سألني صديقي متعجباً: كيف يمكن لأمريكا، وهي أغنى دولة في العالم، أن يكون أكثر من 10٪ من شعبها في حالة فقر؟
صديقي يقيم في الطرف الآخر من العالم، ما يعرفه عن أمريكا هو مما يقرأه عنها، ومن متابعته للأخبار. لم يكن لدي جواب لسؤاله، فهو في واقع الأمر محق، كيف لشيء من هذا القبيل أن يكون؟
البلد الذي تجوب حاملات طائراته محيطات العالم، وتنتشر قواعده العسكرية في أرجاء المعمورة. البلد ذو الاقتصاد الأول في العالم بناتج قومي يعادل ٢١.٤٤ ترليون دولار… نعم ترليون… كيف لشعبه أن يكون فقيراً؟
لأني لا أؤمن كثيراً بالإحصائيات الرسمية، فالبيروقراطيات الحكومية تحترف تبرير سياسات دولها، وكذلك لأني لا أثق بغالب المقالات المكتوبة، فأكثرها من نتاج كتّاب ينظرون إلى الشعب الفقير من أبراجهم العاجية، ويحللون واقعاً لم يعانوا يوماً منه. لذلك، ومنذ ذاك اليوم الذي سئلت فيه السؤال المحير، وأنا استغل أي فرصة لتبادل الحديث مع فقراء أمريكا، علّي أجد العلة أو أفقه السبب، مباشرة ممن أعياهم الفقر والعوز.
في الأسبوع الماضي قابلت أحد فقراء أمريكا. اسمه تشاك (Chuck).
كنت قد انتهيت لتوي من جولة في الكاياك (قارب تجديف صغير شخصي) في بحيرة چلين (Glen Lake) الواقعة في شمال متشغان. الغيوم المنخفضة لم تفلح في تخفيف حدة الشمس، فمال الجو إلى الحرارة بقدر ما تبيح سماء متشغان للقيظ أن يقيم.
كنت أرشف الشاي المثلج من الترمس عندما رأيت تشاك يُخرِج قاربه من الماء، ليقطره على عربة خاصة خلف سيارته. سيارته كانت بيكاب من موديل دودج قدّرته من الثمانينات. أما القارب فبدا أقدم، ربما من موديل الستينات، ذكّرني بالقوارب التي كان يطارد بها شين كونري الأشرار في أفلام جيمس بوند القديمة.
أخرج تشاك القارب من الماء إلى منصته خلال دقائق قصيرة، وهو عمل يحتاج عادة لشخصين ولوقت أطول.
وجدت فرصتي، فاقتربت منه وأطريت مهارته. ضحك قائلاً: عندما تخرِج القارب من الماء للمرة الألف تصبح العملية مطواعة كلبس الحذاء. كان نحيفاً ولكن برشاقة الرياضي، شعره طويل سابل لفّه بربطة مطاطية وراء رأسه كذيل الحصان، وجنتاه عاليتان، وعيناه محاطتان ببداية تجاعيد الأربعينيات.
– كيف صيد اليوم؟ سألته (كنت قد رأيت سنارة صيد السمك في القارب).
فتح صندوق الثلج، وأشار إلى سمكتين من التراوت البني، كل واحدة تزن كيلوين اثنين أو يزيد. قال رافعاً كتفيه: هذا عشاء اليوم.
– بالنسبة لي هذا عشاء لأسبوع، أو شهر، وعسى للعائلة كلها.
ضحك مرة أخرى وقال: أنت محق. ثم صمت وبدا عليه طيف من الحزن، أطرق رأسه قليلاً وقال: كان لدي عائلة، ولكن…
– آسف، لم أقصد…
– لا عليك، المشكلة تخصني وحدي.
– أعتذر.. تبدو مرهقاً، الشمس حارة هذه الظهيرة. هل تريد بعض الشاي المثلج، معي ترمس مليء.
– نعم، شكراً، من أين أنت.
– من جراند رابيدز.
– لهجتك لا تشبه أهل جراند رابيدز، أنت غير أمريكي، لكن رغم ذلك أعتقد أنه علي أنا دعوتك. السمك متوفر. ولدي بيرة مثلجة في البيت أيضاً.
لم أكن لأضيع الفرصة، فقلت: لا أشرب الكحول، ولكن بعض الصودا تفي بالغرض، أو ربما القهوة.
– اتبعني، البيت يبعد عشر دقائق.
