حسن ناصر: أثرٌ يدل على صاحبه… كلام في حب السينما

0

تؤثر معرفتنا إلى حد كبير في إدراكنا الأشياء وتصنيفها، وهذا أمرٌ لا شك فيه. في كتابه الاستثنائي «طرائق الرؤية» يضع الكاتب البريطاني جون برجر أمام القارئ صورة للوحة الفان غوخ تصوّر غربانا تطير على مرج، ثم في الصفحة التالية يخبرنا بأنَّ تلك اللوحة هي على الأرجح آخر ما رسمه الفنان قبيل انتحاره المريب. يخبرنا أيضا بأن تلك المعلومة ستغير حتما الطريقة التي نرى فيها اللوحة.. وهذا مما لا غبار عليه. ثمة خدعة أو لعبة من الألاعيب المتداولة، كما أعتقد، تقوم على قيام أحدهم بالاستشهاد بقول، أو ربما شعر ساذج وينسب القول إلى كاتب معروف، أو الشعر إلى شاعر مهم، ليضحك في ما بعد على ثناء الآخرين الرخيص الجاهز، الذي لا ينظر إلى النص إلا عبر سمعة منتجه. فالمتلقي عادة ما تُعصب رؤيته أو يُصمّ سمعه بشهرة الاسم حتى تمنعه تلك الشهرة أو المعرفة المسبقة، عن تفحص أهمية ما يُعرض أو يُقال.
كل هذا ليس غريبا، لكن ما تدهشني حقا تجربتان استثنائيتان خبرتهما في حياتي، تدوران حول محور مختلف وتنطويان على سؤال مفاده: هل يتجاوز الفن أو الأدب الحقيقي اسم الفنان والأديب، ليدل عليهما ويشير إلى إبداعهما الحق؟
الجواب على هذا السؤال نعم وبشكل قطعي، أعتقد أن هذه حقيقة لا غبار عليها.
التجربة الأولى من التجربتين اللتين أشرت إليهما، تتمثل برؤيتي لفيلم وأنا صبي صغير.. عُرِض الفيلم في تلفزيون بغداد بداية السبعينيات، لم أفهم منه شيئا في واقع الأمر، لكنه ترك انطباعا لا يمحى في ذاكرتي. مشهدان بالتحديد بقيا ماثلين في الذاكرة، الأول يمثل شخصين متنازعين يتبارزان حتى يُقتل أحدهما ويسقط من شرفة عالية على الأرض، فيهرع المنتصر نازلا السلم ويقف عند جثة خصمه الميت الممدة ووجهها إلى الأرض، وحين يقلب الجثة يرى نفسه.
أما المشهد الثاني فهو شخص يهرب من فلاشات الكاميرات، ويسوق سيارة مكشوفة بطريقة جنونية، وينتهي المشهد بحبل يلتمع في العتمة وصوت محرك السيارة يتوقف ورأس الشخص يتدحرج على الأرض. لا شك في أني كررت السؤال مرارا عبر سنوات طويلة أمام أصدقائي، متمنيا أن يتذكّر أحدهم ذلك الفيلم أو يخبرني باسمه، ويسعفني بمعرفة اسم مخرجه، خاصة بعد أن صار اهتمامنا بالسينما هوسا، وصرنا نطارد الأفلام ونبحث عن أعمال المخرجين ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

