حسام الدين محمد : ناصر «الإخواني» وقطب «العلماني»: انقلاب غيّر العالم

0

بين أربعينيات القرن الماضي وعام 1954 كان جمال عبد الناصر على علاقة وثيقة بجماعة «الإخوان المسلمين»، وتؤكد مصادر كثيرة من الإخوان ومن أشخاص مقربين منه (مثل زميله في «تنظيم الضباط الأحرار» و»مجلس قيادة الثورة»، خالد محيي الدين) أنه قدّم البيعة لمؤسس الجماعة حسن البنا، بالقسم على مسدس ونسخة من القرآن الكريم، كما بايع قائد «الجهاز الخاص» عبد الرحمن السندي، وساهم في تأسيس «التنظيم الخاص»، وهو تنظيم عسكريّ للإخوان داخل الجيش، ودرّب من خلاله شباب الجماعة على الأسلحة النارية والقنابل، وتشارك مع عدد من ضباطها داخل «الضباط الأحرار» و»التنظيم الخاص» القفز إلى السلطة عام 1952، ثم اختلف معها وزج بقياداتها في السجون بدءاً من عام 1954.

أما سيد قطب، فنشط لقرابة عشرين عاما ضمن دوائر النخبة الأدبية ذات التوجه العلماني، التي كانت تهيمن على الحياة الثقافية المصرية، وكتب في الرواية والشعر والنقد والمقالة، مبديا تطرّفا في توجهاته العلمانيّة، حيث هاجم أدباء «إسلاميي» التوجه، وشكك في خلط الدين بالسياسة إلى درجة قوله، إن الإسلام واللغة العربية عنصران غريبان عن الأمة المصرية، واستهدف في مقالات له في ثلاثينيات القرن الماضي التقاليد الدينية والاجتماعية بالنقد، مطالبا باعتناق الحداثة وتمثل مبادئها، ويعتبر فواز جرجس، في كتابه الصادر مؤخرا، «صناعة العالم العربي: ناصر، قطب، والنزاع الذي شكل الشرق الأوسط»، قطب شخصية حداثية بامتياز، بتعبيره عن شكوكه وتناقضاته خلال رحلته الفكرية التي لم يصل فيها إلى «اليقين» الأيديولوجي حتى نهاية حياته.
هناك تشابهات كبيرة بين شخصيتي عبد الناصر وقطب الشابين، بدءاً من كون عائلتيهما من المحافظة نفسها (أسيوط) مرورا بتعلقهما برموز ثورة 1919، والإعجاب برموز الحداثة الغربية (عبد الناصر كتب مقالة في صحيفة حائط مدرسته عن فولتير)، والانتماء للإخوان، في الأربعينيات بالنسبة لعبد الناصر، وفي الخمسينيات بالنسبة لقطب، وصولاً إلى حركة عام 1952 العسكرية التي أصبح قطب خلالها أقرب إلى منظّر رسميّ للثورة، وصديقا لعبد الناصر والضباط الأحرار، الذين كانوا يزورونه في بيته في حلوان، كما كان يتواجد في مركز قيادتهم، وكان له أحيانا مكتب فيه، قبل أن ينشب صراع «وجودي» بين الشخصيتين يقرر خلاله عبد الناصر أخيرا إعدام قطب عام 1966، باعتباره «رأس الأفعى» الذي يؤدي قطعه إلى «منع السم من الانتشار».

الدراما الكبرى

يبدو «الانقلاب» السياسيّ الكبير داخل الشخصيتين، كما لو أنه تبادل للأدوار، حيث تحوّل عبد الناصر من عضو فاعل في جماعة «الإخوان المسلمين» إلى زعيم حركة سياسية ذات طابع علمانيّ، رفعت شعارات الاشتراكية والوحدة، وفي الوقت الذي كان فيه ناصر يصطدم مع «الإخوان» (على خلفيّة موقعهم في السلطة الجديدة) ويبدأ حربا ضروسا ضدهم، قرر الثاني أن ينتمي إليهم، في انقلاب أيضا على سيرته السابقة التي كان يحسب فيها على الأدباء «العلمانيين»، وهكذا تحوّل الأول إلى «بطل القوميّة العربية» ورمزها الأول، فيما تحول الثاني لاحقاً إلى «الشهيد الحي» (كما صار يسميه أنصاره)، وتحولت تنظيراته إلى مصدر إلهام لأجيال من الحركات السياسية الجهاديّة المسلّحة.
اختار الأول، المولود عام 1918، طريق الأكاديمية العسكرية فتعمّد بنار التجارب في السودان وفلسطين (خلال حرب 1948)، وتجذّر سياسياً عابراً بسرعة من التنظيم الفاشيّ «مصر الفتاة» إلى الانتماء لـ»الإخوان المسلمين»، قبل أن يؤسس تنظيم «الضباط الأحرار» في الجيش، أما الثاني، المولود عام 1906، فاختار الدراسة والتعليم والأدب، وتكاد حياته أن تكون مقلوب حياة عبد الناصر: فالأول اختار العسكرية والثاني الأدب، وانتمى الأول للإخوان فيما كان الثاني علمانيا يهاجم الإسلاميين، ووصل الأول للسلطة فاشتبك مع الإخوان وحينها انتمى الثاني لهم وذهب إلى السجن باعتباره منهم.

