شعرت، بعد الانتهاء من قراءة كتاب «الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان» لياسين الحاج صالح، بالارتياح الناجم عن معالجته الفذة لألغاز فكرية قارّة شكّلت، عمليا، الخيط الناظم بين المنظومات الاستبدادية التي ناخت على ظهور شعوب هذه المنطقة الواسعة المنكوبة، والأطروحات الفكرية، التي نظّر لها مثقفون عرب وسوريون وتيارات ثقافية وسياسية كبرى.
يقدّم الحاج صالح في كتبه جهدا كبيرا يقوم خلاله بمحاكمات لأعمال ومفاهيم ونصوص وشخصيات، من ضمنها طروحاته هو نفسه، فيقول في كتابه «أساطير الآخرين»، على سبيل المثال: «كنت شاركت في هذا الافتراض الأساسي في غير مقالة، لكن يبدو اليوم أن هذا الطرح تبسيطي وغير تاريخي»، وهو يقدم في «الثقافة كسياسة» مسارا لتطوّره الفكريّ حيث ينتقد مفكرين تعلّم عليهم، كعبد الله العروي، الذي يقول إنه خلال قراءته الأولى له، في سنته الثانية من الدراسة الجامعية، خرج باكتشاف «لا يزال طازجا في ذاكرتي: أن للكتب علاقة بالواقع»!
في تحليل الواقع المعقد وأشكال تعبير المثقفين الماكرة عن انحيازاتهم فيه، وفي سجاله مع منظومات فكرية أصبحت جزءا من نسيج التفكير العام، يستخدم الحاج صالح ترسانة معرفية واسعة، قادرة على مواجهة المثقفين على وعورة مسالكها ومدارسها، ففي قراءة لنص كتبه الشاعر السوري سليم بركات يحيل التفجر العنيف فيه إلى أن كاتبه «ضحية لأيديولوجية عربية جدا: أيديولوجية الفصاحة»، التي هي «أيديولوجية متمركزة حول اللغة».
غير أن إحدى جماليات لغة الحاج صالح أنها دقيقة وتبتعد عن الرطانة، ومحاولات إظهار أشكال «الإعجاز اللغوي»، لكنها تستفيد كثيرا من إمكانيات البلاغة، سواء في كشف عورات النصوص التي تساجلها، أو في تقديم استعارات شديدة الإيجاز والبلاغة والإضاءة على الفكرة.
الروبوت وشياطين المثقف
أحد الأمثلة هو نحته كلمة هوموإسلاميكس، التي تحيل إلى جذر الإنسان القديم بالارتباط بالإسلام، مقترحا هذا الاصطلاح لتفسير كيف ينظر العلمانيون والإسلاميون إلى «صنف خاص من البشر يحكم «الإسلام» في أفعاله كلها، فلا شيء في ما يفعله غير إسلامي، ولا شيء غير إسلامي في تكوينه وسلوكه وتفكيره. إنه هوموإسلاميكس، إنسان آلي مبرمج على «الإسلام» أو «الشريعة».
يستخدم الحاج صالح أيضا كلمات مثل غيلان، المقبلة من التراث الأسطوري العربي، للتعبير، في مثال الدولة العربية، عن «تحطم مفهوم المعقول السياسي» وعن «تحوّلات نوعية في سويّات التنكيل بالمجتمعات المحكومة ما يتجاوز تحدي الروابط الإنسانية والوطنية إلى ما يشبه تلذذا مجنونا بالفظاعة، وما يتجاوز معاقبة خصوم سياسيين إلى إقامة صناعة إرهابية كاملة وواسعة النطاق، تتفنن في الانتقام وترويع المحكومين كلهم».
إحدى المسائل التي لا يكفّ الحاج صالح عن انتقادها لدى المثقفين «العموميين»، كما يسميهم هي تجاهل الوقائع الفعلية، حيث أنهم «لا يدرسون ما يتكلمون عنه» وأن: «لا شيء عن إصلاح التعليم، لا شيء يذكر عن الحريات العامة، لا شيء عن إصلاح الدين، لا شيء عن اللغة، لا شيء عن المعرفة، لا شيء عن المخيلة، لا شيء عن الذاكرة»، وفي قراءته لأدونيس، على سبيل المثال، يرى الحاج صالح أن عند الشاعر السوري «ترتفع مقاطعة التفاصيل إلى تنزه مطلق عن الوقائع والمعلومات المضبوطة. الرجل لا يحيل ولا يوثق ولا يبرهن ولا يفصل. ربما يخشى شياطين تكمن في التفاصيل». وفي نقده لـ«العقيدة الثقافوية العربية»، يقول الحاج صالح إن «الغرب» «ثقافة عقلانية وعلمانية وحديثة» في نظر العلمانيين، لكن تغيّب شرح الغرب «بمفردات الاقتصاد والسوسيولوجيا والجغرافية السياسية وعلم السياسة والتاريخ». حتى عندما يشير هذا الاتجاه إلى الاستبداد والأصولية والقدامة والنزعة الحسية، أو الوجدانية في ثقافتنا واجتماعنا «فإن مضمونها يحيل خلسة إلى معيار غير محقق (الديمقراطية، العقلانية، العلمانية…) وليس إلى علاقات الواقع المعيش وبناه».