سرت خلفه، سيلندرات البيكاب تصدر ضجيجاً عالياً بسبب العادم المتآكل. القارب يتأرجح خلفها وهو يسرع في الطريق الملتوي مسايراً حافة البحيرة، ثم باتجاه الشرق عبر مزارع الكرز.
بعد حوالي عشرة أميال انعطف إلى طريق ترابي ضيق، على زاويته لوحة أعلَنَتْ (طرمپ ٢٠٢٤). في نهاية الطريق المحفوف بأشجار السنديان والبلوط والقيقب العالية قبع بيته الصغير من الخشب غير المدهون، فبدا وكأنه جزء من الغابة المحيطه به. إلى جانب البيت انتثرت القطع الخشبية وصفائح المعادن والبراميل. وهناك موتوسيكل مفكَّك بغرض التصليح، وبعض المحركات الأخرى المفتوحة، وبسكليتات، ودواليب، بالإضافة لقصاصات الحشيش، وكراكيب أخرى. مجموعة دجاجات كانت تنبش عشب الأرض المجاورة، وتتناقر مع بعضها البعض.
بسرعة وضع القارب على منصته، وبدأ بتنظيف وتقطيع السمك، ثم أشعل تحته فحم المنقل فتراقص اللهب للحظات ثم خمد تاركاً طقطقة جلد السمك وحدها آية توقّدِ القطع الكربونية.
دخلنا المنزل عبر بهو صغير فيه رفوف للأحذية، علاقات للثياب، وبندقية صيد من نوع الجفت. توسطت غرفة الجلوس مدفأة حطب كبيرة عليها إبريق معدني أزرق من النوع المستخدم عند التخييم. خلفها على الجدار عُلِّق رأس غزال بقرونه الطويلة المتشعبة. على الحائط المقابل سمكة من الپايك الشمالي محنطة طولها يقارب المتر. في الزاوية طاولة عليها بعض الكتب، وفوقها على الحائط روزنامة تخص كنيسة الأدڤنتست السبتيين. لم يكن هناك أي صور شخصية أو عائلية.
من درج الطاولة أخرج لفافة حشيش وملأ فضاء الغرفة برائحة العشب المحروق.
صب القهوة من الإبريق، وسألني: هل تريد حليباً وسكراً مع القهوة؟
– بالطبع، الكثير منهما، أريد شيئاً للتغطية على طعم القهوة السيء!
ضحك قائلاً: لا استطيع تحمل ثمن القهوة الفاخرة، هذا كل ما لدي.
– قل لي، ماذا تعمل؟
– كنت اعمل في تصليح محركات الديزل، السيارة والقارب اشتريتهما بثمن بخس من أحد زبائن المحل. أصلحت محركاتهما بنفسي، كلفاني أقل من ٣٠٠٠ دولار. لكن منذ سنتين سُرِّحت ولم أجد عملاً بعدها.
– كيف تنفق على نفسك إذاً؟
– الحكومة ترسل شيكاً بسيطاً للإعانة، بالكاد يكفي لتغطية الفواتير من كهرباء وغيرها. أحياناً أساعد بعض الأصدقاء في مزارعهم. اليوم سأحصد حقل حنطة لأحدهم.
– هل لديك مشكلة في الحصول على الطعام؟
– لا. أذبح غزالين أو ثلاثة في فصل الصيد وأحتفظ باللحم في الثلاجة لأيام الشتاء. أقطع بعضه ستيك والبقية أفرمها للطهي مع حساء التشيلي. الدجاج يعطيني البيض. أقطّر البيرة بنفسي. وفي الصيف اصطاد السمك كما ترى، مشيراً إلى التارويت الذي بدأ ينضج على فحم المنقل، رائحته تتنافس مع رائحة الحشيش في المكان، الرابح منهما ليس جلياً بعد.
– يا لها من حمية سيئة، ألا تأكل الخضار أو الفاكهة؟
– ها ها. المنطقة مليئة بأنواع التوت البري، وأنت تدري نوعية التفاح والدراق والكرز هنا… أفضل ما يمكن الحصول عليه في أي مكان. ألتقطها في الصيف وأضعها في خزّونة خاصة تحت الأرض تحفظها من التلف، كما كان يفعل الهنود الحمر سكان المنطقة الأصليين.
