الجوع درجات ورُتبٌ مثله مثل سلّم الوظيفة العموميّة. وأخطر درجاته هو انعدام الطعام وارتقاب الموت، وفي هذه الحالة ننتظر من الجيّاع أسوأ ردود الفعل. وننتظر من الكتّاّب والشعراء، وهو موضوع هذه السطور، كلّ شيء إلّا أن يشحذوا أقلامهم ومخيّلتهم صوب الورود والأشجار وزقزقة العصافير، ويكتبوا عن القمر والنجوم. ولنا في شعر عروة بن الورد والسليك بن عمير وآخرين من الشعراء الصعاليك أحسن نموذج في التراث الشعري العربي، والذي يصوّر بصدقٍ مأساة الجوع في الصحراء وردود فعل الشعراء عندما حملوا السيوف وخرجوا يعترضون طُرق القوافل من أجل إطعام أنفسهم وذويهم، وعندما أرّخوا هذه المأساة في قصائد خالدة.
أمّا الجوع المعنوي فهو محفّز حقيقي على الإبداع، بل إنّ أغلب الأعمال الإبداعية المهمة كُتبت من وحي الحرمان والتآكل الداخلي، ومن مرارة الغربة عندما وجد صنّاع الأفكار والوجدان أنفسهم مبعثَرين في عواصم البرد، وهاربين من كرابيج الحكّام وغياب الهواء النظيف في بلدانهم الأصلية. وبالمقابل أرغمت الظروف كتّاباً وشعراء آخرين على مواصلة الحياة داخل أوطانهم، والاحتيال على الرقيب باللغة والرمز لفضح بشاعة الأنظمة وضآلة منسوب الحرية واتساع رقعة البقع السوداء، مراهنين على قارئٍ نخبوي في مجتمعات تعاني من الأمية، رغم أنّ أغلبهم لا يساير جرأة الواقع وفداحته، وظل متردّداً في صياغة الوجدان الشعبي والوطني بسبب مؤسّسة الأسرة المنغلقة على نفسها ونظام العوائل وسطوة التقاليد، ما فوّت على القرّاء فرصة التعرّف على العوامل الدفاعيّة الذي أفرزت هذه الأعمال الأدبيّة، في الوقت الذي تظل أغلب سير الأدباء المكتوبة متأرجحة بين الحقيقة والتزييف، وفي منأى عن ميثاق الصدق.
في الحالة العربيّة، هناك الكثير من الأنظمة التي زَجّت بأدبائها ومفكّريها في السّجون وجوّعتهم على مدى عقود، وذلك في سعيٍ خائب لقبر الصوت المضاد، ومع ذلك لم تستطع أن تُخرسهم بالمرّة، بل إنّ تجربة السّجن والجوع قوّت صوت هؤلاء وحفّزتهم على كتابة أعمال مهمّة طلعت من وحي الألم والمعاناة حتّى صرنا نتحدّث عن “روايات السجون” و”شعر السجون”.
خطورة الجوع لا تقل عن خطورة القنبلة النووية وباقي الأسلحة الفتّاكة، وبالمناسبة ما الذي أوقد عود ثقاب، وأشعل ثورات الربيع العربي غير الشعور بالجوع؟ ومن الذي أرغم حكّاماً عرباً على التحليق ليلاً بالطائرة واللجوء إلى بلدانٍ مجاورة، وآخرين على هروبٍ فاشل في الصحراء انتهى بمقتلهم في مشاهد فظيعة؟ إنهم الجيّاع النبلاء، والذين من وحي ردود أفعالهم بدأت تظهر أعمالٌ أدبيّة عربية تنطق بهموم الشعوب وتطلعاتها. وتؤرّخ فنيّاً وسردياً للجوع وللمعدة الفارغة إن صحّ التعبير، وذلك في تأشير واضحٍ على قدرة الكاتب الحقيقي على الكتابة في جميع الظروف والشروط متعالياً على رفاهية الكسل.
(العربي الجديد) – (اللوحة: ضياء العزاوي)