فوجئت وأنا أقرأ مقابلة مع فيلسوف تركي معاصر، بقوله إن بعض المشتغلين بالفلسفة الأتراك يفضلون عدم استخدام لقب فيلسوف كونه يحمل مضامين تحطّ من قيمته، ففي مخيّلة عامة الترك، حسب شرح فارول أكمان لـ»مجلة الفلاسفة» البريطانية، يحضر عند استخدام كلمة فيلسوف، شكل شخص غريب طويل اللحية، رث الملابس، نصف مجنون ينظر إلى السماء للتسلية في وقت فراغه، ولذلك يفضل المشتغلون بالفلسفة في تركيا كلمة فلسفجي Felsefeci بدل كلمة فيلسوف، وهذه النظرة للفلسفة والفلاسفة يمكن أن نجد مقابلات لها لدى شعوب عربية وإسلامية عديدة، فحين يطلب منك أحدهم، في بلاد عربية، آلا تتفلسف، يُفهم من العبارة الزجر وطلب عدم الإطالة في الكلام غير المفيد، أو في التنظير المتحذلق، ويعبّر مفهوم الفيلسوف عن التفذلك الفارغ والمعاظلة الفكرية العبثية.
الغزالي: حبّ الفلسفة وكره الفلاسفة
يمكننا اعتبار كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» إحدى ركائز التأسيس المعقد لهذه القضية الشائكة: علاقة الفكر الإسلامي بالفلسفة والفلاسفة، لأن هذا الكتاب فتح قوساً كبيراً جعل «الفكر الإسلامي» في مواجهة «الفلسفة».
الكتاب مثال شديد الأهمّية لمناقشة سؤال هذه المقالة، لأنه يوفّر التفسير المنطقي لطريقة فهم عموم المسلمين، التي ما تزال شائعة لفكرة الفلسفة، وكذلك لأنه مثال يحمل في داخله مفارقات يفيد تفكيكها في إجلاء معضلة لا يبدو أنها حلّت بعد.
يضع الكاتب المغربي محمد آيت حمو يده على نقطة مهمة في هذا الاتجاه، في مقال عنوانه: «الغزالي بين حب الفلسفة وكره الفلاسفة»، فقد كان «حجة الإسلام» الغزالي واضحا في وصم الفلاسفة بالكفر، وبذلك فقد «أعطى شهادة وفاة لفلسفة المشائين في المحيط الإسلامي السني»، غير أن المقصود، حسب المستشرق الإنكليزي وليام وات، بالفيلسوف المقصود أرسطو ولكن «كما نقل مذاهبه الفارابي وابن سينا فقط»، والمقصود بالفلسفة «الإلهيات» التي نقلها المذكوران عن أرسطو، أما العلوم العقلية الأخرى فلا يشكك في صدقها.
حسب وصف وات، فإن الغزالي كان «يعرض قول الفلاسفة في المسألة عرضا جيدا لا يخلو من أمانة، ويرفقه بتفهيم قد يخدم غرضه النقدي، ثم يسوق الاعتراضات على ذلك، ويختم الاعتراض بحكم عجز العقل عن معرفة الأمور الإلهية معرفة يقينية قطعية لا شكوك عليها» (وهو توصيف لشغل فلسفيّ عنوانه «تهافت الفلاسفة»!).
وكما يقول آيت حمو فإن الكتاب «لا يختلف عن مؤلفات الفلاسفة المسلمين، من زاوية مادته الفلسفية، ومعدن أسلوبه الفلسفي، الذي يعتمد الجدل والبرهان. فالعقل الفلسفي يشكّل القاسم المشترك بين الشيخ الرئيس (ابن سينا) وحجة الإسلام (الغزالي) والشارح الأعظم (ابن رشد)، ما يدفع أستاذ الفلسفة المغربي سعيد بنسعيد العلوي للقول، إن الغزالي «فيلسوف كبير بالمعنى الذي تنطبق فيه صفة الفيلسوف على المفكر الإسلامي في العصر الوسيط».
ابن خلدون: مبطل الفلسفة أم رائد العقل والحداثة؟
اشتهر عالم فكري آخر كبير، هو ابن خلدون، أيضا بنقد الفلسفة في فصل «إبطال الفلسفة وفساد منتحلها»، من كتابه الشهير «المقدمة»، ورغم هذا «الإبطال» فإن عددا من الكتاب العرب اعتبروه هو أيضا مؤسسا لفلسفة التاريخ، وفيلسوفا كبيرا، بينما يكتفي كل من المفكر العراقي عبد الأمير الأعسم وفايزة تومان الشمري الأعسم بالقول إنه «قدم تفسيرات فلسفية»، وبالتالي «لا يمكن أن يدخل ميدان الفلسفة احترافا»، وأنه «لم يؤلف نصا فلسفا بحتا» إلا في كتابه «لباب المحصل»، وفي رأيهما هناك العشرات «ممن هم أكثر تفلسفا من ابن خلدون، لكنه بحق تميز على الجميع بفلسفته الخاصة بالعمران»، ويجاريه في ذلك الكاتب المصري إبراهيم مدكور، وكذلك الكاتب المصري أبو العلا عفيفي، الذي رفض أن يجعل ابن خلدون فيلسوفا بمقام فلاسفة الإسلام الكبار، كالفارابي وابن سينا، ولكن ابن خلدون في آراء آخرين، كالأكاديمي التونسي سليمان الشواشي «أول فيلسوف مؤرخ»، وفي رأي المؤرخ والكاتب التونسي محمد الطالبي «رائد العقل والحداثة»، أما المستشرق الهولندي دي بور فصنّفه ضمن فلاسفة المغرب كابن باجة وابن طفيل وابن رشد.