أمّا التجربة الثانية فتتمثل في رؤية فيلم آخر، أتيحت لي في الفترة ذاتها من السبعينيات على شاشة تلفزيون بغداد، التي كانت صغيرة حرفيا. فهمت الفيلم ومغزى قصته كما يبدو، وهزتني فكرته، بل قل ظلت لامعة متألقة بفذاذتها في ذاكرتي، رغم مرور عقود من السنين. قصة الفيلم المدهشة تتحدث عن رجل يعتقله رجال الغستابو ولأنه معروف بصلابته وعناده يخضعونه إلى أسلوب خاص من التحقيق، إذ يضعونه في زنزانة منفردة ويعزلونه عن العالم، حيث لا أحد يتكلم معه وليس هناك ما يمكن أن يشغله. ينهار الرجل بعد شهور من تلك العزلة المعذبة ويخبر الحراس، أنه مستعد للاعتراف. يقودونه إلى غرفة المحقق لكنهم يطلبون منه أن ينتظر أمام غرفة ضابط الغستابو، لأن ضابطا برتبة أعلى جاء لزيارة ذلك الضابط. يخلع الضابط الزائر معطفه المطري ويعلقه في صالة الاستقبال قبل دخوله الغرفة. وهنا يرى صاحبنا كتابا في جيب المعطف وهو كل ما يمكن أن يحتاجه ليقاوم فترة إضافية. ينجح الرجل في سرقة الكتاب، ثم يصطنع جنونا أمام الضابط بعد ذلك ويعدل عن فكرة الاعتراف. يعيدونه إلى زنزانته وهناك يكتشف أن الكتاب الذي سرقه هو كتاب عن الشطرنج، وهكذا يبدأ بدسوت لا تنتهي، ولا يمكن أن يشعر المرء معها بالعزلة، خاصة حين يتعلم اللعب في خياله دونما حاجة إلى آلات أو رقعة. كان عنوان الفيلم كما عرض في ذلك الوقت « ثلاث نقلات للحرية» على مدى العقدين الماضيين، كنت أجرب فيه بين الفترة والأخرى البحث عن الفيلم مستخدما عنوانه القديم ولم أعثر على شيء.
كنت عائدا من عمل مرهق إلى سكني في منطقة باراماتا غرب سيدني عام 1995 الطريق طويل والقطار مزدحم، ويبدو بطيئا يضج بالركاب العائدين من أعمالهم. تصفحت الجريدة، وبحثت في جدول عرض قنوات التلفزيون لذلك اليوم. لفت انتباهي عرض فيلم على قناة مختصة بالأفلام العالمية من ثقافات مختلفة، الذي لفت انتباهي بشكل خاص هو أن الفيلم يتكوّن من ثلاث قصص، واحدة منها من إخراج فيديريكو فليني. كنت أحلم في واقع الأمر بمشاهدة أي شيء لفليني. عنوان الفيلم هو Spirits of the Dead (أرواح الموتى) وهو إعداد عن قصص لأدغار ألن بو، المهم هو أن القصة الأولى من إخراج روجيه فاديم، والثانية من إخراج لويس مال والثالثة لفليني. سحرتني القصة الأولى التي مثلتها جين فوندا وشعرت وكأن شيئا ما يستيقظ في أعماقي من سبات طويل. في القصة الثانية التي يمثلها ألن ديلون عرفت أنَّ هذا الفيلم هو فيلم التجربة الأولى بالنسبة لي، التي كنت أحاول استعادتها عبر أكثر من عشرين عاما. المشهد الذي يقلب فيه ألن ديلون جثة خصمه الساقط من الشرفة ليرى نفسه جعلتني أجمد في مكاني مندهشا من دقتها في ذاكرتي. وفي الثالثة التي يمثلها تيرنس ستامب تعرفت على الرأس المقطوع وعرفت إنه فليني. همست لنفسي حينذاك «كان عليّ أن أحزر فالمشهد الذي يرافق الذاكرة من صباها، ويرن فيها لأكثر من عقدين لا بد أن يكون من صناعة شخص عبقري».
قبل أسابيع عاودتني ذكرى «ثلاث نقلات للحرية» وقررت بعد حوالي أربعين عاما، أن أبحث عنه مصمما على العثور ولو على شيء منه واضعا أما عيني حقيقة أن العنوان ربما كان من حرية المترجم، وليس بالضرورة العنوان الأصلي للفيلم. لم أعثر على شيء في العربية بعدها جرّبت الترجمة العكسية للعنوان العربي «Three Moves to Freedom”» ولم يطل الأمر حتى برزت المشاهد أمامي وعرفت أنه الفيلم الذي كنت أبحث عنه. قرأت عنه وعرفت أنه من إنتاج عام 1960 مأخوذ عن رواية عنوانها « قصة شطرنج أو لعبة الملوك» كتبها الكاتب والناقد الكبير ستيفان زفايج عام 1941 قبيل انتحاره. لم أتمكن من إعادة مشاهدة الفيلم، لكني شعرت بالغبطة ذاتها التي شعرت بها يوم شاهدت «أرواح الموتى».
الأعمال الكبيرة تدل على أصحابها والاسم لا يضيء النتاج الإبداعي بل العكس هو الصحيح، لكل ذائقة حقيقية وتلق مخلص يرى الأعمال كما هي لا في ضوء شهرة أصحابها. المتعة الحقيقية هي تلك التي تثيرها آثار تدل على أصحابها.

*القدس العربي