في جامع آمنة بنت وهب، في حي سيف الدولة المتوسط بحلب، كان الزحام المسائي شديداً لحضور درس الشيخ أحمد حسون. كانت مساجلة حادة سابقة مع أحد تلامذته الكثيرين قد قادتني مخفوراً إلى هنا، لسماعه من جديد والحكم عليه من دون موقف «مسبق» افترضه صديقي.
لم يكن التشويق ينقص دروس حسون في الأصل. لكن جرعته كانت زائدة ذلك اليوم لاعتماد الشيخ على عرض كتاب سيلقى رواجاً كبيراً إثر ذلك، هو «فلا تنس الله» الذي دونت فيه ممثلة مغربية تجربتها مع مرض السرطان، وشفاءها بعد زيارة الأراضي المقدسة في مكة والمدينة المنورة واغتسالها بماء زمزم. وبعد غمرة الانفعالات التي يمكن أن تثيرها قصة واقعية كهذه، ومهارات الشيخ الدرامية في الروي والسكون وتصعيد المشهد وإبطائه، ختم بالرؤيا الخارقة التي زار فيها الرسول المرأة المُلحِفة في الدعاء ومسح على جسدها فشفيت، قائلاً لها، بحسب ما روى الشيخ، إن لها ميزتين عنده؛ أولاهما أنها استغاثت به، والثانية أن اسمها فاطمة «ع اسم بنتي».
انفضّ الدرس. وطفق الخارجون الدامعون يتسابقون إلى شراء نسخ الكتاب التي عرضتها بسطة أمام الجامع. ولم يشوّش المشهد أن اسم المؤلفة على الغلاف كان واضحاً: ليلى الحلو.
ليس هذا مثالاً على التأثر الكبير لحسون فقط، بل أيضاً على الانسحار الغريب الذي كان يبديه مريدوه المبهورون.
يجهل كثير من السوريين، من الذين لم يسمعوا بأحمد حسون قبل تعيينه مفتياً للجمهورية عام، 2004 ولم يشاهدوا سوى تملقه المفرط بعد الثورة، أنه كان شيخاً معتبراً في حلب، بل أحد أبرز «علمائها». على الرغم من عدم امتلاكه العلوم الشرعية الإسلامية المعروفة. إذ تروي سيرته الذاتية أنه خريج الأزهر ولكن في قسم الأدب العربي. وتدور أقاويل كثيرة عمّن كتب له الرسالتين اللتين نال بهما الماجستير والدكتوراه من الجامعة نفسها وفي عمر متأخر. فضلاً عن أن حيويته ودنيويته وعلاقاته العامة المتشعبة لا تترك له الوقت والمزاج الكافيين لمطالعة كتاب.
ولد أحمد بدر الدين لرجل دين معروف في حلب في زمنه، هو الشيخ أديب حسون، القادم من إحدى قرى ريفها. وقد اشتهر الفتى بالخطابة. وعلا نجمه حتى قبل أن يغادر البلاد إبان «أحداث الإخوان»، عقب شيوع اتهامات له بالعمل لصالح المخابرات، ثم يعود ليستأنف مسيرته الصاعدة بعد استتباب الأمور للسلطة. متغلغلاً في شريحتين من الحلبيين؛ شملت الأولى، القاعدية، جمهوراً شعبياً من الحرفيين ومتوسطي التعليم، في حين وصلت الثانية، النخبوية، إلى قلب الوسطين التجاري والصناعي اللذين أصبح أحمد حسون واعظاً مرموقاً فيهما، ومفتياً، ومحكّماً، وشريكاً، وجابياً. وقد امتدت هذه الشريحة المصطفاة من مريديه إلى «المثقفين»، من أطباء ومهندسين ومحامين، فصار يقيم لهم درساً أسبوعياً خاصاً في مضافته في حي الفرقان الغني، التي استعاض بها عن الجامع بعد أن حاصره مدير الأوقاف، خصمه صهيب الشامي.
