حسين جرود: انقلاب

0

لا تعرف معنىً لحياتك دون شوارعَ تقصدها؛ دون نقاطٍ وعلامات، ما زال الإنسان يحمل غرائزه معه ويضع نقاطاً كالحمام الزاجل، أو كالدببة والحمير لتمييز الأماكن، ليعرف أين يمكن أن يجد ملاذاً، وأين يمكن أن يمارس الخمول، أو أن يبحث عن عشيقة، أو أن يغير شكل عالمه ولو بتغيير متكرّر بين أماكن متتالية يزورها كلّ يوم.

وبينما تعيش الحيوانات هذه العلاقة بعفوية كبيرة دون حواجز أو حدود، علينا نحن البشر أن نمارسها من وراء حجاب. فلا نستطيع أن نسير في الشوارع دون حذاء، بل وجوارب أيضاً. لهذا ظهرت مشكلة كبيرة عندما مسخنا الله قردة وخنازير.

وبينما تتقدّم خطوتك وأنت تفكر في مشاريع كبيرة لمستقبلك الجميل وتحلم في سماءٍ أخرى، تشعر أن أصابع قدميك تبلّلتْ!. أنت تسير ببطء، وتنتبه للمستنقعات، وتعدُّها!. نعم أنت تفكِّر في السماء، لكن نظرك 24 ساعة على الأرض، بكل تأكيد لم تغفل شيئاً، لكن المشكلة أن حذاءك مثقوب أو أكثر من ذلك قليلًا.

من ميّزات الأحذية أنها لا تبالي وتستطيع أن تتحمّل، حتى الجوارب تشتكي وتئنّ وتسعل وتتعرّق، أما الحذاء فهو أرض فوق الأرض، تسير بما قدر لها، دون أن تأبه بالعواصف والأنواء.

مع أن له جلد، ولكنه ليس مثل جلدنا، وليس مثل جلد الطبل، أو حتى جلد التمساح. جلد الأحذية خلق محارباً، لا يهاب الصعاب ولا حل له إلا بإرساله إلى الجحيم في مدافئ الحطب، وإلا سيستمر إلى أبد الآبدين وقد يصبح سيد هذا الكوكب.

عندما تعدّ الملامح المميزة لبيت قد تغرّك النباتات أو المساحات أو حتى السكان، دون أن تنتبه أن ما صنع المساحة، وحمل السكان، وسوف يقضي على النباتات، هو سيد الموقف وصاحب البيت.

يقال أن الإنسان يتنفّس من جلده وأن المصابين بحروق خطيرة يشعرون بضيق التنفس، لكن تكميم الأفواه هو ما أشعر به وأنا أرتدي هذا الحذاء الجديد. ليست مسألة أن التعب تسرَّب بسرعة أو أن ساقاي أصبحتا كقطعتين من الخشب. أظن أنني لم أعد هنا، أنا في مكان آخر، وهنا يستوطن هذا المحتلّ الغريب.

كانت هذه المحاولة الثالثة لارتداء الحذاء الجديد، خلال أسبوعين، ولا أعرف هل سأرميه في مدفأة الحطب أم أمارس به عقوبة الإعدام شنقاً.

كل يوم، قبل أن أخرج، أجد نفسي تلقائياً أمام خيار سهل وأنحاز إلى الحذاء القديم.

استمرت علاقتنا ثلاث سنوات، لم تعد الوجوه هي الوجوه، ولا الظروف هي الظروف، لكن ما يربط بيننا أصبح خلف المظاهر والأحوال.

لكن اليوم، بينما كان ذلك الرجل ينظر نحو أقدام طفلة عندما كنا نجلس على طاولة أمام مقهى، أحسست أن أقدامي أصبحت عملاقة وأنها الشيء الأكثر مرئية في ذلك الشارع، كأن قدماي قاربان ضخمان في ذلك النهر العريض الضحل.

لا أعرف لماذا يظنون أنفسهم أفضل من حذائي، أنا أستطيع أن أتخلّى عن أيّ واحدٍ منهم ولكنّي فشلت مراراً في التخلي عنه. مراراً في التخلّي عنه.

*خاص بالموقع