يقترح ستيف بيترز البروفسور في علم النفس، في كتابه The Chimp Paradox «المفارقة القردية» تفسيرا جديدا مبسطا لفهم الدماغ البشري وطريقة اشتغاله. يقسم الكاتب «الدماغ النفسي» إلى ثلاثة أقسام: الجبهي، الحوفي (الداخلي) والخلفي، مقترحا لتبسيط وظائف هذه الأقسام تشبيهها بثلاثة عناصر: الإنسان، القرد، والكومبيوتر. رغم أن هذه الأقسام تحاول العمل معا فإنها تختلف كثيرا وتحاول كل وظيفة منها السيطرة على الأخريات، وفي الغالب فإن القرد منها ينتصر!
القرد، في الدماغ، هو الجهاز العاطفيّ، وهو يستطيع التصرّف واتخاذ قرارات بمفرده، وهي قرارات يمكن أن تكون مفيدة أو مدمرة للغاية. القرد في أدمغتنا، هو أهم أصدقائنا وأسوأ خصومنا. يعلم الناس، بالفطرة، بوجود هاتين الشخصيتين من الأفكار التي تتناهبنا والأفعال التي نقوم بها، رغم معرفتنا بأنها ستضرنا، وتؤكد ماسحات الدماغ، أيضا، هذه الظاهرة، فحين نفكر بهدوء وتعقل يتجه الدم إلى المنطقة الأمامية، حيث يفكر «الإنسان» وحين نكون عاطفيين ومحبطين يتجه الدم إلى المنطقة الداخلية لسلفه «القرد». منطقة «القرد» الدماغية هي جهاز التشغيل البدائي الذي ورثناه، ووظيفته هي البقاء للجيل التالي. «الإنسان» بهذا المعنى، هو إرث الحضارة التي ميزتنا عن الحيوانات. أما قسم «الكومبيوتر» فهو مخزن الأفكار والسلوكيات، التي قام القرد والإنسان للتصرف بها عندما تُطلب.
يقوم القرد بترجمة المعلومات عبر المشاعر والانطباعات ويتصرّف على أساسها مستخدما التخمين والافتراضات الحدسية والمخاوف البارانوية والآليات الدفاعية، ما يؤدي لردود فعل سيئة عموما.
يقوم «الإنسان» في المقابل، بترجمة المعطيات عبر البحث عن الحقائق والتأكد من صدقية المعلومات، ثم تنظيمها بطريقة منطقية ووضع خطة للتعامل معها. يفسر هذا النموذج لماذا نتساءل أحيانا عن سبب قيامنا بأفعال حمقاء، والجواب هو أن «القرد فينا هو الذي تصرّف وليس الإنسان».
تذكّر الفرضية السابقة بالتقسيم الثلاثي للنفس البشرية، الذي اقترحه سيغموند فرويد: الأنا والهو والأنا الأعلى، حيث تمثل الأنا شخصية المرء في حالتها المعتدلة بين الهو، الذي هو «الغرائز الحيوانية التي تشكل رغبتنا الجامحة» (الجانب البيولوجي) والأنا الأعلى الذي تمثله المبادئ والقيم الأخلاقية والاجتماعية (الجانب السوسيولوجي).
لماذا لم يفهم فرويد الخطر على حياته؟
يبدو اقتراح بيترز حول «مفارقة القرد» أكثر قدرة على تفسير بعض جوانب حياة فرويد من نظريته الخاصة، مثل عدم فهمه للخطر الذي تعرض له بعد سيطرة النازيين على السلطة في ألمانيا عام 1933، فرغم إحراقهم لكتبه، وضمهم للنمسا حيث يقيم (عام 1938) واعتقال الغستابو لابنته آنا، فإن عالم النفس الكبير رفض مغادرة فيينا، واحتاج الأمر لجهود صديقه إرنست جونز، وتدخل شخصيات سياسية مثل وزير الخارجية البريطاني لورد هاليفاكس، وحتى الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، والأميرة ماري بونابرت، والخضوع لابتزازات مالية من السلطات النازية، لتمكين فرويد من الهروب من النمسا، ولكي يدرك عالم النفس الأشهر الخطر الكبير على حياته وحياة عائلته!
تقدّم ميثولوجيات الحضارات القديمة في مصر وبلاد الرافدين والشام والإغريق، بأشكال متعددة، هذه العلاقة بين الإله والإنسان والوحش، فيتآخى جلجامش، ملك الوركاء الطاغية، مع أنكيدو، رجل الطبيعة البرّي الذي يريد وقف طغيانه، ثم يقتلان عشتار، الثور السماوي، فتقرر الآلهة إعدام إنكيدو، ليخلص الأمر بجلجامش الحزين على مقتل صديقه، إلى أن الموت هو مصير الكائنات الأرضية جميعها. لم يجمع المصريون القدماء الشخصيتين الإلهية (الإنسانية) والحيوانية، حسب، بل انتبهوا إلى طبيعتيها المختلفتين، فكانت لديهم آلهة مثل القطة «باستيت» رمز الخصوبة والأمومة، و»سيخمت» القطة الغاضبة والأم الأولى، وكان التمساح، هو رمز الإله أوزيريس، وكذلك رمز «ست» إله الشر.
