من الصعب على قارئ بيت شعر يقول: فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا، أن يفهم سبب الأذى الشديد الذي خلّفه هذا البيت على المهجو به، فرغم وجود «العشائر» و«القبائل» في البنى الاجتماعية والسياسية العربية حتى الآن، فإن بيت الشاعر الأموي جرير، الذي يعني طبعا تفاخر قبيلة على قبيلة أخرى بعناصر القوة/ الضعف والنفوذ/ المهانة إلخ، يبدو غير ذي معنى ما لم يوضع في سياقه التاريخي.
كان بنو كلاب، في السياق المذكور فيه البيت «علامة تجارية» كبرى لأنها القبيلة التي سادت على وسط الجزيرة العربية أواخر عصر ما قبل الإسلام، وهاجرت إلى سوريا بعد فتحها، وقاد زعيم منها، زفر بن الحارث الكلابي، ثورة القيسية (قبائل شمال الجزيرة العربية) ضد الخلافة الأموية.
وكان بنو كلب، من جهة أخرى، تعد من أقوى قبائل العصر الأموي، وساهمت سيطرتهم على الطرق المؤدية للشام، وصلاتهم الوثيقة بقريش، في تسهيل غزو الشام والعراق، واستطاع معاوية، الخليفة الأموي الأول، تمكين حكمه بسيوفهم، وتزوج ابنة أحد زعمائهم، بحدل الكلبي، وأنجب منها يزيد، وبهذا المعنى، فقد كانت كلب على خصومة مع قبيلة كلاب، الذين هيمنوا على سهوب شمال تدمر وحلب وحمص، ويفسّر سياق الصراع القبلي والسياسي هذا، ميل قبيلة كلاب للتشيّع، ومشاركتهم في تأسيس الدولتين الحمدانية والمرداسية، وجدير بالذكر، في عصرنا الحالي، أن حكام سوريا الحاليين، من عائلة الأسد، هم من عشيرة الكلبيين، إحدى العشائر الأربع الرئيسية في الطائفة العلوية.
يعتبر فرويد في كتابه «الطوطم والتابو» أن الكائن المقدس في القبائل البدائية، هو «دائما وأبدا حيوان، تدعي القبيلة أنها انحدرت منه» وأن الشعوب البدائية «تساوي الطوطم الحيوان بالأب» وفي حالة مرض نفسيّ لطفل عرضت عليه، يحلل فرويد مخاوف الأطفال من الحيوانات، باعتبار الحيوان بديلا من الأب، ويشير إلى كتاب عن «ديانة الساميين» لروبرتسون سميث، حيث يُقتل الطوطم، الأب، ثم يُناح عليه، ويعقب الحداد احتفال كبير، كما يعود إلى فرضية داروين، في أن الناس في الأصل كانوا يعيشون قبائل، كل منها تحت سيطرة رجل واحد قوي، عنيف، غيور، لا حد لسلطانه، يستأثر بجميع النساء (كما في عالم الغوريلا) وينتهي الأمر بقتل أبنائه له، ثم انتظامهم في قبيلة طوطمية تسعى لتجنب تكرار هذه الفعلة، والتماس نساء غريبات، وتكون «وليمة الطوطم إحياء لذكرى الفعلة الرهيبة التي نبع منها شعور الإنسان بالذنب (أو «الخطيئة الأولى») التي كانت مبدأ التنظيم الاجتماعي، والديانة، والقيود الأخلاقية».
لماذا سمى العرب أبناءهم بأسماء حيوانات؟
يحاول أحمد فوزي سالم، في مقالة له بعنوان، «طوطمية العرب: لماذا سمى العرب أبناءهم بأسماء حيوانات» تفنيد استنتاجات كتاب «ديانة الساميين» المذكور، الذي يقول إن العرب تشاركوا الطوطمية مع القبائل البدائية في أستراليا وافريقيا وأمريكا، رابطا ذلك بانتشار أسماء قبائل مثل أسد، ثعلب، جحش، جراد، قرد، حمامة وغيرها، ويشرح سالم في مقالته ما استجرّته هذه الفرضية من ردود عربية، كما فعل جرجي زيدان في «تاريخ التمدن الإسلامي» الذي اعتبر أن سميث «جعل الشاذ من المرويات قاعدة» وإرجاعه الحديث عن طوطمية القبائل العربية إلى السياق الفكري الغربي، الذي كان يجتهد في إثبات مبدأ الارتقاء وإرجاع كل شيء إلى الطبيعة، ويستتنج سالم في نهاية مقاله أن «بقاء بعض العائلات التي تنتسب لأسماء بعض الحيوانات، ثبت بالدليل القاطع أن لا علاقة له بالطوطمية، وليس هناك جذر ينتهي بنسب تلك العائلات للحيوان المسماة باسمه حسب زعم بعض المستشرقين».
