تقدم طرفة معروفة تبسيطا ظريفا للعلاقة بين القطة والكلب بالعلاقة مع البشر والألوهة، حيث يقول الكلب فيها للإنسان: «أنت ترعاني وتطعمني وتسكنني وتلبي طلباتي. لا بد أنك إله، فيما تقول القطة: أنت ترعاني وتطعمني وتسكنني وتلبي طلباني. لا بد أنني إله».
تظهر القطط في بعض لوحات الكهوف في جنوب أمريكا، تماهي البشر، وقد حضرت القطة في مجمع آلهة المصريين القدماء المؤلف من حيوانات كثيرة، باعتبارها الإلهة باستيت («بسة» وpussy cat باللهجات واللغات الحديثة) الوديعة، التي تتحوّل إلى الإلهة سخمت، اللبؤة المفترسة حين تغضب، كما حضر الكلب بصورة إله الموت أنوبيس، وهو إنسان برأس كلب، أو ابن آوى، حاملا مفتاح الحياة بيده اليمنى.
يحاول علماء في عدة حقول، فهم اللوحات الأولى التي طبعها الإنسان على الكهوف، وآخر الاكتشافات فيها واحدة وجدت في إندونيسيا وتعود لقرابة 45500 عام أو أكثر، لخنزير طلي بصبغة حمراء داكنة، يظهر كأنه ذكر بالغ، وتظهر بجانب الرسم بصمتان لليد، وكان قد عثر على لوحة أخرى في مكان قريب تصور مجموعة من البشر والحيوانات، كما اكتشفت لوحات في إسبانيا وفرنسا وأستراليا وعدة مناطق في افريقيا والهند وشمال وجنوب أمريكا، تظهر فيها الحيوانات الوحشية والثيران والخيل والغزلان.
يستمر التبادل الجدلي بين صور ومعاني الآلهة والحيوانات، فيعبد بنو إسرائيل بقرة ذهبية، ويوصف المسيح بأنه حمل الله، ويتم التبادل الإنساني مع الحيوان أحيانا عبر الأضحية، فيتم استبدال إسماعيل (وهنيبعل القرطاجي) بكباش، إلى أن نصل، في السردية المسيحية، إلى تحوّل الأضحية البشرية، بفدائها للبشر إلى إله.
يميل حضور الحيوانات في الأديان إلى تصور تراتبية تضع الإنسان على قمّة الهرم، ويتمتع الإنسان، في الهندوسية، وأديان أخرى، منها مذاهب باطنية ضمن البيئة الإسلامية التي تؤمن بالتقمص والتناسخ، بخاصيّة إعادة البعث، ويعكس انبعاثه في جسد حيوان معين هذه الهرمية، وبذلك فإن التراتب المحفوظ والمقدس موجود بين أنواع البشر وأنواع الحيوانات، أما في الديانات «الإبراهيمية» فإن البشر والحيوانات متساوون كونهم مخلوقات الله، وهناك واجبات وشروط دينية من الإنسان تجاهها، فالله أمر نوح بإنقاذ أجناس الحيوانات في سفينته، والحمل من أوصاف المسيح العديدة، وكائن البراق، الذي حمل النبي إلى المسجد الأقصى في السرديات الإسلامية، وهناك سور كاملة في القرآن بأسماء الحيوانات، كالبقرة والنمل والعنكبوت والنحل والفيل، ورغم أن الحيوانات في المنظومة الإسلامية سخرت لخدمة الإنسان، فهناك اعتقاد أنها تعبد الله، على الرغم من أنها لا تعبر عن ذلك بلغة البشر، ويُمنع على المسلم إيذاء الحيوان (الحديث النبوي الشهير عن سوق امرأة للنار بسبب هرّة آذتها).
من جلجامش إلى «مزرعة الحيوانات»
تصور ملحمة جلجامش أنكيدو، الإنسان الذي ربته الحيوانات، والذي كان صديقا لها ومعاديا للتمدن، وكان يخلص الحيوانات من فخاخ الصيادين، وفي حكاية «الحمار الذهبي» للكاتب الإغريقي القديم أبوليوس، يتحول بطل الحكاية، الذي يريد التعرف إلى أسرار السحر، إلى حمار ذهبي، كما تقدم «كليلة ودمنة» للمقفع علاقات البشر وصراعاتهم عبر شخصيات الحيوانات، وكذلك يفعل «منطق الطير» لفريد الدين العطار، وتتحدث القصة الفلسفية «حي بن يقظان» الطفل السرّي المولد الذي أرضعته ظبية، وقد تناوب على كتابتها ابن سينا والسهروردي وانتهت بصيغتها النهائية عند ابن طفيل، ويمكن اعتبار هذه القصة جذرا تاريخيا لروبنسون كروز و«كتاب الغابة» وحتى قصة طرزان الشهيرة، كما حضرت أفكارها الفلسفية في آثار لجون لوك وجان جاك روسو.
