حسام الدين محمد: هاتف ورسالة من شاعر وروائي ميتين!

0

لم أكن بعيدا عن مقبرة مورتليك، حيث دُفن، قبل أشهر، أول صديق إنكليزي أتعرف إليه في لندن، حين رنّ هاتفي، فزلزلني حين قرأت اسم المتّصل: نائل بلعاوي.. الشاعر الفلسطيني الذي توفّي فجأة في فيينا قبل عام من الآن. فكّرت للحظة أن بلعاوي لم يوار الثرى، وأن الأمر كله كان مزحة شعريّة مع الموت، لكنني تردّدت مع ذلك بالرد.
فتحت الهاتف فانطلق صوت أنثى تشرق بالدمع.
كانت نجوى زوجة نائل.
هزّها مرور سنة على رحيل حبيبها الخاطف، فقرّرت استعادته عبر الاتصال ببعض أصدقائه، لكن كون الاتصال جاء من هاتفه، وليس هاتفها، كان فيه نوع من التقمّص. شيء من رائحة قميص يوسف في نفس يعقوب المتشكك من الموت؟
أما أنا فأحسست بالأمر مثل ضربة قوية على الرأس، لتذكيري بمسألة علاقتنا البشرية الغريبة مع الموت ومفارقاته الوجودية والشعرية. فتحت محادثة «واتساب» مع نائل فوجدته، ويا للعجب، يسألني صوتيا عن أمجد ناصر وأين ستكون جنازته. انتبهت أيضا إلى جملة قالها: ليس لنا غير الشعر نتوكأ عليه فرددت عليه قائلا: عصانا العرجاء على حد وصف الصديق طاهر رياض.

سام، مريام وبهيج خليف

وصلني عام 2008 طرد بريدي يحمل نسخا من كتاب بالإنكليزية عنوانه «سام، مريام وأنا» لكاتب يدعى بهيج خليف. قرأت الرواية وفتنت بالقصة التي تقدّم طريقة جديدة لرؤية المسألة الفلسطينية، عبر حكاية فلسطيني من الناصرة يعمل في مطعم يملكه يهودي، لا يلبث، بعد أن تطلّقه زوجته الأمريكية، أن ينتقل للعيش في إحدى غرف بيته، حيث تنشأ علاقة غرامية بين الفلسطيني وزوجة صاحب البيت ينشأ عنها حمل لطفل، وهي قصة تتقصّد خض القوالب الرمزيّة للعلاقة بين المسألتين الفلسطينية واليهودية. تواصلنا على الهاتف والبريد الإلكتروني ودعاني خليف لزيارته في شيكاغو التي يدرّس في جامعتها، وتباحثنا ترجمة روايته (التي هي جزء من ثلاثية)، وبعد سنوات قرّرت فعلا زيارة شيكاغو، حيث تقيم أختي، وأرسلت رسالة إلكترونية إلى بهيج. عادت الرسالة فعلا لكنّها لم تكن من بهيج بل من زوجته الكاتبة سوزان أندرسون خليف، تخبرني فيها أن بهيج قد توفّي (كان هذا عام 2012)، وتدعوني أن أزورها في بيتها، وهو ما حصل فعلا فقد وصلت وعائلتي في عيد الميلاد اللاحق إلى هناك، وكان بهيج حاضراً فعلا في كل جلساتنا.
تستحضر الحكايتان مسألة مهمّة هي استمرار وجود الأدباء والشعراء من خلال التراث الإبداعي الذي تركوه، والأفكار التي طرحوها، بحيث لا يكون الغياب الفيزيائي طريقا للعدم، بل استمرارا للوجود.
يستحضر هذا الموضوع، أيضا، قضيّة العلاقة الفذّة للأدب بالموت، وهو أمر يعتبر أحد أغنى الظواهر وأعمقها في التراث الأدبي الإنساني، من رسوم الكهوف وملاحم الآلهة القديمة، مرورا بـ«كتاب الموتى» الفرعوني، وملحمة جلجامش العراقية (حيث تحضر صرخته: «إذا ما متّ أفلا يكون مصيري مثل أنكيدو؟/ لقد حلّ الحزن والأسى بروحي”)، وصولا إلى تراجيديا المسيح المذهلة، وسور القرآن عن يونس وأهل الكهف والنبي إسماعيل.
تبدأ هذه الظاهرة في الشعر القديم مع امرؤ القيس في القصيدة التي يقول فيها: «وليس غريبا من تناءت دياره لكن من وارى التراب غريب» وعبد يغوث الذي يحضره الموت فيخاف آسروه من هجائه لهم فيربطون لسانه: «أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا».
تحضر في التراث الأدبي العربي أشعار وأبيات مذهلة في هذا ما يمكن أن نسمّيه رثاء النفس، منها ما قاله المتلمس: «خليليّ إما متّ يوما وزحزحت منايا كما فيها يزحزحه الدهر/ فمرّا على قبري، فقوما فسلّما، وقولا سقاك الغيث والقطر يا قبر».
تورد كتب التراث حكاية بديعة عن بيت الصمّة بن عبد الله القشيري: «تمتّع من شميم عرار نجد فما بعد العشيّة من عرار» حيث يجد صلاح الدين الأيوبي هذا البيت على مخدّته وقربه خنجر، في تهديد قامت به الفرقة الإسماعيلية الملقبة بـ«الحشاشة».

نائل بلعاوي وزوجته

من ابن الريب إلى درويش

تحفر بعض القصائد العربية القديمة، كقصيدة ابن زريق البغدادي، عميقا في الروح البشرية، ويصعب على من قرأها ألا يستذكر مطلعها البديع: لا تعذليه فإن العذل يوجعه قد قلت حقا لكن ليس يسمعه/ جاوزت في لومه حدا أضرّ به من حيث قدّرت أن النصح ينفعه».
إحدى القصائد الخالدة في هذا المجال هي يائيّة مالك ابن الريب، وتفجّعه العابر للعصور:
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا
ولما تراءت عند مرو منيّتي وخلّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه يقرّ بعيني أن سهيلا بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إني مقيم لياليا
أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ولا تعجلاني وقد تبيّن شانيا
وقوما إذا ما استلّ روحي فهيئا لي السد والأكفان عند فنائيا
ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجرّاني بثوبي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
تذكّرني جملة «ولا تحسداني من الأرض أن توسعا لي» المقتبسة من البيت أعلاه بمقطع بديع، استخدمناه في «القدس العربي» كعنوان رئيسي نشرنا فيه شهادات الأدباء العرب عن محمود درويش بعيد وفاته وهو: «أعدّي لي الأرض كي أستريح فإني أحبّك حتى التعب».
ويمكن اعتبار درويش أحد أركان هذا المجال الذي نحاول قراءته، والذي يقع في الحدود الهشّة الفاصلة بين الأدب والموت، ولعلّ أحد أجمل تعبيراته كان في قصيدته «سنة أخرى فقط» ومزيّتها أن فيها رثاء للنفس ومطالبة بتأخير الموت، ولو سنة، ليس له فقط، بل لأصدقائه أيضا، حيث يقول: «أصدقائي، من تبقى منكم يكفي لكي أحيا سنة/سنة أخرى فقط/سنة تكفي لكي أعشق عشرين امرأة/ وثلاثين مدينة» كما يقول: «سنة واحدة تكفي لكي أحيا حياتي كلها» ويناشد الأصدقاء قائلا: «أصدقائي، لا تموتوا مثلما كنتم تموتون/ رجاء لا تموتوا، انتظروني سنة أخرى».

*القدس العربي