تتفق مصادر عدة على أن بدء تداول مصطلح «الإسلام السياسي» كان مع نهاية القرن العشرين. تم استخدام المصطلح لتوصيف الاتجاهات والأحزاب والحركات والجمعيات، التي تعتبر الدين الإسلامي نظاما عاما يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتمارس العمل السياسي بهدف تطبيق ذلك النظام، أو اعتماده مرجعية للقوانين العامة.
وإذا لاحظنا أن الاتجاهات والحركات، التي استخدم مصطلح «الإسلام السياسي» لوصفها، كانت موجودة قبل عشرات السنين من ذلك التاريخ، فما الذي استجد، وهل كانت هناك ضرورات معرفية أم سياسية لنشوء المصطلح؟
خلال بحث سريع في المجلات العربية عن هذا المصطلح، وجدت مقالا لمحمد عمارة من عام 1977، بعنوان «مكان الإدارة الإنسانية في فكر الإسلام السياسي» وآخر لأحمد كمال أبو المجد، الذي نشر مقالة في عام 1980، بعنوان «الشورى والديمقراطية ورؤية الإسلام السياسية» والواضح أن الكاتبين لا يستخدمان هنا مصطلح «الإسلام السياسي» بمعناه المتداول، بل يتحدثان عن الفكر والرؤية السياسيين للإسلام.
صار مصطلح «الإسلام السياسي» على أي حال، مستخدما لاحقا ضمن أوساط تعبّر عن بعض تلك الحركات والاتجاهات الإسلامية، في نوع من الإقرار بشيوعه وقابليته للاستعمال، أو لفائدة ما متوخاة منه، غير أن هناك تصريحات لمسؤولين في بعض تلك الحركات ترفض هذا الاصطلاح، فعلى حد تعبير أحدهم، رمضان شلح، فإن هذا المصطلح «مضلل وكاذب» مؤكدا أنهم ليسوا «إسلاما سياسيا لكن سياستنا إسلامية».
من القسطنطينية إلى الجمهورية الإسلامية
تنبع الحاجة لتوصيف تلك الاتجاهات والحركات، بشكل عام، من أن مفهوم الإسلام يتضمن عالما شاسعا، يطلق على حضارات وثقافات ومجتمعات، كما يتضمن سياقات واشتباكات لتواريخ طويلة وصراعات هائلة على امتداد مساحة «العالم القديم» والحديث، بشكل يتراكب أو يتفاصل أحيانا مع حروب تعاود الحصول مع اختلاف يافطاتها، بدءا من حروب قرطاجة وروما، ومرورا بالحروب الصليبية، فتح العثمانيين للقسطنطينية، سقوط غرناطة، آخر الممالك الإسلامية في إسبانيا، واجتياح الأمريكيين لبغداد وكابول، وصولا إلى النفوذ الامبراطوري لـ«الجمهورية الإسلامية الإيرانية» فوق صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت.
يأتي ظهور مصطلح «الإسلام السياسي» في هذا السياق العام، ليساهم مع مفاهيم أخرى مثل «الإسلام الراديكالي» و»الإسلام المعتدل» (وصولا إلى «الإسلام الفرنسي» ونظائره إلخ) في نوع من التصنيف والتبويب، الذي يفيد المعنى المذكور في بداية هذه المقالة، بجمع الإسلام مع السياسة، وهو أمر قد يبدو مفيدا على المستوى الإجرائي، لكنه يحمل تناقضات ومفارقات يمكن أن تفككه.
تغيّب الأيديولوجيات، والمفاهيم المجردة، أحيانا كثيرة، الأسئلة الأساسية، وهي أسئلة السلطة والقوة والمعرفة، وقد لعب مفهوم «الإسلام السياسي» ربما أكثر من أي اصطلاح آخر ضمن الفضاء السياسي العربي، دورا كبيرا في التضليل، وإبعاد أسئلة السلطة والقوة والمعرفة، بإخضاعه المتكرر لتأويلات توظيفية للأطراف المستفيدة منه أو المختصمة حوله. يختلف، لهذا السبب، اعتماد بعض كتاب أو أنصار الحركات الإسلامية لمصطلح «الإسلام السياسي» في سياقه العام، عن السياق الغربي الذي نشأ فيه، كما أنه يختلف عن استخدامات أخرى له، من قبل مناهضي الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي ـ العربي.
المآكل الحلال وقانون منع تسمية محمد!
لا يبدو منطقيا لأنصار الاتجاهات الإسلامية (ولغيرهم حتى) في هذا السياق، أن تقوم أنظمة غربية (وعربية) بتجريم تنظيمات وجماعات تحت دعوى انتمائها لـ«الإسلام السياسي» وهو ما يعادل كونها «لا تلتزم بقيم الجمهورية الفرنسية» أو باعتبارها، كما قالت السلطات النمساوية، «تهدد الحرية في أوروبا».
