حسيبة عبد الرحمن، اسم لا يحتاج المرء حين ينطقه لأن يشرح أيّ شيء، فهنا لا مجال لأيّ تشابه أسماء أو خلط، فلا يوجد في سوريا كلّها، من أقصاها لأقصاها، إلا حسيبة واحدة. ومن لا يعرف حسيبة؟
إنّها حسيبة التي ما إن يُنطق اسمها أو يلفظ في مجلس ما أو يشار إليها، حتى تتلفت الرقاب نحوها بتقدير ناجم عن احترام كبير وجليل لامرأة يعرف كلّ من عرفها وعرف تاريخها أنّها جُبلت من صوّان. كيف لا؟ وهي التي لم تخف السجن يومًا ولا السجّان؟ كيف لا؟ وهي التي تركت كلّ الامتيازات التي توفرت لها، فقط لأنّها أحسّت بأنّ “ظلمًا قد وقع”؟ كيف لا؟ وهي التي تركت كلّ شيء لتتبع نداء الحريّة وتواجه واحدًا من أسوأ دكتاتوريّات هذا العالم، متحمّلة في سبيل ذلك السجن والتعذيب ولوم الأهل والفقر وفقدان الأمان، مواجهة كلّ سلطة أرادت أن تفرض عليها رأيًا أو قيدًا لا يتلاءم مع نداء الحريّة النابع من داخلها، بدءًا من رفاق حزبها مرورًا برفيقات نضالها وصولًا إلى ثوّار اليوم الذين يضعون معاييرهم الخاصة للثورة. لم تأبه حسيبة يومًا لأحد سوى رأيها الذي تتشبث به بعناد البلاد التي أنجبتها، فبقيت امرأة حرّة تغرّد خارج السرب، أيّ سرب كان، لها رأيها المختلف دون أن يقلّل هذا من عزيمتها أو شدّة نضالها ضد دكتاتوريّة لا تزال تقارعها من الداخل، حيث أرادت البقاء في زمن الهجرة إلى الشمال، لتحرس مفاتيح البيوت التي تركنا، وربما ما تبقى من أحلامنا أيضًا.
أردنا في حكاية ما انحكت، في هذا الملف أن نكرّم حسيبة عبد الرحمن، لنضالها الطويل، ولصمودها، ولشجاعتها التي علمتنا الكثير، حريّتها التي تُمارس بغريزة معمّدة بفكر أصيل، للصوت المختلف عنّا والمذّكر لنا بأنّ مساحات الديمقراطيّة تبدأ من بناء مساحات الاختلاف لا التوافق.
هل لك أن تختصري حياتك في لحظات/ فلاشات مكثّفة؟
بدأت قراءة أسئلة حكاية ما انحكت، وأنا أحاول لملمة فجوات امرأة في حالة تيه، وذاكرة يحدّها فراغ الأزمنة وضياع الأمكنة. وهذا ما استطعت القبض عليه من لحظات فارقة من عمري الذي تعدّى الستين عامًا.
اللحظة الأولى في مفترق طرقي: لحظة ودعت حزب وشبيبة البعث والاتحاد النسائي، وهي أماكن نشاطي في المرحلة الإعداديّة وبداية الثانويّة. لقد كنتُ أبرز فتاة نشيطة عندهم، وبيدي صلاحيات لا تتلاءم وعمري آنذاك، غادرت تلك الأمكنة لا ألوي على شيء بسبب إحساسي بظلم وقع.
اللحظة الثانية يوم تعرّفت على بعض الشخصيّات من رابطة العمل الشيوعي، وكنت آنذاك في الثانويّة العامة، فبدأ ظل السياسة يحوم حولي، والخيالات النضاليّة تتوهج أمامي، كما أنّ الروايات التي قرأتها حوّلتها إلى فيلم خام دخل غرفة المونتاج.
أمّا اللحظة الثالثة فهي لحظة الصدمة، عندما أُلقي القبض عليّ للمرة الأولى على الحدود اللبنانيّة السوريّة وحقيبتي مليئة بأدبيّات ورسائل وجوازات سفر للحزب، باعتباري كنتُ مراسلة بين مركزي دمشق وبيروت. وفرحتي يوم إطلاق سراحنا وجميع معتقلي الرابطة (عدا الضبّاط) بشكل جماعي، يومها نُقلنا في “باصات” وكنّا نغني للشيخ إمام وكأنّنا في رحلة، وذلك في عام 1980.
