يتردد في بعض الأوساط الثقافية والإعلامية في الولايات المتحدة الامريكية، أن هناك حالة خوف هيستريائية تجاه روسيا، فَبرَكها السياسيون وعززها الإعلام، يصح أن نسميها رُهاب روسيا، وهم يدعون أن هذه الحالة قد تفاقمت بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا. لدراسة هذه الظاهرة تجب العودة لفترة سقوط الاتحاد السوڤييتي.
كان المحللون في الغرب يتنبأون بأن روسيا، ومعها بقية دول المعسكر الشرقي، سوف تخطو سريعاً للحاق بركب الدول الديمقراطية المتقدمة. لمَ لا، فهذه الدول لا ينقصها الموارد، والخبرات، والعلوم، والتقنيات، أو الحوافز التي يملكها الغرب. وإذا أُخِذَ بالاعتبار الحالة المزرية التي وصلت إليها دول المعسكر الشرقي تحت وطأة تسلط الاتحاد السوفيتي، فمن المرجح أنه لم يكن هناك وجهة لهذه الدول إلا للارتقاء. بالفعل، شهدت معظم دول المعسكر الشرقي (بولونيا، جمهورية التشيك، سلوفانيا، رومانيا وغيرهم) نهضة ملحوظة، بل تخطتها بعد انفتاح اقتصادها وتبنيها لأنظمة سياسية ديمقراطية، ولو بنسب متفاوتة. لكن روسيا اختارت مساراً آخر: فبعد محاولة خجلة لإدخال الديمقراطية في عهد يلتسن، انكفأت روسيا مفضّلة نظاماً سياسياً فردياً شمولياً. زاوجت ذلك الحكم الشمولي بمنهج اقتصادي لا هو بالشيوعي ولا بالاشتراكي ولا بالرأسمالي. منهج يعتمد ببنيته على مجموعة صغيرة أوليغاركية متمثلة بأشخاص مختارين حققوا ثراء فاحشاً، معتمدين على صفقات أعمال وفّرتها لهم علاقتهم السياسية الخاصة بجهاز الدولة الأعلى، وخاصة بپوتين نفسه.
بقيت أجهزة الأمن الروسية في موقع متسلط تمارس الخطف والاغتيال. وظلت الصحافة والإعلام محدودة الحركة وتحت رقابة شديدة، بينما أصبح البرلمان (الدوما) أداة لختم قرارات السلطة التنفيذية لإضفاء شرعية صورية. مع الوقت، بدأت حلقة المشاركين بقرارات السلطة التنفيذية نفسها بالتقلص باضطراد حتى تلُخّصت أخيراً بشخص واحد – فلاديمير پوتين. هذا المسار لم يكن عشوائياً بل كان خياراً عمدياً طرحه بوتين نفسه كبديل للنظام الديمقراطي الليبرالي – ما يعرف بمبدأ پوتين. مفاده، باختصار، ومن الناحية الداخلية، أن عامة الشعب غبية وجاهلة بمصالحها، فهي إن تركت لخياراتها وأهوائها تتصرف بما يضرها ويضر المصلحة القومية العليا كنتيجة. ذلك لأن حرية التعبير غير المحدودة تعطي حق الرأي لكل الناس صالحهم وطالحهم، والتعبيرات الحرة تفتح الباب لاستغلال الشعوب الغافلة لصالح من يرغب بالضرر والأذى، من الداخل أو من قوى خارجية. من الأفضل، إذاً، أن تحكم الشعوب من النخبة العارفة القادرة على التفكير السليم، الممثلة بحلقة صغيرة من المختصين. هؤلاء يرأسهم قائد ذو سلطة تنفيذية صارمة – القائد المستبد العادل.
