من الأمور المذهلة حقا أن أحد علماء فرنسا، فرانسوا أراغو، أقنع البرلمان في جلسة عقدت عام 1839 لمناقشة اختراع التصوير الفوتوغرافي، بأهمية الاختراع، باستنهاض مشاعرهم القومية عبر الحديث عن «الفائدة الهائلة التي كان من الممكن أن نكسبها من الفوتوغرافيا أثناء الحملة على مصر».
مصوّر واحد، كما قال أراغو، «كان يكفي للقيام بالعمل الذي قام به أكثر من 160 عالما ورساما رافقوا جيش نابليون إلى مصر»، ولو كان التصوير الفوتوغرافي معروفا في عام 1798 (عام الحملة) «لكان عندنا اليوم صور دقيقة جدا لعدد غير قليل من الرسومات الفرعونية، التي حرم منها العالم المثقف نتيجة لجشع العرب».
تستحضر لحظة التدشين الرسمي الفرنسي للتصوير الفوتوغرافي هذه مصر كموقع خاص باستكشاف «العالم المثقف»، الذي تمثله فرنسا، لمصر التي هي عظمة التراث الماضي والآثار الفرعونية، التي يجلس المصريون الحاليون على أطلالها كطارئ أو هامش مزعج يجب إزاحته من الصورة، فيما يقوم «المتحضرون» بامتلاكها، بالحيازة المباشرة، عبر احتلال البلد، أو بالرسم والتوثيق والتوصيف بعين المحتلّ. تم تطبيق هذه الفكرة بعد 10 سنوات من جلسة البرلمان، من خلال مكسيم دوكامب، الذي جاء إلى مصر، برفقة الكاتب الشهير غوستاف فلوبير، عام 1849 حاصلا على موافقة وتمويل رسمي لمتابعة مشروع حملة نابليون، وكانت بدورها لحظة تأسيسية. كان لدى دوكامب مساعد مصري يدعى الحاج إسماعيل يستخدمه في الصور لإظهار حجم التماثيل الضخمة، حيث يقف المصري قرب التمثال لكشف الفرق الهائل والمهم بين تلك التحفة المعمارية والمصريين الذين يعيشون في أكنافها.
كاميرا لإطلاق الرصاص
بسبب بدائية التقنية آنذاك، كان يجب على الشخص أن يجمد مثل التمثال لدقائق طويلة حتى ينتهي التصوير. طريقة دوكامب في تثبيت إسماعيل كانت بإقناعه أن حركة منه كانت ستطلق رصاصة من آلة التصوير نحوه، وبذلك كان المساعد يتجمد رعبا، فيما المصور يضحك ساخرا من جهله، وفي السخرية اللاحقة لدو كامب من إسماعيل، تحضر مرة أخرى معادلة «العالم المثقف» و»العرب الجشعين».
يحلل ياسر علوان، في كتابه البديع «مرآة أم نافذة» هذه المعادلة، مشيرا إلى أن العلاقة بين دو كامب والحاج إسماعيل نسخت ملايين المرات مع الشعوب العربية والإفريقية والآسيوية، وكان أهم تجلياتها المؤسسة الضخمة المسماة «ناشيونال جيوغرافيك» التي تصور الطبيعة والآثار من دون وجود السكان. لقد تم، عبر هذه المعادلة، احتلال العالم والسيطرة عليه، من خلال رؤيته بعيون «ناشيونال جيوغرافيك»، ومصوري الغرب، ثم تبعهم في ذلك تلاميذ في مصر والعالم النامي، يقومون بالعمل نفسه بتقديم صور وبورتريهات للسياحة، ومع إعادة إنتاج الصور نفسها مرارا وتكرارا، سنة بعد سنة، وعقدا بعد عقد، ينتج تضليل مقصود، يتجاهل حياة الناس الحقيقيين، ويجعل مصر مجتمعا خفيّا وغير مرئي، وتعطي كثرة الصور الفوتوغرافية «نفوذا جبارا لمن يستخدمها بشكل مستمر مثل وسائل الإعلام، وشركات الدعاية فتصبح الصورة سلاحا في يد السلطات السياسية والاقتصادية».
ما تروح تصوّر الأهرام يا عم!
