المطر يتساقط منذ الثامنة صباحًا. بدوري، سقطتُ من على السرير في هذا التوقيت أو قبله بدقائق. ووصلتُ إلى عين المكان في حدود الثامنة والنصف، فانخرطت في “الغزو الإيبيري وردّ فعل المغاربة”. أغزو السبّورة بقلم أزرق، شارحًا على صدر الخريطة مكان تحرُّك الجنود. أشعر أنني مُعجبٌ بخطّي لأوّل مرّة. الخطّ هو الأستاذ، أقول في نفسي فأترك الألف منزلقًا إلى الأسفل مثل طارئ، وأتفنّن في التاء المربوطة واضعًا النقطتين في الوسط على شكل ابتسامة مسروقة. الابتسامة التي يصعب انتزاعها من التلاميذ في هذا الصباح البارد. بالكاد ترصد عيونُهم مكانَ تحرُّك جنود إسبانيا والبرتغال.
دروس التاريخ مملّة في الغالب، لذلك عليك أن تُدير الأمور بعناية وأن تفتح قوسًا هنا وتغلق آخرَ هناك. وتتحرّى التشويق، فتُركّز مثلًا على كنزة الأمازيغية زوجة إدريس الأوّل بدل أن تتبع نَسبَ هذا الأخير في خطاطة متشابكة، وأن تُقدّم هتلر على أنّه شجاعٌ، عانى من قسوة الأب في الطفولة وعبّر عن ذلك في لوحاته، ثمّ التحق بالجندية وقاد جيوش ألمانيا ضد الحلفاء، فأبلى بلاءً حسنًا في المرحلة الأولى قبل أن ينهزم وينتحر برفقة عشيقته الجميلة إيفا براون.
تحوّلتُ إلى حكواتي بارع دون أن أجد من يضع في جوف القبعة درهمًا. كما استأنست بالمكان وأجوائه، خصوصًا حين أزيح الستارة الحمراء جانبًا، فأُطل على أطلال حيّ قديم، حيث أكوام أحجار وحُفر المواقد وأحذية بلاستيك متخلّى عنها بعدما تمّ إخلاء الحيّ في أكتوبر السنة الماضية في إطار محاربة ألواح الصفيح. كنتُ أشاهد يوميًا من خلف الزجاج مظاهرات واحتجاجات السكان، وعربات بغال تحمل أغراض الأسر وتنطلق إلى وجهة غامضة. أتخيّل أن المشهد يتعلّق بشعبٍ التتار وهو يهمّ بالنزوح. وهناك قوات الشرطة تُرابط على مدار الوقت في محيط الحيّ وجنب حائط المؤسّسة، لذلك يحلم التلاميذ بالانضمام إلى الشرطة، وأقلُّهم طموحًا يريد أن يصير جنديًا في الصفوف الأمامية. لديهم استعداد فطري للدخول في اشتباكٍ واعتقال غريمهم أو إطلاق الرصاص عليه، فتراهم يهتكون غطاء الحلوى بعنفٍ، ويعضّون سدّادات الأقلام بغضبٍ أو يحفرون أسماءهم على الطاولة. لكنهم لطفاء في العمق، وأكثرُ هشاشةً واستعدادًا للبوح والبكاء بسرعة. ومطلوبٌ منك أن تُعلي من شأنهم قدر المستطاع وتتعامل معهم كما لو أنهم قطع أثرية، وتسعفهم في الخروج المتكرّر إلى المراحيض والتسكّع في الممرّات، وأن تخرج أنت أيضًا خلال الدقائق الخمس الأخيرة لتطل من البلكونة حتّى تفسح لهم ليرتبوا أمورهم الداخلية وصراعتهم الصغيرة. إنها الطفولة الجميلة لولا أنّ هناك من يُدير بندول الوقت بسرعة صوب عالم الكبار ومتاعب الحياة اليومية.
حين أتعب أغلق الستارة كنوع من الاحتجاج على أشياء كثيرة، فأمشي عشر خطوات إلى الجهة الأخرى لأطل على أولاد وبناتٍ يركضون خلف الكرة في حصّة التربية البدنية، وهناك من يشرح التمارين بالصفّارة، وأيضًا أشجار زيتون كثيرة تفصل الملعب عن الأقسام التي تصطف في طابقين. أنا في الطابق الأول، وبالرغم من ذلك أشعر بالغبن وأحتاج إلى شاهقٍ كي أرى الأشياء ضئيلة وبلا قيمة تُذكر: الشوارعَ خدوشًا طفيفة، البشر كقافلة نملٍ تعترض جيش سيدنا سليمان، الأشجار كأثداء مترهلة، والأبواب الكبيرة مثل جحور فئران. العظمة تبدأ دومًا من الأعلى، وإلّا ما كان الرعاة والنسّاك والعُبّاد والأنبياء مزهوّين بحياتهم فوق رؤوس الجبال حيث الكلام يخرج صافيًا وبصيغتين. يا للرجع القويّ وللموّال يتدفّق حزينًا!