تنتهك هذه التأويلات والاستخدامات الغربية ارتباط مفهوم السياسة الوثيق بالديمقراطية والحريات، وبكونها أرضية للوصول إلى حلول غير عنيفة عبر الممكن والتسويات والمفاوضات والانتخابات، وهي قضايا جوهرية في المنظومة السياسية الغربية. ما دامت تلك الحركات لا ترتكب ما يخالف القانون، وتطرح أفكارها على الملأ للتصويت عليها، أي تدعو جمهور المواطنين لمحاسبتها سياسيا على أقوالها وأفعالها، فهي لا تخرج عن المعاني العامة للسياسة، خصوصا بوجود أحزاب تحمل أسماء «المسيحي الديمقراطي» وأخرى تقوم على أسس عنصرية وكارهة للأجانب والأقليات والأديان الأخرى. لتبرير تجريم تلك الحركات يستخدم مصطلح «الإسلام السياسي» هنا بمعنى سالب بجعله متعارضا مع العلمانية و«فصل الدين عن الدولة» بحيث يكون حل ذلك وعلاجه بـ«فصل الإسلام عن السياسة». عاين المسلمون ومنظماتهم في أوروبا (والمتعاطفون معهم من قوى سياسية) الأمر على أن مقصوده إخراج المسلمين من السياسة، ومنعهم من الدفاع عن أنفسهم كمسلمين، أو تجريم دفاعهم عن قضايا تخصهم في تلك البلدان، أو البلدان التي جاء أغلبهم منها.
يعني هذا فعليا تديينا انتقائيا للسياسة، فحين تتدخل السياسة في شؤون المسلمين، كأقليات دينية، يكون هذا ممارسة للعلمانية، أما حين يحاول المسلمون الدفاع عن أنفسهم، ضد أشكال اضطهاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، يصبح ذلك «إسلاما سياسيا» وقد وصل ابتذال هذا الاستخدام، في فرنسا، إلى حد انتقاد وزير الداخلية لوجود أقسام خاصة بالمنتجات الحلال في المتاجر، أو اقتراح أحد المرشحين للرئاسة، إريك زمور، العودة لقانون فرنسي يمنع تسمية الأطفال محمد.
يفضح سؤال السلطة دائما أشكال المفارقات المتعلقة بموضوع «الإسلام السياسي» كما هو حال العلمانيين واليساريين، الذين يؤيدون دخول «حزب الله» (وهو جسم يعتبرونه، في المسطرة الأيديولوجية «إسلاما سياسيا») إلى سوريا للمساهمة في قمع ثورة شعبية، أو حال أحد غلاة العلمانيين التوانسة الذي اصطف مع حزب «العمل» الإسرائيلي، لأنه حزب علماني، في مواجهة حركة «حماس» لأنها «إسلام سياسي».
وزارات السيادة وأقنعة الأيديولوجيا
تأخذ الأمور، في السياق العربي، مجالا أكثر وضوحا (وهذيانا) ففي ظل احتلال واحتكار النظام للدولة، والعسكر للنظام، والأمن للعسكر، والزعيم الفرد لكل الفضاء العام بكل تجلياته، بما فيه الدين، يصبح حديث بعض النخب عن «فصل الدين عن الدولة» تضليلا خالصا، لأن المطلوب، في حدوده الدنيا، يكون منع احتكار الدولة للفضاء العام، بما فيه الدين.
في السياق العربي، وبحدود تزيد أو تنقص، هناك منع للعمل السياسي الذي يستهدف السلطات التنفيذية («وزارات السيادة»: الجيش والمخابرات والشرطة) ولنا في ما حصل في تونس والسودان مؤخرا عبرة. ليس الأيديولوجي، في هذا الصراع، سوى قناع من الأقنعة المتعددة للنظم، فالصراع الحقيقي، يتبدى، صراعا مع مفهوم السياسة نفسه باعتبارها شكلا للتنافس الحرّ والحلول غير القائمة على العنف، وسواء كانت القوى السياسية، إسلامية الاتجاه، كـ»النهضة» في تونس، أو مناهضة للإسلاميين، كـ»قوى الحرية والتغيير» في السودان، فإن النظم العسكرية ـ الأمنيّة ستحاول، دائما، حسم الصراع لصالحها، وفي تلك الأثناء، لا ترى بأسا، في توظيف تلك الأيديولوجيات، والاشتباكات الطرفيّة بين الخصوم الأيديولوجيين، لصالحها.
لقد أدى التغوّل الوحشي للمؤسسات العسكرية والأمنية في كل مجالات الحياة العامة (والخاصة) واستيلاؤها الأمني والسياسي على الفضاء العام، بما فيه الدينيّ، ومظاهر عصبويتها أو طائفيتها، إلى ردود فعل سياسية واجتماعية واقتصادية ترتكس بإمكانيات النظم السياسية والاجتماعية والفضاءات الروحية، بما فيها الدين نفسه إلى تحوّله إلى قوقعة كبرى تحمي، من جهة، أشكال الهوية الثقافية بالمعاني المحافظة فيها، كما تشارك، مع كل شيء آخر، الهبوط الثقافي والسياسي والاجتماعي العام.
يفترض مصطلح «الإسلام السياسي» وجود إسلام غير سياسيّ، والمثال المستخدم عادة هو بعض المؤسسات الصوفية التي ترفض الاشتغال بالعمل السياسي، لكن المقصود، فعليا، هو احتكار الرأسمال الرمزي للدين واستخدامه في مؤسسات لصالح النظام، كما هو حال وزارات الأوقاف، والمنظمات الصوفية والسلفية والقمعية/الدينية («القبيسيات» «النهي عن المنكر» «المداخلة» إلخ) وهذا هو «الإسلام السياسي» المقبول.
*القدس العربي