حسن داوود: صبي القرن العشرين يتذكّر طفولته قِردا!

0

في بداية يومياته التي عنونها «اعترافات قناع» كتب يوكيو ميشيما متذكّرا يوم ولادته. بالتفصيل وصف شعوره وهو في الطشت، الذي أجري فيه اغتساله الأول، متوقّفا عند الضوء النازل على حافة الطشت جاعلا لونه لامعا وأكثر إضاءة.
تعليقات لا حصر لها صدرت من قارئي الكتاب مستبعدة، من جهة، أن يكون ذلك التذكر صحيحا، أو دافعةً، من جهة أخرى، مخيلات آخرين للذهاب بذاكرتهم إلى أبعد من الشرط العلمي. جاك لندن* يذهب إلى أبعد من ذلك جاعلا بطله يعيش في زمنين أحدهما حديث في القرن العشرين والآخر يرجع إلى زمن ما قبل آدم. هي شخصية منفصمة بين النهار، حيث الحياة عادية وراهنة، والليل حيث تأخذه المنامات إلى ماضيها المغرق في القدم. فبعد كل زوال لضوء النهار، يجد ذلك الشاب نفسه كائنا بدائيا، مقيما مع آخرين من سلالته في الكهوف، وهو تطوّرٌ متفوّق على سلالة المقيمين على الأشجار، ومتخلّف عمّن يوصفون في الكتاب برجال النار.
وإذ يعمد ميشيما إلى ترك قرائه متراوحين بين التصديق وعدم التصديق، تاركا فيهم أسئلة محيرة، يعمد جاك لندن، إلى إقناع قارئيه بأن انفصام بطله على هذا النحو يؤكده الاكتشاف العلمي، بل هو يعترف بأنه أنشأ روايته انطلاقا مما جاء به تشارلز داروين وزيغموند فرويد، وتخصيصا أوغست وايزمان، في نظريته التي تقول إن المعلومات الوراثية تنتقل من قدماء السلالة إلى أخلافهم عبر ما يسميه الخلايا الجرثومية إلخ.
ما قام به جاك لندن إذن هو تحويل اكتشافات علمية إلى عمل روائي، وهذا ما حمل ناشره إلى وضع الرواية في باب الخيال العلمي. في الصفحات الأولى يكاد يقنعنا ذاك الشاب المنقسمة نفسُه بين الماضي والحاضر، بإمكان أن تكون معاناته جراء ذلك حقيقية. فهو يصف عذاباته كلما أخلد إلى النوم. هناك ستعود الأفاعي تظهر له من جديد، والضواري ستلاحقه من مكان إلى مكان، ثم هناك الخوف من السقوط من الأشجار، ذاك الذي يرجعه سلالة أخرى إلى الوراء، هو سليل النازلين في الكهوف. ودائما، في تلك الفصول الأولى من الرواية، يجد لما يقوله مسوّغا مفهوما، فمنامات الخوف من السقوط، وهذه تراود أكثر النائمين، ترجع إلى زمن ما كان البشر ينامون في أعالي الشجراتّقاء لخطر الحيوانات غير المتسلّقة.

ذاك الشاب يروي لنا، من القرن العشرين حيث هو، يومياته ككائن بدائي. هناك لا كلام، فتحلّ نبرة الصوت محل الكلمة: «كنا نعدّل الأصوات بالتنغيم، وذلك بتغيير مقدار الصوت ونغمته بالإبطاء والتسريع»، ولا أسماء طبعا، طالما أن لا كلام. أما تلك التي أطلقت على من يذكرهم الشاب في يومياته، مثل «السن القاطع» و«المسترخي الأذن» و«الساق الملتوية» فهي أوصافهم، وهو تمكن من صياغتها اعتمادا على وعيه كشخص، أو نصف شخص، في زمنه المتأخّر الحديث، «لكننا كنا نعرف الكثير مما ليس معروفا اليوم. كنا نستطيع التحكم بحركة آذاننا، وجعلها تنتصب ثم نخفضها بسرعة. وكان بوسعنا حكّ ما بين أكتافنا. كان بوسعنا رمي الحجارة بأقدامنا»، إلخ.
ألّف جاك لندن شخصية بطله انطلاقا مما جاءت به مكتشفات المذكورة بعض أسمائهم أعلاه، وكان هذا في صفحات الرواية الأولى، وهي الأكثر إمتاعا وإبداعا من كل ما ورد من بعدِها. تلك كانت المقدمات التي تعرّف بالشخصية والإشكال الذي قامت عليه وصفاتها في زمنها الأول. بعد تلك المقدمات يبدأ عيش تلك الشخصية القائم على المطاردة. هناك دائما من يهمّ بالقضم أو بالالتهام أو بالسحق أو بالحرق، وهذا الأخير يقوم به الرجال الذين، إضافة إلى اكتشافهم النار، صنعوا أقواسا يطلقون منها سهاما تصيب فتقتل، أو تجرح على الأقل، وصاحبنا، السن المكسورة، تلقى منها جروحا كثيرة. الحياة مطاردة مستمرة، جري وتسلّق وسقوط وانجراف في سيول الماء الهادرة، لكن هناك صداقة أيضا يعقدها السن المكسورة مع مسترخي الأذن، وعشق يجمعه بـ«السريعة» التي، من لحظة ما اطمأن أحدهما إلى الآخر بدآ الهروب والجري معا.
وفي سياق تلك المطاردات لم يغب عن بال جاك لندن أن يُدخل مفاهيم النزاع البشري، جاعلا من المطاردات عدوانا من المتطورة سلالته على مَن هم أقل تطورا، واحتلالا يؤدّي إلى إجلاء الضعيف، ثم إلى إبادته، هكذا في ما يشبه الدرس المبسط، المعدّ للصغار. لهذا تبدو الرواية، بعد الانتهاء من قراءة ربعها الأول، تخبطا في ابتكار المطاردات، حيث لا تكاد تنتهي واحدة حتى تبدأ أخرى. ويتحوّل ذلك إلى أن يبدو جاريا على لسان راوية محايد، وليس بلسان الشخص نفسه من موقع نصفه القرن العشريني. أحسب أن «قبل آدم» وهذا عنوان الرواية، كان يمكن لها أن تكون عملا تاريخيا ومبدعا، إن أمكن لكاتبها أن يُجري الكلام على لسان الصبيّ البدائي، أي أن يُترك هو، بصفته وليد حقبة من حقب التحوّل المديدة إلى البشرية، ليروي زمنه. الأرجح أنه، لو أتيح له ذلك، لم يكن سيأتي بحكايات متتابعة عن الجري والهروب، بل بأوصاف متفرّقة، بدائية وغير مكتملة. أقصد أنه كان على الكاتب، جاك لندن، أن يضع مخيّلته هناك، في رأس الصبي البدائي، على غرار ما فعل أرنست همنغواي حين جعل الثور البريّ يصف الوجع الذي أحدثته الرصاصة التي شقت رأسه، أو على غرار تلك الجمل القليلة التي كتبها خورخي بورخيس واضعا نفسه في داخل عقل ابن رشد، أثناء استراحة هذا الأخير قرب نافورة الماء في بيته.
كان الطموح أوسع من القدرة على مجاراته، أقصد فكرة جاك لندن التي أراد تحويلها إلى عمل روائي.
*رواية جاك لندن «قبل آدم» نقلتها إلى العربية رغد قاسم، وصدرت عن دار الرافدين في 160 صفحة، لسنة 2020.

*المصر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here