اللحظة الموجعة الأخرى يوم كُشفت هويتي الحقيقيIة (كنت متخفية) في اعتقالي الثاني. فبعد (21) يومًا من التحقيق، مارست خلالها تأليف القصص حول شخصيتي وهويتي المزورة، وكنت على أبواب الحريّة لعدم وجود تهم سوى الغباء الذي قادني إلى ذلك البيت الذي اعتقلت فيه (حسب المحققين). لكن الصدفة والقدر والحذر الأمني قاد المحققين لإدخالي إلى مهجع المعتقلات لمعرفة ما إذا كانت إحداهن تعرفني، فوقع المحظور، وتعرفت عليّ إحدى المعتقلات، وصرخت بعلو صوتها (ودون قصد طبعًا): “حسيبة عبد الرحمن!؟”، فأعيد التحقيق معي من جديد، ودخلت دوامة التعذيب الفعلي هذه المرة.
اللحظة الخامسة عندما جاءتني دعوة إلى مؤسسة هاينريش بول وسافرت إلى أوروبا (2001/ 2002) بعد (25) قرار منع للسفر، وهذا ما حرمني من حضور اليوبيل الذهبي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1998) والذي كنت مدعوة إليه.
اللحظة القاسية، كانت لحظة وفاة والدي الحنون وأنا في المعتقل (1989). ولحظة قاسية أخرى كانت عندما اعتُقلت للمرة الثالثة (بتهمة استقبالي هيئة العفو الدولية) في دمشق (1993) وبقيت (ثمانية أشهر)، ودون أي زيارة بعد وفاة والدي لعجز أمي عن تأمين زيارة لي. وقبلها، وبعد شهر ونصف اعتُقلت في بيت المرحوم سلامة كيلة وبقيت أيامًا. عدا عن فقداني لأمني الشخصي نتيجة الاستدعاءات الأمنيّة والتوقيف ليوم وساعات. وعندما نشرت روايتي “الشرنقة” حُقّق معي لأشهر (حتى مات حافظ الأسد).
أين تعيش حسيبة اليوم؟ ماذا تفعل؟ كيف تقضي يومها؟
أبدأ بالحاضر البائس ووقعه على تفاصيل حياتي اليوميّة، بدءًا من تناول القهوة المرّة كهذه الأيام إلى قراءة الأدب الكلاسيكي هربًا من قباحة العنف ووقاحة صيده وقنصه المجاني لأرواح البشر، سواءً بالرصاص أو بالطائرات أو باليأس والخوف (تعدّدت الأسباب والموت واحد). كما أشاهد أفلام الأبيض والأسود الخالية من العنف، وهو هروب ثان من مرارة الحاضر العلقمي وشباكه المرميّة على دوامة كآبة ترخي سدفها على الروح فيصعب الخروج من براثنها. وبنفس الوقت أستقبل أصدقاء من مختلف الأجيال (شباب وشابات طلاب جامعة) وآخرون من رفاق الأمس (مخلّفات الحرب الباردة)، إضافة إلى أصدقاء جدد تعرّفت عليهم بعد العام 2011. كما أقوم ببعض الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة، وأتابع إصلاحات بيتي العربي، بالأحرى غرفتي وأرض الدار. في بداية الحراك واظبت على كتابة يومياتي (2011/ 2012) ربما أنشرهم في يوم ما، هي حالة من حالات تعرية الذات.
في “موسم الهجرة إلى الشمال”، بعيدًا عن الحرب والجوع والوطن والموت، آثرتِ البقاء في الداخل، لماذا؟
في زمن موحش ومتوحش كهذا الذي أعيشه، أسأل نفسي لماذا قرّرت البقاء في سوريا؟ عِندًا؟ حبًا؟ خوفًا من الغربة؟ أم واجبًا أخلاقيًا؟ أم كلّ ذلك؟ أو لأنّها أولًا وأخيرًا بلدي القاسي المدمّر المشتّت المفقر، القاتل والمقتول، الظالم والمظلوم، المأخوذ سفاحًا؟ إنّه وطني، وكفرسوسة ببساتينها الغنّاء (البازخة بأشجار المشمش والتوت الشامي والرمان) أيام زمان، وبساطة أهلها، هي مرتع طفولتي وشبابي، الحيّ الذي لم أغادره إلا عندما تخفيت، واعتقلت. أنا مسكونة وساكنة فيه، رفيق أيامي وأحلامي وفرحي وخيباتي. وهو الحيّ الذي شطرني شطرين (هل لبرج الجوزاء دور في شطري ما بين سكني وحبي وبين مكان ولادتي) شطر رحل مع بيتي عمي الذي عشتُ معهم وبينهم منذ طفولتي الأولى (تعرّضوا إلى مضايقات أمنيّة عديدة بسببي مع إنّهم مع النظام وفي أجهزته الأمنيّة والعسكريّة). وبعد عام من الانتفاضة ومع بداية تحولها نحو العنف والتطييف، هُدّد عمي البالغ من العمر ثمانين عامًا وزوجته، ورحلّوا عن بيتهم بعد خمسين عامًا من العيش في كفرسوسة، وبقي نصفي الثاني في البيت المهجور وبين صدى سكانه. عشت أيّامًا عصيبة في بيت خالٍ وجيران نصفهم ترك سكنه وغادر. ولكي لا يُقال إنّ سكان كفرسوسة قاموا بطرد الأقليات، أصريّت على البقاء وحيدة دون كهرباء، وأحيانًا بلا ماء، مع بقيّة جيراني من الحيّ ذاته، والذين حاولوا مساعدتي قدر المستطاع، باعتباري وحيدة! لم أبت ليلة واحدة خارج المنزل، وسط الخوف والقذائف الطائشة التي كانت تنهال علينا يوميًا ويكثر نزولها عند خروجنا لتشيع الشهداء المدنيين ممن حصدهم الرصاص غيلة، وكان ذلك بين عامي 2011 و2013، وهي المرحلة ذاتها التي غادرت فيها الأقلياتُ الحيّ، أو معظهم. لكن دمشق لم تستسلم لهذه الموجة المذهبيّة، فأمسكتْ نفسها، وأوقفت جائحة الطائفيْة المتسرّبة إليها عنوة.