هذه النخبة، منتفعة بتوجيهات قائدها، توجه مسارات الاقتصاد وتخطط مسالك المجتمع، وتحدد محيط حرية التعبير والتصويت والانتخابات، تناسباً بما يخدم مصلحة المجتمع ككل. أما من ناحية العلاقات الخارجية، فمبدأ پوتين يزعم بأن الدول (بما فيها روسيا) لها نطاق من الدول الصغيرة المحيطة يعتبر ضمن منطقة نفوذها. وأن هذه الدول عليها أن تتبع نظاماً مماثلاً لنظام جارتها الكبرى المسيطرة لكي لا يختل التوازن الاستراتيجي بين الدول. من هذا المنطلق ترى روسيا أن عليها أن تحمي نظامها الخاص بأن تمنع الدول المجاورة لها (ما تعتبره منطقة نفوذ لها وتأثير عليها) من تبني النظم الليبرالية الديمقراطية. هذا هو الذي يقلق روسيا، وليس الخطر العسكري المزعوم؛ فروسيا لديها القدرة الكاملة للدفاع عن نفسها كونها تملك من الرؤوس النووية عدداً أكبرمما تمتلكه أي دولة أخرى في العالم. روسيا تستطيع تدمير العالم كله عدة مرات، إن شاءت. من هنا يأتي الخلاف بين روسيا والغرب على شأن أوكرانيا. أوكرانيا اختارت النظام الليبرالي الديمقراطي على نظيره الروسي. هذا الخيار بيّن تُظهِرُه “الميمات المصورة” على وسائل التواصل الاجتماعي لحالة الرئيس الاوكراني مقارنة بنظيره الروسي (زالنسكي في الخندق يأكل مع جنود متطوعين مقابل پوتين مع جنرالاته على رأس طاولة طويلة). فنجد زالنسكي قريباً من شعبه وعساكره ومساعديه ونحس بحميمية علاقته بهم؛ بمقابل پوتين الذي نجده بعيداً عمن حوله بارداً مجافياً في تواصله معهم. ولأن أوكرانيا لديها جغرافية قريبة، وتاريخ مشترك ودين مطابق وثقافة مشابهة لروسيا فهي بذلك تُعَدّ فرداً من العائلة الروسية؛ نعم، پوتين محق في ذلك. لكن لنفس الأسباب أصبح عناقها لنظام مغاير تهديداً خطيراً للنظام الروسي، ممثلاً بمبدأ پوتين.
المثال الأوكراني في هذه الحالة، إن نجح، لا شك سيسبب تساؤلات كثيرة بين أفراد الشعب الروسي عن جدوى نظامهم الخاص عندما يرون أن “أفراد عائلتهم” يعيشون ببحبوحة اقتصادية ويمارسون انتخابات ديمقراطية ويتمتعون بحرية تعبير منعت عنهم. زاد على ذلك شعور الروس أن مبدأ پوتين قد خذلهم. فإذا وضعنا الحريات السياسة والتعبيرية جانباً، نرى أن روسيا، رغم مرور حوالي ٤٠ سنة على تفكك الإتحاد السوڤيتي، ما زالت في موقع اقتصادي متخلف يعتمد في جله على مصادرها الطبيعية من نفط وغاز ومعادن. رغم التحسن النسبي في أمور المعيشة في روسيا، ما زالت بعيدة عما حققتة دول المعسكر الشرقي الأخرى.
ليس هناك ما يرغبه العالم من المنتوجات الروسية، كما يفعل تجاه منتجات الصين، فصادراتها معظمها من نتاج مواردها الطبيعية. ولا نجد طوابيرَ من الساعين لفرص الحياة الكريمة والعمل والنجاح في روسيا تصطف على أبواب سفاراتها وقنصلياتها في أنحاء العالم كما يحصل مع معظم سفارات دول الغرب. اقتصاد روسيا أصغر من اقتصاد ولاية نيويورك وحدها (واقتصاد نيويورك هو الثالث في أمريكا بعد كالفورنيا وتكساس). وروسيا ما زالت خلف جارتها كوريا الجنوبية التي تصغرها حجماً بمئة وسبعين مرة، وكوريا لا تملك أي مورد طبيعي يذكر. لكن روسيا، من الجانب الآخر، تملك إرثاً أدبياً وفنياً عالمياً قل مثيله. فالكتّاب الروس كتروغييڤ ودوستويفسكي وتشيخوف هم من أعظم من خط الروايات الأدبية، خاصة في عصرهم الذهبي في القرن التاسع عشر. والموسيقيون الروس تربعوا على عرش الموسيقى الكلاسيكية وأنتجوا أجمل مؤلفاتها مضاهين الألمان والطليان.