تضرب فكرة ربط الطوطمية بالعرب، وتشبيه قبائلهم القديمة بالقبائل البدائية للقارات الأخرى على عصب مكهرب معاد للغرب في مختلف المدارس السياسية العربية، لكن هذا لا يمنع من رؤية جذر استشراقي في هذ الربط، يضع خطاً سميكا بين أوروبا والغرب (كمفاهيم ثقافية حديثة) وبقية تاريخ العالم وتحضره وعمرانه. ومقابل النقد العنيف الذي تلقاه المدارس السياسية العربية وتجاربها البائسة في الحكم، فهناك اتجاهات عديدة غربية في مختلف العلوم، مع ذلك، تحاول تفكيك هذا الخطاب الثقافي، في التاريخ، كما في الأنثروبولوجيا وعلم النفس وغيرها.
من الأعمال الغربية اللافتة في هذا المجال كتاب لسارة دير وليز مورفي بعنوان: «عسى أن تشفق علينا الحيوانات» يستخدم تلك الاعتقادات القبلية لمواجهة الإساءة للحيوانات والعنف ضد البشر، ضمن «القبائل الأمم» كما يسمّي الشعوب والحضارات الحديثة، وخصوصا الغربية منها، وبعد تأكيد الأهمية الرمزية الكبيرة للحيوان في معتقدات القبائل القديمة، وأنه مع اصطدام الاستعمار الغربي بمجتمعات تلك القبائل، تراجعت العلاقة مع الحيوانات، لأن مفهوم الكولونيالية الأوروبية للعلاقة مع الحيوانات كان مختلفا بشكل جذري، من كون الحيوان مساويا للإنسان في معتقدات تلك المجتمعات، إلى كونه خاضعا (وكذلك الطبيعة كلها) بشكل مطلق لسيطرة الإنسان، وحسب هذا الكتاب فإن مفهوم السيطرة الغربي هذا (أو اليهودي ـ مسيحي كما يزعم الكتاب) تمدد ليشمل البشر، خصوصا النساء والأطفال.
قرد على ظهر كلب
ما تزال العلاقة بين أسماء القبائل العربية والحيوانات حاضرة، وأمثلتها كثيرة، بدءا من قبيلة عنزة (ومن بطونها في العراق الصقور) وهناك عشائر على امتداد المنطقة العربية بأسماء عجل، والجحيش، وبوحمير، وليث، وأسد، وكليب، وكلب، وجاموس، والبوفهد، والخنيفس، والبقارة، وأولاد خروف، والقطعان وغيرها.
تشير هذه الأسماء إلى تقليد بشريّ مستمرّ لا يمكن اختصاره بمعتقدات «القبائل القديمة المتوحشة» كما تقول السردية الاستشراقية، وإذا لم تكن الآراء العربية المبسطة (التي تتحدث عن تسمية القبائل العربية لأبنائها بأسماء الحيوانات لحراستهم من الشر أو للتفاؤل) كافية لشرح هذه الظاهرة، فكذلك لا يمكن تفسيرها بنظرية «الطوطمية» وامتداداتها الفرويدية الموسعة، التي يختلط فيها تحليل الأمراض النفسية ومدارس الاستشراق الأنثروبولوجية بالأدب (ويمكن اعتبار فرويد، بالمناسبة، أديبا وناقدا أدبيا، وليس مؤسسا للتحليل النفسي فحسب، وقد نال عام 1930 جائزة غوته للأدب عن مقالة له بعنوان «الزوال»).
يعطي نقد «الرؤية الغربية للعالم» (ونقد الاستشراق والغرب عموما) راحة نفسيّة لـ«الإنسان المقهور» (على حد تعبير مصطفى حجازي في كتابه الشهير) لكنّه لا يُفترض أن يُعمينا عن حال الحيوانات في العالم الذي انتقلنا فيه من عالم القبائل العربية «القديمة» إلى عالم «الدولة الحديثة» مع منهاجها المعلوم للسيطرة المطلقة على كل ما يتحرّك حتى خارج الجغرافيا التي تسيطر عليها.
أود اختصار هذا الموضوع بعرض الطريقة التي تستخدم رواية «البلدة الأخرى» لإبراهيم عبد المجيد طريقة التعامل مع الحيوانات في بلد عربي، كاستعارة كبرى عن كل ما يجري في تلك الدولة. يشير بطل الرواية إلى كلب أبيض ضخم مثل الحمار الشارد يراه في طريق تبوك، ويقول لنفسه «لابد أنهم يقتلون الكلاب في المدن والصحارى معا» وفي مشهد آخر يعرض الراوي مشهد قرد يفر من صاحبه الذي يطارده بطريقة تشبه التعذيب. يسأل بطل الرواية نفسه: لماذا منذ أتيت إلى هذه البلدة لم أر طيرا واحدا في السماء؟ بلد بلا طيور. كيف ذلك؟» ومع نهاية الرواية يشاهد الراوي «الكلب الأبيض الضخم مثل الحمار الشارد يجري بسرعة، وفوق ظهره شيء أسود اتضحت صورته، وأنا أفتح عيني على اتساعها. إنه قرد، ذلك الذي يركب الكلب المسكين الذي لا يتوقف عن الجري بسرعة مذهلة».
*القدس العربي