قليل جدًا ما نعرفه عن طفولة حسيبة عبد الرحمن، حديثنا عن طفولتك؟ أين ولدت؟ عائلتك؟ أيّة مشاهد تتذكرينها الآن من طفولتك؟ ماذا كنت تحلمين حين كنت طفلة؟ وماذا تحقق من أحلامك الطفوليّة بعد كلّ هذه السنوات؟
بقيت صورة (صورتي) الطفلة الفقيرة المدللة، والتي تربّت شبه وحيدة في بيت مُتدّين ولكنه حنون، تلك الطفلة بضفائرها وشرائطها البيضاء، كانت تكتب على حيطان غرفتها اسم شخص كان يسكن فيها، وأُعدم في صباح انقلاب عام 1963، وأصبحت الغرفة سكنها الدائم، لتلقي عليها أثقال موت يرافقها حتى سجنها، وليلة اعتقالها (اعتقالي) فقط غادر وجه الشاب الذي أُعدم أحلامها الطفوليّة مع صورة الديكتاتور. تلك الصور تركت بصمتها عليّ كعصفوري الصغير الذي تركته لأمه فأكلته القطة (لازال عندي موقف من القطط إلى هذا اليوم). وفي مرحلة الطفولة ظننت أنّني سأكون مُدرّسة ككلّ طفلة، ولكن حبّي تحوّل إلى السينما (كنت أتمنى العمل بها ممثلة ومخرجة!) والقراءة، حيث كنت أستعير الروايات الكلاسيكيّة من المدرسة أو من مكتبة قريبة، أو أشتريها بالفرنكات التي أوفرها، فجمعت مكتبة كبيرة لكلاسيكيات الأدب العالمي وكتب عن الاشتراكيّة، استولى عليها رجال الأمن مع صوري، ثم زرروها ما بين أفرعهم وبسطات بيع الكتب مع قرآن والدي الذي كان يعتز به (مات وهو لا يعرف لماذا أخذوا قرآنه؟) فأصبحت امرأة بذاكرة مبتورة ناقصة، ومعها قصصت شعري الطويل الذي غزاه الشيب باكرًا، فكانت والدتي تقول: إنّ الشيب جاء من الخوف والاعتقالات المتكرّرة والتعذيب الشديد الذي تعرّضت له في كلّ اعتقالاتي، إذ أمضيت حوالي ثمانية أعوام متقطعة في السجون وأربعة أعوام على حافة الخطر والاعتقال (مرحلة التخفّي). والطفلة الهادئة المدلّلة تصبّغ جلدها بالأزرق والبقع، إضافة إلى فقدان حاسة الذوق والكسور البسيطة في أصابعها والرضوض في جسدها، فأصبحت تثير الضجيج والغبار من حولها. ثمّ توفي والدي ووالدتي وهما يتساءلان: لماذا دخلتُ السجون؟ وأنا كنتُ أمام فرصة انتهازيّة كبيرة لأصبح من البيروقراط المتنفّذ، أو أدرس في معهد للسينما التي أحبّ وأعشق ولكني “راديكاليّة المشاعر” لم أقبل أن أبقَ في مكان ما لي موقف منه، ولم يخطر في بالي أو في بال أهلي أنّني أكره الظلم وروحي تبحث عن العدل. لذا تركت حزب البعث باكرًا، والتحقت بالمعارضة الشيوعيّة، بحثًا عن العدل ورفعًا للظلم. وإن كان الأدب قد لعب دورًا كبيرًا في نقلتي هذه، فالأدب أخذني ويأخذني إلى خيالات وأماكن وظلال فرحة حينًا وحزينة في أحيان أخرى، غنيّة وفقيرة بالتناوب، ولا يزال تأثيره عليّ، ولو بحدود، إلى الآن. لذا كان أول الأشياء التي فعلتها عندما خرجت من المعتقل للمرة الثالثة، هو تجميع أوراقي (كتبتها في المعتقل) فأعدت صياغتها ونشرتها في