ازدهر الخيط الذي يشبك بين الإنسان والحيوان كثيرا مع ظهور فن الرواية الحديث، ولو تابعنا موضع القط والكلب فحسب، فسنجد عشرات المؤلفات التي أبطالها قطط وكلاب، مثل «بوس في الحذاء» لتشارلز بيرو، و«لوي منتصف الليل» لنيلسون دوغلاس، و«قطة» لإليزابيث كوتسوورث.
تعتبر رواية «مزرعة الحيوانات» التي نشرت في عام انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945) أيقونة في ديستوبيا الأدب السياسي، وعبر شخصياتها المؤلفة من الحيوانات، يقدم أورويل هجاء لاذعا لمنظومة الحكم الشيوعية خلال حكم جوزف ستالين، وهناك شخصيات عديدة في الآداب الحديثة تنطق فيها الحيوانات، كما هو حال بهيموث، في «السيد ومارغاريتا لميخائيل بولغاكوف، وبيتر الأحمر في «تقرير للأكاديمية» لفرانز كافكا، وتود في «الريح في الصفصاف» لكينيث غراهام وغيرها.
«موبي ديك» ملحمة أمريكا
تحضر أشكال العلاقة المعقدة بين الإنسان والحيوان في أعمال كثيرة أخرى، منها قصة البجعات البريات، التي تحوّل فيها الملكة أبناء زوجها الأمراء إلى بجعات بريات، وهناك سلسلة طويلة من الأعمال التي تصور بطولة الأحصنة، على سبيل المثال، وقد تحوّل أغلبها إلى أفلام، مثل «الحصان الأسود» لوولتر فارلي، و«المتحدث للأحصنة» لنيكولاس إيفانز، و«وداعا يا غولساري» لجنكيز أيتماتوف، التي تقدم تصويرا لأوضاع الاتحاد السوفييتي من وجهة نظر الحصان غولساري وصاحبه تاناباي، فيما تقدم رواية «التبر» لإبراهيم الكوني علاقة حميمة رائعة بين جمل وصاحبه. تقدّم أعمال أدبية وفنية أخرى الاشتباك التراجيدي، واصطراع المصائر، بين الإنسان والحيوان، وتعتبر رواية «موبي ديك» إحدى أشهر هذه الأمثلة، وتدور أحداث هذا الصراع بين حوت وإنسان، وقد بحث الناقد السوري خلدون الشمعة، في دلالات ابتدائها بجملة «اسمي إسماعيل» وهو الشخص الذي تبتدئ به الرواية، ويلتقي، مثل جلجامش، بإنسان متوحش، هو كويكويج البولونيزي صائد الحيتان، ليلتقيا بالقبطان أهاب الذي لديه رغبة بالانتقام من الحوت الذي قطع ساقه، ويعتبر النقاد أن «موبي ديك» هي ملحمة أمريكا نفسها.
سيعيد إرنست همنغواي، الكاتب الأمريكي الشهير، ثيمة الصراع بين الشيخ الصياد والسمكة، وتخوّله هذه الرواية، التي نالت جائزة نوبل، لإعادة موضعة ثيمة الصراع، وتصوير العلاقة البديعة التي تنشأ بين الصياد الكهل والسمكة التي اصطادها، والتي يخسرها لصالح أسماك القرش في النهاية. لا تكفّ العلاقة السحرية بين الإنسان والحيوان عن الظهور ضمن حيواتنا، وثقافاتنا، وأدابنا وأعمالنا الفنية، كما لا يكفّ الكتاب والفنانون والشعراء عن استلهامها، كما فعل محمود درويش، في استلهامه «منطق الطير» في قصيدته «الهدهد» حيث «الناس طيور لا تطير» وفي «يطير الحمام» التي تستعيد «نشيد الأناشيد» وتعيد صياغة صورة الحمام والعلاقات الإشكالية الإنسانية، بطريقة شعرية خالدة.
تختزن العلاقة المعقدة بين الإنسان والحيوان ربما، تاريخا عضويا قديما يذكر الإنسان بأصوله السحيقة، وإذا كانت هذه العلاقة بدأت بتصوير الحيوانات على الكهوف، سواء لدرء خطرها، أو لاستدراجها للصيد، أو كثيمة دينية وأسطورية، واستمرت مع أشكال الطوطم لدى القبائل البدائية، التي تؤمن بأن جد القبيلة دب أو ضبّ أو أسد، وتحوّلت في الأديان إلى إله، بطريقة واضحة، كما لدى الفراعنة والهندوس، أو بطريقة مبطنة، كما في أديان أخرى، ورغم القدرات الفتاكة الهائلة والمسيطرة للإنسان، فإننا سنظل متحيرين في هذه العلاقة، حين نرى حزبي أقوى أمّة في الأرض حاليا، يتنافسان تحت رايتي الحمار والفيل، ونرى، في الوقت نفسه، تكاثر الإنسان يخلي العالم من بقيّة كائنات الأرض من الحيوانات والأشجار، فيهدد كينونته نفسها.
*القدس العربي