كيف نفسّر مفارقة اعتبار الغزالي وابن خلدون فيلسوفين رغم مهاجمتهما الفلسفة والفلاسفة أصلا، وهل يساعدنا تحليل ذلك في تفسير الفهم السلبيّ لدى نخب ومجتمعات إسلامية للقب الفيلسوف؟
أشار بعض الكتّاب إلى أن الغزالي، رغم كتابه «تهافت الفلاسفة» كان يبطن حبا للفلاسفة، وقد عرّضه ذلك لنقد مرير من بعض معاصريه مثل، ابن تيمية، الذي لم ير في بعض مؤلفاته غير «أقوال الصابئة والفلاسفة»، أما الفقيه أبو بكر الطرطوشي فيراه «رجلا مظلم الجهالة، ومن أهل الضلالة، وكاد ينسلخ عن الدين»، وعليه فهناك ما يشبه اتفاق، وبطريقتين مختلفتين، بين بعض عتاة أهل الفقه السلفيين القدماء والمشتغلين الحديثين بالفلسفة العرب، على أن العلمين الإسلاميين اللذين اشتهرا بإثبات «تهافت الفلاسفة»، و»إبطال الفلسفة»، هما فيلسوفان (بالمعنى السلبيّ لدى بعض الفقهاء وبالمعنى الإيجابي للكتاب المعاصرين)
تظهر هذه المفارقة أن سوء التفاهم الحاصل يأتي من اعتبار المسلمين القدماء للفلسفة على أنها فكر مترجم عن حضارة أخرى، وعلى أن فكرها هذا يتعارض مع «الشرع الإسلامي» (الإلهيات)، ما جعل العلاقة بين أنواع الفكر الصادر في العالم الإسلامي القديم (الذي طغى عليه الجانب الديني) والفلسفة الإغريقية المترجمة، أقرب إلى صراع بين منظومتين معرفيتين، رغم أن الفلسفة، بمعناها العام، تتضمن سائر العلوم المتعارفة، كالطب، وعلم الحساب، والهندسة، وعلم الفلك، والموسيقى، والنفس، والسياسة، ولذلك كانت تنعت بـ»أم العلوم»، و»التفلسف»، بمعنى التفكّر في شؤون الوجود والطبيعة والعلوم كافة، هو أمر يخصّ عموم الجنس البشريّ، وليس حضارة بعينها.
يزداد سوء التفاهم حين نرى أن عددا من المشتغلين العرب بالفلسفة الحديثين، سحبوا هذه النظرية إلى واقع العرب والمسلمين الفعلي المعاصر، وأقاموا جدارا اختصروا فيه الفلسفة بجانبها «العقلاني»، واختصروا الفكر الإسلامي بالشريعة وعلم الكلام والحديث، وهي مفارقة قاموا بحلّها بمعادلة خطّية تبدأ من أرسطو، وتمرّ بابن رشد (كمترجم)، ثم تعود إلى أوروبا مجددا، بحيث يغدو الفلاسفة المسلمون شهود ومترجمون وناقلون للمعرفة لا مشاركين في صنعها، أو منتجين لها.
إحدى أشكال هذه المفارقة كان التقسيم الجغرافي الذي اعتبر «العقلانيّة» أمراً يقتصر على فلاسفة المغرب، واللاعقلانية الغنوصية والعرفانية، على مفكري المشرق، وهو أمر نلمح أثرا له في إقلال الشأن الفلسفي في عمل ابن خلدون، لدى بعض كتاب المشرق، واعتباره فيلسوفا كبيرا، لدى بعض كتاب المغرب.
في هذه التقسيمة الخطّية، التي تتراكب مع التقسيمات الدوغمائية الجامدة، التي تنوس بين العنصريّة وعقدة النقص، حيث يحضر العلم دائما من أوروبا، لا يهمّ أن يُعرف أن طاليس الملطي، أول فيلسوف إغريقي معروف، والذي كان يسكن سواحل تركيّا الحاليّة الغربية، كان ابنا لتجار فينيقيين، وأن فيثاغورث، الشخص الذي أعطى الفلسفة اسمها، استعان أيضاً بعلوم «القدماء» في بابل ومصر الفرعونية، وأن «محب الحكمة» (حسب المعنى اللغوي لكلمة الفيلسوف)، استقى كلمة «صوفيا» (الحكمة) من حضارات العراق، كما يقول الباحث علي الشوك، ومن حضارات هنديّة حسب اجتهادات أخرى (وسيكون البحث في هذا موضوع مقال آخر).
المصدر: القدس العربي