رواية عنوانها “الشرنقة” (كي أتخفّف من أثقال السجن) تتحدث عن سجن النساء، بالإضافة إلى مجموعة قصص قصيرة (سقط سهوًا) تدور في السياق ذاته. بعدها لملمت قصصًا من أهلي و زوارهم وأنا طفلة، ونسجت خيالات خوفهم وتنقلهم وإيمانهم وطقوسهم في رواية (تجليّات جدي الشيخ المهاجر)، لتكون الرواية صرخة مبكرة عمّا قد يفعله الخوف والتقوقع والجهل والأدلجة الدينيّة والمذهبيّة قبل الانفجار الكبير، والذي ساقنا إلى مقتلة، وإلى بلد حيّ ميت، مهجّر مكلوم، بلد الأموات فيه شهداء أو قتلى (ضاقت بهم البلاد وأنهارها وجبالها فأضحوا أرقامًا دون أيّ معنى أو قيمة). التسمية تخضع للمُسمّي.
الآن نعيش في مستنقع موت حاضر أو مؤجل، بلد مدمر يتقاسمه لئام الأرض في الداخل والخارج، ونحن مقيّدي الأرجل والأيدي، وبالأحرى نساق ورقابنا مشدودة إلى نير، وسط متاهات ضياع لزمن يرجع نحو الوراء، نحو البدائيّة، سواء في الحياة اليوميّة، بدءًا من استخدام الحطب كوقود وتدفئة إلى القناديل الزيتيّة (رومانسيّة إكراهيّة وفظة) بعد كلّ الأحلام بالتغيير إثر انتفاضة 2011. درجتُ على تسميتها انتفاضة وليس ثورة لأنّ الثورة تعني رؤيّة وبرنامج وأدوات ثوريّة وهذا لم يتوفر فيما عرف بالربيع العربي.
كيف تنظرين لما حصل ويحصل في سوريا؟
مع الأسف لم أكن متفائلة بالحراك السوري رغم المشاركة به في البداية، لأنّني راقبتُ منظومة النظام وموقفها من الحراك، فهي تعتبره إسلاميًا، وبالتالي أجندتهم (من وجهة نظرهم) يعني طرد الأقليات والفتك بهم. لذلك لم يقف الفقراء من بيئة النظام وغيرهم من الأقليّات (وإن بدرجة أقل) مع الانتفاضة، وأعني كتلًا شعبية وليس مثقفين ونخب. وهذا ما أعطى سمة دينيّة ومذهبيّة للحراك وسهّل التحريض الطائفي والمذهبي، سواء في دوائر النظام وحلقاته الخاصة، أو في تيار المعارضة لشدّ العصب المذهبي وتوسيع حجم الاحتجاج، والذي سهّل بدوره إدخال أجندات غربيّة وإقليميّة وإغراق الانتفاضة بالمال والسلاح والتطييف. كنتُ أرى منذ البداية أنّنا ماضون نحو صراع دام، ولكن ما وصلنا إليه حالة من السرياليّة، فكلّ شيء دُمّر: الحجر، البشر، القيم الأخلاق، المبادئ… كلّه يباع في سوق نخاسة مع سوق التعفيش، وإذا كان النظام يتحمّل المسؤوليّة الأساسيّة والرئيسيّة لما جرى نتيجة استخدامه القمع والعنف بكلّ أصنافه ومندرجاته، فالقوى الأخرى القصوويّة تتحمّل جزءًا ولو ضئيلًا ممّا وصلنا إليه منذ أن فتحت جيوبها ورؤوسها وبيوتها للأجندات الخارجيّة. ولن نخرج من مستنقعنا هذا دون حل سياسي يلملم ما تبقى منّا ومن بلدنا، وهو يتطلب توافقًا دوليًا إقليميًا، لأنّ السوريين، نظامًا ومعارضة وشعبًا، خرجوا من اللعبة والفعل السياسي، وأصبح الحل بيد القوى الخارجيّة للأسف الشديد.
(حكاية ما انحكت)