انخرطتُ أيضًأ في العمل الجمعوي والإنساني داخل المؤسسة، وصرنا نشرب الشاي جميعًا ونرتاح على الأرائك عشر دقائق قبل أن نعود إلى الأقسام كعمّال مناجم. الأمور جيّدة، خصوصًا مع مدير متفهّم. ومع رئيس جمعية الآباء الذي هو أستاذ وتلميذ سابق في المؤسسة ويخوض نضالًا من أجل الجمال، لدرجة حَوّل بفرشاته جدران المؤسسة إلى لوحات تنبض بالحياة، حيث بحار كثيرة وزوارق شراعية وخطوط تمتد طويلًا. لست قارئًا جيّدًا للوحات، لكن هناك لوحات تُشعرني بالاطمئنان وتشدني للوقوف أمامها طويلًا.
بالموازاة، هناك أنشطة وورشات عمل في الأقسام، فترى التلاميذ يتأبطون أوراقًا كرتونية كبيرة رسموا عليها مشاريعهم. البارحة جاءتني تلميذة وطلبت منّي سيجارة كي تلصقها على الورق في مشروعها حول التدخين، واعتذرت لأنّني لم أستطع أن ألبّيَ طلبها. أمّا اليوم، فقد أكلنا البيض في مقلاة كبيرة، وغمسنا الخبز في الزيت. إنه خبز المصانع الساخن الذي يمصُّ بعيونه الداخلية الزيت مثل منشفة. هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الزيت من إنتاج أشجار الزيتون التي تحدّثتُ عنها، وأنني أجده لذيذًا في لساني، إلا عندما يَفسدُ خيالي، وحين أطل من الأعلى على من يفتح سكّة السروال على عجل ويتبوّل على جذع الشجرة. كما أنّ المكان يبدو موحشًا في الليل ولاشك أن هناك من المشرّدين من يسهر بين الأشجار ويعبث بها. ولابدّ أن بغل الطاحونة خطرت في ذهنه هذه الظروف كلَّها وهو يدير الصخرة بأذنين خفيضين. يرفس حبّات الزيتون بحنانٍ ثم يدور طويلًا قبل أن يعود ويضغط عليها بقسوة. لكنها قسوة مطلوبة، كما لو أنك تتخلّص من أحدهم الذي استأنستَ طويلًا برائحته وطريقته ضحكته، وربما بمزاجه المتقلّب. يعني أن تسدل الستارة بلا رحمة في الوقت المناسب.
أجد البغال قريبة من نفسيتي. فهي صامتة في الغالب، ومستقرّة عاطفيًا بالمقارنة مثلًا مع الحمار المعتد بنفسه، والذي يستطيع أن يجفل في أيّ لحظة ويجرّ برجله وتد الخيمة لتسقط على كثيرين. أحب أيضًا الأبقار دون أن أكون علالاً الذي يرعاها بعصا طويلة وكيس الزاد من الدوم في قصّة قديمة. الأبقار صامتة على الدوام وتمضغ أفكارًا مهمة. تتمشّى في شوارع الدار البيضاء جنب السيارات، وتعبر من ضفّة إلى أُخرى دون أن تحيدَ عن ممرّ الراجلين. سادرة في حلمها مثل الأميرات بنظّارات شمسية. وإنَّ الجزار الذي يحمل السكين ويمرّرها على عنق البقرة ببرودة أعصاب هو مرشح قويّ ليذبح سكان مدينة بأكملها.
باستثناء تمارين الخيال، فالزيت لذيذ حقًّا ويُدفئ العظام، وإن كنتُ غير مغرمٍ بالزيوت. أحبّ أن أنظر إلى الأشياء جافة أمامي، وأسمع عويل قطاع الغيار على مقربة منّي، ونواقيس المعابد في روايات جرجي زيدان كي أظل منتبهًا طوال الوقت. أصبحت، أيضًا، أتجنّب الملح والأكل مع الغرباء في صحنٍ واحدٍ كما لو أننا طيور كاسرة. أفضّل الطريقة الفرنسية بالسكّين والشوكة، وفي صحون فردية حيث يتكفّل كل واحدٍ بمعدته ولُعابه. هذا يجعلك تنظر إلى الأشياء من زاوية أُخرى وبرومانسية أقل، ومستعدًّا لتقبّل الخسارات.
مرّت أربع ساعات سريعًا، في الوقت الذي كان المطر يهطل في الخارج بلا انقطاع. ولا بدّ أن الشوارع مغمورةٌ بالمياه كالعادة وهناك من يضع سطلًا تحت سقف غرفته. أمّا هنا، فقد انبجس الماء من جوف الجدار، واندفع في اتجاهي إلى أن تكوّنت بركة صغيرة عند أقدام المكتب فرميتُ بصنارتي على الحافة وجلست انتظر غمزة الطعم، بينما غطّى البخار زجاج النوافذ وهناك من كَتب اسمه واسم صديقته على الزجاج وأحاطهما بقلب كبير وانصرفَ. أنا أيضًا غادرتُ القاعة 16 بعد منتصف النهار بقليل تاركًا الأشياء على حالها، لولا أننّي عدت في المساء وسردتها عليكم بالتفاصيل الممّلة.
*العربي الجديد