في الصباح متأنقاً، فلديه متجر عطور. إنه الأكثر تواضعاً، فغيره يمضي وقته في المكتبات، أو الصحف، أو مطاردة الأخبار.
الآن، ما الذي نطارده نحن؟
يحاسبونه على النوم، ويحاسب نفسه على اليقظة. يسير في الشوارع بين موتى. يتذكر الآن أن هذا النص دون عنوان، ثم يتذكر أن عنوانه: «فريدة». لديه نص كان يريد كتابته، اسمه «الحلم الأخير»، ويوجد في رأس الصفحة أيضاً عنواناً يتيماً. عمَّ يتحدث ذلك النص؟ لا بد أنه شيء مهم.
فريدة هي الشخص الذي لا يمكن أن يلتقي به أبداً، فيوم قابلها كانت تعرف ما تريد، ولو بدا أنها ملت أو نسيت مثل أي أحد آخر، فما زال ينفر منها. لا يفهم من أين تأتيها تلك الثقة. إنها تصفية حسابه مع المدينة.
في الكتابة، المجاز وحش أيضًا. وكلما ازدادت مطامعه، قربنا أكثر من الحرية.
تعلم أشياء كثيرة من الكُتاب، لن تجدونَها في هذا النص، الذي لا يشبه حتى نفسه. حتى في علاقتنا مع اللغة. في البداية نحبها، ثم نحاول أن نغيرها، ثم نستسلم أو نهرب.
في اليوم الأول لوصولهم إلى تلك المدينة، أوقفهم حاجز وطلب هوياتهم، وضحكوا عندما كان اسم أحدهم على اسم ضابط انشق في ذلك اليوم، قائلين: لا يُشبهه.
كان يرمي أوراق اللعب كيفما اتفق: ينظر إلى اللون ويرسل شيئًا يُشبهه بسرعة، وشريكه يصرخ به. لو أراد أن يفكر ذهب ليدرس، أو يكلم أحداً. إنه لا يستمع باللعب إلا هكذا.
(من ذكريات 2012 – 2013)