يقدم كتاب «التحولات» لأوفيد مجموعة من الأساطير اليونانية والرومانية عن البشر الذين حولتهم الآلهة إلى حيوانات ونباتات، وكانت هناك عقائد في افريقيا ولدى الأمريكيين الأصليين، أن لكل شخص علاقة سحرية أو روحية بحيوان يمكن أن يعمل كوصي أو مصدر للحكمة والإلهام، ولعلّ فكرة الطوطم المقدس، الذي هو الحيوان الجد الأعلى لقبيلة أو مجموعة بشرية، هي إحدى تجلّيات هذه الفكرة، الذي يعطي هوية ومعنى للمجموعة البشرية التي تنتمي إليه.
قدّمت نظرية التطور الطبيعي، تشارلز داروين، في كتابه «أصل الأنواع» مناسبة لإعادة ترتيب هذا النقاش حول العلاقة بين الإنسان والمملكة الحيوانية وأزاحتها من عالم الميثولوجيا والأنثروبولوجيا والاجتماع وعلم النفس إلى علم الأحياء، عبر تبيان إن كل الكائنات الحية تنحدر من أسلاف مشتركة، ومن المفيد أن نذكر، في سياق هذه المقالة، أن لداروين كتابا عنوانه «التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان».
هل نشكر القرد ونحذر من الإنسان؟
هناك خلاف كبير ضمن الأوساط، الفلسفية والنفسية والأنثروبولوجية والاجتماعية وعلوم الدماغ والأعصاب، حول القضايا التي دشنها ظهور نظرية داروين للتطور، ومن ذلك، مثلا، استخدامها، بفضل تيارات سياسية كالنازية، من نظرية للتطور الطبيعي في علم الأحياء إلى نظرية سياسية عنصرية لتفسير «ارتقاء» أعراق في «سلم التطور» و»انحطاط» أخرى، وصولا إلى تقديم تبرير «علمي» للإبادة الجماعية.
بالعودة إلى مسألة العقل البشري، يقدم الباحثان روبرت أورنشتاين وبول إيرليش، في كتابهما «عقل جديد لعالم جديد» فكرة إشكالية ملخصها، أن الجهاز الذهني البشري أصبح عاجزا عن تفهم العالم الجديد، ولم يعد جهازنا العصبي، مع تزايد تعقيد الحياة المعاصرة، متلائما مع واقع عالمنا اليوم، وعلينا «تدريب أنفسنا لنتعامل مع المستقبل في عالم جديد يمتلئ بتهديدات لم يسبق للبشرية أن واجهت مثيلا لها».
يفتح كتاب «المفارقة القردية» مع ذلك، شجون هذا الموضوع الخطير، فقد تكون تلك النظرية التبسيطية مفيدة كدليل عمل للحياة الشخصية، حيث يمكننا أن ننسب الأفكار الهوجاء والأفعال الحمقاء لمنطقة في الدماغ يسيطر عليها أسلافنا البدائيون، لكن هل تصمد هذه الفرضية للتحليل التاريخي، وهل يمكن نسبة تطوّرنا الحضاريّ إلى «الإنسان» فينا، الذي يقوم باحتساب ردود الأفعال ويضع خططا «عقلانية» لمواجهتها؟ هل يمكن احتساب التطوّرات العلمية، والأحداث التاريخية الفاصلة (بما فيها المجازر الهائلة التي أبيدت فيها شعوب بأكملها) على «الإنسان» فينا أم على «القرد»؟ نظرة متفحصة للأحداث التاريخية الفاصلة في تاريخ الجنس البشري، تناقض، في ظني، هذا التقسيم، فمجمل المنجزات العلمية ارتبطت، إلى حد كبير، بخطط الغزو والتوسع والحروب، ويمكن الإشارة، ضمن سياق عصرنا الحديث، إلى دور الجيوش في تطوير الطائرات والصواريخ (التي قادت للوصول للقمر) والإنترنت (التي غيّرت الاجتماع والاقتصاد الإنساني بشكل غير مسبوق) والطاقة النووية، والطب والأدوية، فهل الحروب، والإبادات الجماعية، هي نتاج الإنسان، الذي هو الكائن الوحيد القادر على ارتكاب تلك الأفعال؟ أم الحيوان الذي لا يملك «ثقافة» القتل الجماعي؟
يمكن تلخيص الاستنتاج بسؤال مثل: هل يجب أن نشكر سلفنا «الوحش» القابع في أدمغتنا لأنه حافظ على بقاء النوع الذي تطوّرنا إليه؟ أم نحذر من «الإنسان» الذي يمكن، من خلال الأسلحة النووية والجرثومية والكيميائية التي طوّرها، أن يقضي على هذا النوع؟
*القدس العربي