يتحدّث مؤلف «مرآة أم نافذة: كيف تفك شيفرة الصورة الفوتوغرافية» عن جهده المستمر للبحث عن الجمال لدى المصريين «غير المرئيين»، وإنجازاتهم الجمالية الخفيّة وغير المعترف بها، فيروي لنا قصص حب شفافة للجماليات الكامنة لدى مصريين بسطاء وفقراء، يشكّلون الصلة الفعلية بين الماضي والحاضر، ومنها قصة صورة قديمة التقطها مصور إيطالي عام 1880، وحيّرته عشرين سنة لأنه لم يفهم ما هي الأداة التي فيها حتى رأى مثيلا لها قرب مدرسة ومقبرة السلطان قايتباي، فكأن «كل خطوة مشيتها خلال هذه السنين كانت تقودني إلى قايتباي»، وإلى مجتمع «الحرايرية» الذين يستخدمون تلك الآلة منذ ألف عام في الخياطة والتطريز والسرما. ويشير الكاتب إلى ظاهرة عجيبة واجهته مع المصريين قائلا، إنه لا يمكنه حصر عدد المرات عبر 20 سنة التي قال له فيها أشخاص في مناطق شعبية مختلفة من القاهرة مثل، الوايلي وشبرا الخيمة ودار السلام والبساتين وحلوان «ما تروح تصور الأهرام يا عم»، وإذا كان ذلك يأخذ طابع المزاح والسخرية، فإنه في أحيان أخرى يتخذ سمة الجدية والاشمئزاز والعدوانية. وإذا كان التصوير الفوتوغرافي من وجهة نظر المجتمع غير مرتبط بالسياحة أو «بأكل العيش»، كالعمل مصورا في استوديو أو مصور أعراس أو مصورا في حديقة الحيوان، فلابد أن وراء تصويرك دافعا آخر مريبا.
تفسير علوان للمسألة يرتبط بما صنعته الحكومات المصرية منذ تأميم الإعلام عام 1956 واشتغالها على صناعة صورة لمصر مكونة أيضا (ويا للعجب) من «تاريخها العظيم»، وقد تم ربطه هذه المرة بسياسة النظام والدعاية المرافقة لها عن «المؤامرة الخارجية ضد مصر»، بحيث يشعر المواطن العادي بأنه يقوم بعمل «وطني» حين يمنع مصوّرا من تصوير أي شيء خارج الصورة الرسميّة المزوّقة (والمزيفة عمليا) عن الواقع. لقد احتكرت الدولة صناعة المعلومات والصورة لعقود طويلة، وقد كان عمل المصور، ولا يزال، أقرب للخيانة أو التجسس إذا كان أجنبيا منه للتوثيق أو للفن. ضروريّ، بهذا المعنى، أن يتم تأطير كل من يلتقط الصور خارج السياق السياحي، ومصانع إنتاج المعلومات الرسمية، كشخص مشبوه، لأنه يهدد احتكار الدولة ليست للمعلومات وحسب، بل كذلك لتفسير هذه المعلومات التي اشتغلت على تكريسها عشرات السنين. يخلص علوان إلى نتيجة خطيرة، وهي أن «مصانع المعلومات» الحكومية، احتكرت عيون المصريين، أكثر من 60 عاما، وقدمت يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع، وسنة بعد سنة، سلسلة من الصور المتكررة الموجهة نحو فكرة واحدة: كل ما نراه بعيوننا هو واقع لا يمكن تغييره!
«ما عندكش حاجة أنظف؟»
يذكر علوان حادثة طلب فيها من أحد أصحاب المطاعم العريقة، ممن «يدعمون» الفن، تعليق لافتة تحمل صورة لأحد عمّال صناعة «الحرير» ضمن إعلان عن معرض له فقال له: «ما عندكش حاجة أنظف؟». يشير هذا القول إلى ظاهرة أخرى غير ظاهرة النظر إلى المصوّر كعدوّ للشعب، كخائن، أو جاسوس أجنبي، وهي ظاهرة قد تكشف خللا (أو نقصا على الأقل) في تحليل الكاتب.
يكمن الخلل، في رأيي، في عدم كشف التشابه والعلاقة بين رؤيتي بونابرت وأراغو ودو كامب للمصريين، ورؤية النظام المصريّ، وكثير من المصريين من «العالم المثقف»، إلى باقي عموم المصريين الفقراء والمهمشين في الأحياء الفقيرة المعدمة، التي يرى فيها علوان جماليّات غير مرئية لدى الحاج إسماعيل وجمال السمكري ورجب الحرايري (وجموع الثائرين في 25 يناير/كانون الثاني 2011)، فيما يطالبه صاحب المطعم «الداعم للفن» أن يقدم له «حاجة أنظف»، وهم أنفسهم الذين تتضايق «كاتبة» مصريّة من الاهتمام بموت 22 منهم في حادثة تدهور قطار محطة مصر لأن «الغلابة متعاطفون مع الإخوان»، ولأن «الأغنياء الوطنيين الشرفاء أكثر شرفا من الفقراء الذين يكرهون الوطن ويتعاونون مع الإرهاب».
هناك علاقة واضحة بين نظرة المستشرق إلى المصريين، ونظرة الجنرال وضابط الاستخبارات أو النخبة الطبقية والسياسية والعسكرية في مصر لمن يفترض أن يكونوا مواطنيهم وشركاءهم في الماضي العظيم، والحاضر «غير العظيم»، أما المفارقة المؤلمة، فهي أن كثيرا من «الغلابة» والفقراء والمهمشين قد تقبّلوا تلك الثقافة التي تحتقرهم، وهم، حين يعتبرون المصوّر جاسوسا، يدافعون عن ضابط الاستخبارات الذي ورث رؤية المستشرق.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراءة المقال من المصدر انقر هنا