رئاسة الجمهورية ومنصّة الإعدام

نلاحظ هنا خطين مليئين بالانحناءات السياسية والاجتماعية فمقابل الخط الذي أوصل عبد الناصر إلى رئاسة الجمهورية، وانعقاد لواء الزعامة المصرية والعربية له، كان خط حياة قطب مجموعة من الخيبات وجدت نهايتها في سجنه وإعدامه، وهي صورة درامية هائلة يتناظر فيها صعود عبد الناصر مع هبوط قطب إلى أقبية الاعتقال ومنصّة الإعدام (أو في السرديّة الجهادية: تجبّر الطاغوت مقابل ارتقاء الشهيد).
يبدأ خط قطب الطامح للصعود بالاهتزاز مع إحباطه من إمكانية تأسيس مكانة أدبيّة له ضمن دائرة النخبة الأدبية، وأدى تجاهل رعاته له، وأهمهم عباس محمود العقاد، إلى خلق مرارة وإحساس بالغضب، وهو ما تكرّر لاحقا مع مناصرته الشديدة لحركة الضباط الأحرار عام 1952، الذين تجاهلوا طموحاته إلى تولي منصب كبير رأى أنه يستحقه، كوزير للتربية أو الإعلام. جرى توقيت انضمام قطب للإخوان خلال لحظة غريبة، وهي فترة تصاعد الخلاف بين الإخوان و»الضباط الأحرار»، التي انعكست صراعا داخل الإخوان أنفسهم، حيث أيّد ثلث أعضاء الجماعة حركة عبد الناصر، وكذلك فعل ضباط «الجهاز الخاص» بمن فيهم قائدهم عبد الرحمن السندي.

يصل جرجس في واحدة من استنتاجاته إلى أنه لو استطاع «الضباط الأحرار» و»الإخوان» الوصول إلى تحالف لما كنا شهدنا تمأسس الدولة الأمنية العميقة التي يسيطر فيها الجيش على السلطة المطلقة، ولما شهدنا ظهور الحركات الجهادية المسلحة التي كانت السجون والتعذيب والمشانق مكان ولادتها.
تفرض هذه الوقائع ضرورة قراءة جديدة لتاريخ مصر والعالم العربيّ، وهي تسمح، كما أرى، بمراجعة كبيرة للتأويلات والاصطلاحات القارّة في حقول السياسة والأيديولوجيا.
أقترح، من جهتي، اعتبار «القوميّة العربية» أيديولوجيا قام «الضباط الأحرار» باستعارتها (أو تأليفها) على عجل من المشرق العربيّ، ولكنّها في السياق المصريّ لم تكن غير انشقاق على فكر «الإخوان»، وكذلك الأمر في ما يتعلّق بالأيديولوجيا «القطبية»، التي هي تجميع لأفكار ماركسية حول الثورة المسلحة والطليعة الثورية، والعداء للإمبريالية والاستعمار، تم تركيبها على فكر إسلامي.
لقد تم تلفيق الخطاب «القومي» كأيديولوجيا للبراغماتية السياسية التي سادت حياة عبد الناصر، وقسّم ذلك الخطاب العالم إلى ثنائيات: تقدم ورجعية، عدالة اجتماعية وظلم، ثورة جمهورية وملكية إقطاعية، وهي أفكار/مصطلحات نجد نظائرها لدى قطب في فترة ما قبل سجنه، وفي كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» (قبل أن تخضع تلك المصطلحات لتنقيح إسلامي تحت مسمّيات الجاهلية والحاكمية وغيرها). بهذا المعنى، فإن الإشكالية الكبرى بين ناصر وقطب، في هذا السياق، لم تكن أيديولوجية (بدليل لقائهما على تأييد الثورة) بل كانت صراعا على السلطة، وقد استخدم الاثنان «الإخوان» كمحمول اجتماعي لأفكارهما وصراعهما، وكان العنصر «الثوري» لديهما هو نظرية للاستبداد لقيت نهايتها الفيزيائية بالموت شنقا عام 1966 بالنسبة لقطب، وبوفاة عبد الناصر بسكتة قلبية عام 1970.
لقد انتصر الاثنان وانهزما معا: حصل عبد الناصر على السلطة والجماهيرية لكن السلطة كانت معطوبة بصراعه مع عبد الحكيم عامر، وانعطبت الجماهيرية بهزيمة 1967، كما حصل قطب على جمهوره الكبير وسلطته الرمزية التي كان الموت فيها خاتمة التراجيديا وبداية القداسة.
انتهت الناصريّة بوفاة مؤسسها عمليّا وتحوّل وارثوه إلى رؤساء بسلطات عسكريّة مطلقة لا تكترث كثيرا بالأيديولوجيا القوميّة العربية، أما «القطبية» فاستمرّ شبحها يهوّم، وتناسلت بطرق وأشكال عديدة عبر تنظيمات جهادية مسلحة تتغذى على مظلوميات لا تنتهي ونزوع مستمر نحو القتل والانتحار.
أما جماعة «الإخوان» فأصيبت، نتيجة هذا الصراع الرهيب، بإعاقات فكرية وسياسية كبرى لم تستطع أن تخرج منها حتى الآن، أما آثار هذا الصراع الفظيعة فما زالت تتفاعل في المنطقة العربية والعالم.

*كاتب من أسرة «القدس العربي»

لقراءة المقال من المصدر انقر هنا

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here