في مرحلة ما بعد «الأحداث»، وخروج مشايخ الإخوان المسلمين ومقربيهم من المشهد الديني، هجرة أو قتلاً أو اعتقالاً؛ قدّم أحمد حسون لحلب إسلاماً مناسباً؛ فردياً في العمق إلا عند حضور الدروس العلنية، صوفياً دون طرقية ملتزمة وزاهدة، حياتياً يتكامل مع المحل في سوق «المْدينة» قلبها التجاري، والشقة الفارهة في أحيائها الراقية، والمعمل في ريفها، ومزرعة الترويح عن النفس في ضواحيها. يمكنك أن تستمتع بكل هذا دون ضير ما دمت تسلّم مشاعرك الدينية لحسون الذي يتقن العزف على أوتار تأنيب ضميرك، لكنه يستخرج من الزكاة والصدقات من جيبك ما يكفي لإراحتك.
لكن الشبكة المحلية من الثروة والنفوذ الاجتماعي لم تكفِ حسون الذي تطلعت نفسه إلى السلطة، عضواً في «مجلس الشعب» لدورتين، ثم مفتياً لحلب فالجمهورية. وعلى خلاف المدينة التي ترعرع فيها لم يحُز في العاصمة رواجاً يذكر. فأدواته هنا كانت مكشوفة، كما واجهه رفض بارد وصارم من المشيخة الدمشقية التي رأت في تعيينه تعدياً على حيّزها، فضلاً عن توجهه إلى توسيع علاقاته بين المسؤولين الحكوميين والأمنيين وحتى العسكريين، بعد أن عبر فوق الجماهيرية درجة إلى الأعلى.
وبالمقابل أخذت شعبيته في حلب تتآكل، ببطء في البداية حين كان يزورها باستمرار ويحرص على إلقاء خطبة الجمعة في جامع الروضة فيها. ثم بتسارع بعد الثورة وانحيازه، مسفوحَ الكرامة تماماً، إلى صف النظام. فإن كان عامّة جمهوره ممن لم يؤيدوا الاحتجاجات منذ بدايتها، حفاظاً على الاستقرار والمصالح ونأياً بالنفس عن التورط، فإن انخراطاً مقابلاً في جو التشبيح ينافي المشي إلى جوار الحائط أيضاً، ويناقض القاعدة الذهبية للخلد «الله يطفيّا بنوره».
وذلك فضلاً عن انهيار الوسط التجاري والصناعي والحرفي في المدينة، بانتقال الاشتباكات إلى أسواقها التقليدية القديمة حتى دمّرت، وانقطاع الطريق إلى المعامل، وتعثر الحرف لأسباب عديدة. ولم يكن هذا خراباً اقتصادياً فحسب، بل هو زوال عالم شكّل وجه حلب منذ خرجت مجرَّحة من صدامها الدامي مع السلطة في السبعينيات والثمانينيات.
وربما يحلو للمرء أن يجد في موت صباح فخري، بعد سنوات قضاها تائهاً عن الدنيا، تمثيلاً رمزياً لحال المدينة التي غنى لها وباسمها. صحيح أن المدن لا تموت كالبشر لكن أشكالاً لها تنتهي صلاحيتها. وهو ما لم يعِه أحمد حسون، الذي ذهب إلى عزاء المطرب بعدّته البالية نفسها، ضميراً مستتراً ولساناً طلقاً يشطح بما شاء. فكان ممّا قاله في التأبين أن خريطة سوريا مذكورة في سورة التين، وأن من يُولد فيها يُخلق في «أحسن تقويم»، فإن غادرها رُدّ إلى «أسفل سافلين». وهو ما اصطادته عليه وزارة الأوقاف، المتربّصة به من زمن، فأخذت الضوء الأخضر لتكلّف «المجلس العلمي الفقهي» فيها بمهاجمة حسون ببيان قاس ربما يؤشر إلى وصوله إلى درك انحداره وقرب إقالته وانتهاء سيرته.
*تلفزيون سوريا