في تأكيده على الوقائع، وخصوصا في المواضيع الأثيرة لدى النخب العربية، كموضوع «فصل الدين عن الدولة»، يطالب الحاج صالح بـ«الاعتراف بالدين كعلاقة دنيوية، كشيء قابل للشرح بلغة الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفلسفة وعلم النفس والتاريخ»، وبسبب ذلك فإن «الدول والطبقات والأديان والطوائف، والرجال والنساء والأطفال، والتعليم والاقتصاد والقوانين.. ذلك كله يختفي في ليل »الثقافة« الدامس: كلّه عند مقرّعي «العرب… عرب»!
ضابط الأركان والخالق من الصفر
إحدى القضايا المهمة في كتاب «الثقافة كسياسة»، في رأيي، هي وضع الحاج صالح يده على لقاء الاتجاهين العلماني والإسلامي، كل بطريقته، في النظر إلى المجتمعات، فيلاحظ مثلا، أن أحد أقطاب الاتجاه «العقلاني» العربي، جورج طرابيشي «الذي عين نفسه» ضابط هيئة أركان في «حرب مئة عام ضد الأصولية»، يستخدم مصطلحات الإسلاميين الذين يحاربهم بقوله، «العلمانية جهادية دنيوية»، وتعليقا على تقرير أدونيس أن أحوالنا الراهنة «صفر»، وأنها توجب «خلق» مجتمع وثقافة جديدين، يتساءل الحاج صالح: «صفر» و«خلق»، أليس هذا هو الخلق من عدم؟ لم يعد يلزم إلا «البارئ المصوّر».
في شرحه للثقافوية (الأطروحة التي تعتبر الثقافة هي سبب التخلف والاستبداد إلخ) يعتبر الحاج صالح أن هذه الرؤية «تستأنف تقليدا تبسيطيا عربيا أعرق، يحيل إلى شعور بحاجة ملحة إلى دليل هاد أو منهج معصوم»، وأن «الأنتلجنسيا العربية» أظهرت «استعدادا لافتا لاعتناق دعوات واحدية»، ويمكن اعتبار أدونيس، الشاعر والكاتب السوري، أحد أهم أمثلتها، فهذا «الذي لا يمل من هجاء «الرؤية الواحدية»، هو نفسه الذي لا يمل من تكرار الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة «فصلا كاملا». والنتيجة أن كل هذه عقائد خلاص، تبحث عن مفتاح كلي، عن إكسير، وأن «كل اختزال لكثرة العالم إلى مبدأ واحد»، الثقافة، في حالة أدونيس وطرابيشي، والتاريخ، في حالة عبد الله العروي، والعقل العربي، في حالة محمد عابد الجابري، والعقل الإسلامي، في حالة محمد أركون إلخ «يسهّل اختزالا لاحقا لهذا المبدأ إلى «فكرة» أو «وعي» إلى «ثقافة»، ويضيف الحاج صالح: «ولعلّه يسهل، من باب آخر، اختزال مجتمع الكثرة بحاكم فرد»، فمن شأن «ثقفنة الصراعات، بخاصة تديينها، أن تجعلها ممتنعة على الحلول السياسية»، والسياسة العملية، في «مذاهب الثقافويين، العلمانيين منهم والإسلاميين، تزكي إبادة الخصوم او استئصالهم».
يوصلنا الحاج صالح، بعد رحلة الفك والتركيب الشاقة، إلى استنتاجات صعبة. من ذلك قوله إنه «لا يسعنا التكلم على علوم اجتماعية وإنسانيات في ثقافتنا المعاصرة» و«ضرورة تراجع هاجس «العمل الموجه نحو الحل والخلاص»، وأننا «نعيش في واقع سياسي وليس ثقافيا. في بلدان بعينها، سوريا أو مصر أو المغرب.. وليس في «الوطن العربي» و«برنامج تحقيق الغرب» انقلب إلى ضده، و«أنتج نخب سلطة عنصرية متوحشة» وأن «البرنامج انتهى» و«المثقف الجديد يكافح من أجل امتلاك السياسة والحياة هنا والآن، في الوطن، في المنفى، وفي العالم».
يقوم الحاج صالح هو نفسه، من حين لآخر، بمراجعات متفحصة لما يكتبه، يشير إليها في كتبه ومقالاته (مقالته: إعادة بث السحر في العالم من الأمثلة الممتعة على ذلك). لا تعدو هذه المقالة كونها مراجعة للكتاب المذكور تركّز على ما اهتم به قارئها، ويجب اعتبارها مقدّمة لقراءة أخرى لمناقشة بعض الزوايا الحادة في كتابه، ما قد يؤدي لتدويرها بعض الشيء، أو زيادتها حدة.
*القدس العربي