– هل تعاني من غلاء الوقود؟
– الشجر وفير هنا، احتطب للتدفئة أيام الثلج. وهذه المدفأة ضخمة تدفئ البيت كله، وتبقي قهوتي ساخنة أيضاً، (ثم ضاحكاً) أما السيارة والقارب فلا يمكنني تسييرهما على الحطب وإلا فعلت.
– هل خطر لك أن تنتقل للمدينة للعمل؟
– تريدني أن أترك هذا المكان؟ هذه الجنة؟ البحيرة التي قابلتك على شاطئها اليوم هي من أجمل بحيرات العالم. لا أبالغ بذلك. اِبحث بالانترنت بنفسك. ما أحبه هنا أني أستطيع فعل ما أريد، لا أحد يفرض علي شيئاً.
– لا ألومك. قرأت مرة أن بحيرة كريستال القريبة هي من أجمل عشر بحيرات في العالم.
– نعم، أصطاد السمك هناك أحياناً، ولكني أفضل بحيرة چلين، هي الأجمل باعتقادي.
– هل لديك ضمان للعناية الصحية؟
– لدي بطاقة إعانة صحية لكن لا أستخدمها كثيراً، حتى لقاح الكوڤيد لم أتلقَه. كما قلت لك، لا أحد يفرض علي شيئاً. على كل حال أنا بصحة جيدة الآن، كالدب.
– ها ها، لم أسمع بهذا التشبيه من قبل. لكني لاحظت أنك من أصدقاء ذلك المعتوه طرمپ، يمكنني وصفه بالدب، كقدح وليس كإطراء.
ضحك: يبدو أنك من أصدقاء بايدن المخرّف.
– في الواقع أنا لا أحب بايدن ولم أصوت لصالحه.
– لا يعجبك طرمب ولا تحب بايدن، من تريد إذاً؟
– أنت قلت أنه لا أحد يفرض عليك شيئاً. أنا أيضاً لا أحد يفرض علي من أحب ومن لا أحب.
– نقطة جيدة.
– لماذا لا ترشح نفسك للرئاسة المرة القادمة وسأصوت لك. ولكن عليك أن تعدني بتحسين مستوى القهوة في هذا المكان. لا أكاد أجد مقهى جيد في محيط ٣٠ ميلاً.
– هاها، هذه سهلة، أعدك، وسأمنع الضرائب عن القهوة وعن الحشيش. دعنا نأكل السمك الآن لأني تأخرت على صديقي المزارع الذي وعدته بالمساعدة في حصد حقل الحنطة.
– سأذهب لمراقبتك… فقط للتأكد أنك ستقوم بعمل جيد.
– أنتم أهل المدينة، هذا الشيء الوحيد الذي تتقنونه، المراقبة كالسياح.
– حسبك، أنا لدي مزرعة أيضاً، عندي حيوانات للصوف. سأرسل لك جرابات من صوف حيواناتنا لكي تبقى قدميك دافئتين في الشتاء. ستدعو لي عندما ترتديها.
بعد الطعام راقبت تشاك يحصد الحنطة بألة مركَّبة على تراكتور، تقطع السنابل كوحش خرافي نهم. بعد أن انتهى ودعته عن بعد ملوحاً بيدي.
في طريق عودتي فكرت في حال تشاك الفقير، في طريق بيته الترابي المحفوف بالشجر، لا بد أن منظره رائع في الخريف؛ في بيته ومدفأته الحطبية ودفئها الحميم في ليالي الشتاء الطويلة؛ في قاربه القديم، وفي سيارته العالية الضجيج، في لحم الغزال المخزن في ثلاجته، وفي سمك الترويت الذي اصطاده من أجمل بحيرات العالم. للبعض، هو رقم آخر من إحدى إحصائيات الفقر في أمريكا. لكن حاله، تحت سماء متشغان الغائمة جزئياً، حيث في ذلك اليوم اصطاد سمكتي الترويت البني، يجعله أكثر بكثير من مجرد رقم.
ملاحظات:
تعريف الفقير في أمريكا: الشخص الذي دخله أقل من ١٢،٨٨٠ دولار سنوياً.
بيع الحشيش قانوني في متشغان.
حساء التشيلي: حساء من البقول كالفاصولياء مع مرق البندورة والبصل واللحم والبهارات.
طريقة تشاك في طهي السمك: ريحان وحبق وفلفل وملح، تُلَفُّ مع شرائح السمك بورق الألمنيوم وتطهى لعشر دقائق.