بعد تجربة طلاق محزنة، طلبت الصحافية الفرنسية جوديث دوبورتاي مساعدة من «تندر» شبكة المواعدة العالمية على الإنترنت، وبدأت تتلقى دعوات من أشخاص وضعوا بياناتهم، مثلها، على الموقع الشهير، بأمل لقاء شريك الغرام، أو الحياة، وفي لحظة عزلة عاطفية شديدة مع قرب انتهاء السنة كانت تتواصل مع 16 شريكا عاطفيا محتملا!
علمت دوبورتاي، بعد فترة، إثر قراءتها مقالة عن شبكات المواعدة، أن الموقع يستخدم معايير تشبه العلامات التي تعطيها المدرسة أو المعلمون للتلاميذ، ويتأثر «سلّم العلامات» والمعايير تلك صعودا أو هبوطا، برفض الناس أو قبولهم لك، بحيث يحدد الموقع من الأشخاص الذين هم أعلى منك تصنيفا، وبذلك لا يمكن أن يلتقي ذكر من فئة Alfa+ الذي يجمع صفات تفوق عرقية ومالية وفيزيائية (مثلا) مع أنثى من فئة Delta- التي يمكن أن تعتبرها معايير الموقع أدنى درجة.
مدفوعة باستنكار داخلي لإمكانية تقرير الموقع لمن يناسبها أن تواعدهم، أو حرمانها من التواصل مع أشخاص حسم الموقع أنهم أعلى (أو أدنى) شأنا منها، قررت الصحافية أن تحصل على ما خزّنه «تندر» عنها من معلومات. قيل لدوبورتاي، حين طلبت ملفّها إن هذا الملف (الذي يتضمن معلوماتها الخاصة) هو «ملكيّة فكرية» للموقع. بعد إصرار ومكاتبات واتصالات لستة أشهر تمكّنت دوبورتاي أخيرا من الحصول على ملفّها المؤلف من 800 صفحة، لتكتشف أنه لا يضمّ فقط بياناتها التي قدّمتها للموقع، بل يحتوي أيضا على معلومات غزيرة وشخصية جمعها الموقع عبر تشاركه المعلومات أو جمعها من مواقع أخرى كفيسبوك وتويتر ولينكدن وغيرها إلخ. اكتشفت الصحافية، مدهوشة، أن الموقع يعرف معلومات عن حياتها وعاداتها الجنسية الحميمة، والأوقات التي تكون فيها هشة أو محتاجة عاطفيا. قررت دوبورتاي عرض تجربتها تلك فنشرت كتابا بعنوان «الحب تحت الخوارزميات».
حسب ما يعلنه موقع «فيسبوك» للتواصل الاجتماعي، فإن المعلومات التي يجمعها عنا تتضمن: 1 المعلومات الشخصية لإنشاء الحساب الشخصي. 2 معلومات عن المواد التي تحمّلها كالصور والأماكن التي ترتبط بها. 3 مواد يحمّلها أشخاص آخرون حولك. 4 – معطيات عن كيفية استخدامك للموقع، كاهتماماتك ومع من تتحدث. 5- التحويلات التي تقوم بها عبر فيسبوك، كما تفعل عندما تشتري من ماركيت بليس أو الألعاب التي تشتريها. 6 الأجهزة التي تستخدمها كعنوان الكومبيوتر والأجهزة التي تشغله والشبكة. 7 معلومات من «أطراف ثالثة». ويقوم الموقع بمشاركة معلوماتك مع جهات أخرى مثل المعلنين، وشركات قياس المعلومات، الباعة ومقدمي الخدمات، البحاثة والأكاديميات، و»الجهات القانونية».
إذا كان موقع للمواعدة مثل «تندر» يخزّن ملفا بحجم 800 صفحة عن شخص واحد مثل الصحافية آنفة الذكر، فالأكيد أن المواقع الكبيرة على الإنترنت كغوغل ومايكروسوفت وفيسبوك وتويتر وأنستغرام وتيك توك ولينكدن، تمتلك حجما هائلا من المعلومات عن كل شخص يستخدمها.
من المخبر المأجور إلى العميل المتطوّع؟
حين يتم الحديث عن «جهات قانونية» و»أطراف ثالثة» يتضمن الأمر، بطبيعة الحال، الجهات التابعة للدول، كوزارات الدفاع والاستخبارات، التي كانت دائما سباقة في مجال جمع وحفظ وتبويب المعلومات الشخصية لأسباب «أمنية» أو «وقائية» أو «مباحثية» (فالأجهزة الأمنية هي مراكز أبحاث أيضا) وكانت سباقة أيضا في تمويل بحث واختراع أدوات المراقبة والتوثيق والتصنيف، ويعود أول برنامج للتعرف على الوجوه إلى مشروع لوزارة الدفاع الأمريكية بدأ عام 1963، غير أن أمثال هذا المشروع، بعد أن ظهرت الأقمار الصناعية، وكاميرات المراقبة والإنترنت ووسائل التواصل، صارت لديها فوائض كبيرة من الصور والفيديوهات عن سكان العالم، من نيويورك وطوكيو وبكين، إلى أفراد القبائل المختبئة في غابات الأمازون أو بورنيو أو جزر المحيط الهادئ.