ما هي موسيقى القرن العشرين بدون أعمال رخمانينوڤ وپروڤوكييڤ وتشوستاكوڤيتش وستراڤنسكي؟ وما هو حال فن المسرح بدون النسق العبقري الذي وضعه ستانيلاڤنسكي لتدريب الممثلين؟ وهل لنا أن نعيش بدون عروض باليه البولشوي الإعجازية؟ هذا الإرث نجد عناصره متداخلة في الثقافة الأمريكية وليس فقط في الجامعات والوساط الأكاديمية. نجدها في المكتبات العامة والمسارح ودور السمفوني وحدائق ديزني وأفلام هوليوود، وفي البيوت على رفوف الكتب وخزانات الفديوهات، وفي تطبيقات ملفات الكوميوتر والهواتف النقالة في متناول يد المستخدمين. هل هناك، إذاً، رُهاب روسي في أمريكا؟
لو أخذنا بالاعتبار العدوان الروسي على بلدان كالشيشان وأبخازيا وجورجيا وسوريا وأذربيجان وأرمينيا، والآن في أوكرانيا، فسيبدو لنا أن أمريكا لا تعطي روسيا حقها من الرهاب. بالعكس يبدو أن أمريكا تخفف من خطر روسيا على السلام العالمي ولا تعيره الاهتمام الكافي. مقولة السيناتور ماكين أن روسيا ليست أكثر من مضخة بنزين، مثلاً، أصبحت كليشيه يستخدمها المحللون والباحثون في الأمر للتقليل من شأن روسيا والسخرية منها. لو أن الولايات أرادت “شيطنة” روسيا لردّت، مثلاً، على تهديد بوتين الأخير بالحرب النووية برفع جاهزيتها النووية الخاصة، ولدفعت الموظفين والعمال وطلاب المدارس للتدريب على وسائل الوقاية من الأشعة النووية كاللجوء إلى المخابئ والأنفاق المخصصة، كما كانت تفعل في زمن الحرب الباردة. هذا، بالفعل، كان من شأنه أن يخلق هلعاً عاماً ويسبب رهاباً روسياً حقيقياً. وبما يتعلق بالاطفال سيبقى دفيناً في نفوسهم ما حيوا. لكن خيار الإدارة الاميركية كان في التقليل من جدية التهديد الروسي ووصفه بأنه كلام إنسان مختل.
وهنا علينا ألا ننسى أصدقاء روسيا في أمريكا: المحافظون، وخاصة منهم اليمين المتطرف الذي يرى في مبدأ پوتين الاستبدادي ميثاقاً يناسب ميولهم الاستبدادية. هؤلاء نراهم يدافعون عن سياسات وممارسات روسيا ويمدحون پوتين شخصياً كما نرى من كارلسون تاكر و ج.د.ڤانس وآخرون. نراهم على قنوات الفوكس ميديا وهي جهاز الميديا الأكبر في أمريكا، ونسمعهم في برامج الراديو والپودكاست، ونجدهم منتشرين ضمن قنوات التواصل الاجتماعي. حتى سياسيون عدة كتلسي غوبارد وجوش هاولي والرئيس السابق دونالد ترمپ لا يفتأون علنياً يدافعون عن سياسات روسيا وتدخلات پوتين العسكرية. بعض أولئك الذين يروّجون لفكرة رهاب روسيا هم أنفسهم الذين يجدون في سياسات أمريكا الإمبريالية وفي تدخلاتها العسكرية المشؤومة عذراً لسياسات وتدخلات روسيا. هذه مغالطة منطقية اسمها Tu quoque. فإن سُئلَ أحدهم عن سبب ضربه لابنته الصغيرة يرد بالإشارة لشخص آخر يضرب ابنته قائلاً: وماذا عنه لم لا يُسألْ عن ضربه لابنته.
روسيا، بمبدأها الپوتيني، تدعي نظاماً بديلاً أفضل للسلم العالمي من النظام الغربي. في حين أن ما شهدناه مؤخراً يجعلها تبدو بعيدة شوطاً عن كونها نظاماً يُطمَح لتقليده أو يُسعى للانضمام إليه، هذا إذا استثنينا الدول الأربع التي وقفت صامدة مع روسيا في اعتداءها على أوكرانيا: سوريا، وبيلاروسيا، وارتيريا، وشمال كوريا.