لقد فتحت وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل غير مسبوق، الباب لفكرة تسليم خصوصياتنا وأسرارنا وصورنا وأفكارنا طواعية. صار صعبا على التصوّر أن يقاوم المرء نشر أخباره وصوره، كنوع من الإعلان العام عن وجوده ضمن الشبكة الاجتماعية العامة للمجموعة البشرية التي ينتمي إليها، لكن هذا توسّع لنشر صورة للابن الذي تفوق في مباراة أو حفل، أو الابنة التي تخرجت من الجامعة أو تزوجت، أو لأصدقاء متفرقين في الأرض اجتمعوا، أو لمناسبات الحزن والعزاء العائلية.
بهذا النشاط البشريّ الهائل لم تعد أجهزة الاستخبارات تحتاج جهدا لجمع الصور والفيديوهات و»الأدلة» ويعود الفضل، بعد أجهزة المراقبة والكاميرات والأقمار الصناعية، إلى وسائل التواصل الاجتماعي حيث صارت هذه المعلومات متاحة ومفتوحة، وبدلا من طلب ضابط المخابرات من كاتب الحضور لـ»شرب فنجان قهوة» في أحد فروع الأمن (كما يحصل في سوريا) فإن الناس هم من صاروا يتبرعون، عن دون قصد أحيانا، بتقديم «الأدلة» والصور التي تهمّ أجهزة الأمن، عبر نشر هذه المعلومات يمكن أن تقوم أجهزة الأمن بتبويبها، حين تريد، تحت خانة المعارضة او الإرهاب، وبذلك تزايد الطلب على «المخبر الإلكتروني» الذي يراقب وسائل التواصل بدل مراقبة البيوت، في ما أصبح الناس جميعا «مخبرين» متطوعين ينشرون المعلومات عن أنفسهم، فتلتقطها أجهزة الأمن الالكترونية وتحوّلها إلى أقسام الأمن الأخرى، لممارسة أدوارها التقليدية من اعتقال وتعذيب وسجن!
علي بابا والأربعون جهاز مخابرات
تحتاج الأنظمة، في بعض الأحيان، حين تعتبر شخصا ما جديرا بالمراقبة والتنصت والتجسس، إلى أجهزة تجسس معقدة، كالتي تصنّعها دول متطوّرة تكنولوجياً، ومهووسة أمنيا كروسيا والصين وإسرائيل، ونعلم أن عدداً من الأنظمة العربية قامت بشراء هذه الأنظمة والتطبيقات من مصادرها، وقامت بتجربتها على مواطنيها، ما أدى إلى اعتقالات واغتيالات، أو قامت بشراء موظفين في وسائل التواصل، كما حصل مع «تويتر» حين قام بعض موظفيها بتسريب أسماء الأشخاص المعارضين في الداخل لدول عربية، أو القيام بالتعاون مع «الفرع الإلكتروني» وتتبع رسائل مشفرة على واتساب، أو ملاحقة جماعة تتحدث على «سكايب».
اعتقلت الشرطة الأمريكية، عام 2018، شخصا يدعى جورغي مولينا، بتهمة القتل. خلال الاستجواب قالت الشرطة للرجل إن لديهم دليلا بنسبة 100% أنه كان في موقع الجريمة. استندت الشرطة إلى معلومات من غوغل حول مكان وجود هاتفه، لكن الادعاء كان خاطئا وأطلق سراح الرجل لكنه خسر وظيفته، وسيارته وسمعته. تذكّر هذه الحادثة بفيلم «عدوّ الشعب» (من بطولة ويل سميث وجين هاكمان) حيث يصبح شخص بريء، ومن دون أن يعلم، مطاردا من قبل «سي آي إي» القادرة ليس على تتبع آثاره، بل اكتشاف مكانه من بصمة صوته عبر اتصال هاتف تقليدي، كما تحيلنا إلى الفيلم الشهير عن موظف المخابرات الأمريكية السابق إدوارد سنودن، الذي اكتشف قدراتها الهائلة على التجسس على خصوصيات البشر، وعلى التلاعب بالمعلومات للضغط عليهم.
رغم الصراعات الناتجة عن مصالح شركات الإنترنت الكبرى مع الدول (كان آخرها نزاع بين فيسبوك وأستراليا و«علي بابا» والصين، وقبلها النزاع الشهير بين شركة أبل والحكومة الأمريكية) فإن هذا لا يغيّر من واقع أن الإنترنت، صار هو المجال الهائل الأكبر لجمع وخزن المعلومات الشخصية والأمنية والسياسية والجنسية عن مليارات البشر، لكنّ المستجدّ هو أن الجزء الأكبر من هذه المعلومات يقدّمها الناس بطواعية واندفاع وحماس من دون تقدير للعواقب، أو كنوع من المقايضة بين خصوصياتهم والمنافع التي يعتقدون أنهم حصلوا عليها.
*القدس العربي