حسام الدين محمد: لو تنبّأ المتنبي بما سيفعل به الشعراء العرب!

0

وُصف المتنبي (المولود في الكوفة عام 915 ميلادي) في عصره بأنه كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، لكننا لا ندري إن كان أبو الطيب قد «تنبّأ» بالأثر الخطير الذي سيكون له على كل الشعراء العرب اللاحقين عليه.
والحقيقة أن الشعراء لم يكونوا وحدهم في هذا الانشغال بالمتنبي، فهناك آثار أدبيّة كبيرة مهمة حول ألغاز حياته وشعره، شارك فيها نقاد كبار ومستشرقون وكتاب للدراما والسرد إلخ. ويشير عادل الأسطة في مقالة له إلى كتاب لخالد الكركي خصصه لصورة المتنبي في الشعر العربي الحديث، كما يشير إلى التناقضات بين المدح والذم للمتنبي، مستشهدا، على سبيل المثال بقصة لزكريا تامر بعنوان «نبوءة كافور الإخشيدي» تجعل من الشاعر أضحوكة، وبكتاب لمحمد شرارة يرفع المتنبي «إلى مرتبة الأبطال».
يرتبط أثر المتنبي الكبير بالتأكيد بفذاذة شعره وفرادته وعبقريته، ولكنّه يتعلّق أيضاً بالفتنة التي تمثّلها أحداث الحياة القصيرة نسبيّا التي عاشها (50 عاما) والتي امتلأت بالتقلّبات الحادّة من بلاط ملكيّ إلى آخر، في عصر خطير شهد تفكك الخلافة العباسية وظهور الدول ـ الإمارات، وانتشار الحركات السرّية الإسماعيلية والقرمطية، لتنتهي بشكل مأساوي بمقتله مع ابنيه على يد أحد من هجاهم (بقصيدة مقذعة يبدأها ببيت: ما أنصف القوم ضبّة وأمه الطرطبّة).
يبدأ الإغواء من لقب المتنبّي نفسه، الذي قدّمت فيه شروحات كثيرة. من أجمل ما قرأته منها بحث للمستعرب الألماني ولفهارد هاينريش عنوانه «لغز المتنبي الكبير» ويورد فيه عدة روايات حول الشاعر يقول في إحداها على لسانه إن تنبؤه «شيء كان في الحداثة أوجبته صبوة»، ويزعم في أخرى أن اللقب جاءه من بيت من أوائل شعره يقول فيه: أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود (وكان الأولى أن يستخدم بيته الآخر الذي يشبّه فيه نفسه بالمسيح بين اليهود).

يورد هاينريش معلومة مقتبسة من شاعر معاصر للمتنبي (الوحيد البغدادي) تقول إنه ادعى النبوة في مقاطعة جبلة واللاذقية، بين بداة بني القسيس وكتب لأولادهم مصحفا، وهناك رواية أخرى للمستشرق الفرنسي بلاشير تؤكد قصة انجذاب المتنبي للاذقية في دعم لقصة نبوّة المتنبي في تلك المرحلة التاريخية (بين 933 و936 ميلادية) حيث قاد الشاعر تمردا لبدو قبيلة كلب اعتقل على إثره لسنتين، وهذه الحكاية ترخي ظلالا على المتنبي بأنه كان قرمطيّا أو علويّا، أو من غلاة الشيعة قبل توبته وإطلاق سراحه، وهذه المعلومات كان قد ذكر ما يشبهها الأستاذ الجليل محمود شاكر في كتابه «المتنبي» الصادر في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكنّه يؤكّد فيه على علوية المتنبي، بمعنى الانتماء لآل البيت وشيعتهم، وليس للغلاة منهم (ويكتشف فيه أن المتنبي كان عاشقا لخولة أخت سيف الدولة الحمداني).
يصعب حقّاً استحضار طيف المتنبي من دون استحضار فكرة التمرّد الكبير هذه، وسواء صحّت قصة قيادته عصيانا وإعلان نبوّته، أم لم تثبت، فالمؤكد أن تمرّده استمرّ في حياته اللاحقة متجسدا في فراره من بلاط سيف الدولة في حلب، وكافور الإخشيدي في مصر، لينتهي في بلاط عضد الدولة البويهي في شيراز قبل وفاته بفترة قصيرة.
نماذج استحضار هذا التمرّد ووضع كثير من الشعراء العرب أنفسهم في موضع المتنبي، أو تقليده في مواقفه «السياسية» أو انقلاباته على الأمراء والملوك الذين خدم في بلاطهم، كثيرة، ولكنّ أكثرها محاولة لتقمّصه جاءت على يد الشاعر السوري أدونيس، وفي أكثر الطرق جلاء، فقد لبس أدونيس «قناع» المتنبي ولسانه في كتاب سمّاه «الكتاب» بكل ما في هذا العنوان من تلبّس للألوهة أو النبوّة، متقصّداً، على الأغلب، متابعة «الخطّة» التمرّدية التي اختطّها المتنبي فكان «الكتاب» هجاء فظيعاً للتاريخ العربي ـ الإسلاميّ برمّته.
تختلف قصيدة «رحلة المتنبي إلى مصر» لمحمود درويش عن أدونيس في طريقة تمثّل الشاعر الحديث لموروث سلفه العظيم، فقد استخدم درويش رحلة المتنبي الشهيرة وخصامه مع كافور لهجاء مرحلة الرئيس المصري الراحل أنور السادات وإذا كان لم يفلت، هو أيضاً، فكرة التمرّد الديني/السياسي حين يقول: «والقرمطيّ أنا. ولكن الرفاق هناك في حلب/ أضاعوني وضاعوا/ والروم حول الضاد ينتشرون/ والقراء تحت الضاد ينتحبون)، لكن التشابهات العامّة هذه لا تموّه الاختلاف الكبير بين منظوري درويش وأدونيس في تمثّل تمرّد المتنبي في تجربتيهما الشعريتين والسياسيتين.
غير أن غواية المتنبي وميراثه الباهظ في مخيال الشعراء العرب وأفئدتهم، تحوّلت أحياناً إلى شكل من أشكال «العُظام» و»البارانويا» فصار تقليده، بغض النظر عن الظروف، أمراً متكلّفا وخارجاً عن المنطق. يذكر الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مذكراته، حادثة معبّرة عن هذا الأمر، حين يذكر أن الملك فيصل الأول قام بتقريبه وأسكنه حتى في غرفة من غرف قصره، لكنّ غواية التمرّد التي اختطّها المتنبي وزرعها في روع الشعراء غلبت الجواهري، فقام بتدبيج قصيدة يهجو فيها الملك من دون سبب مفيد، ورغم ذلك فقد تقبّل الملك، في ذلك الحين، الأمر، وهو شيء يحسب تاريخيا لذلك الملك، الذي لقي حفيده فيصل الثاني مصرعه وأسرته في انقلاب يوليو/تموز العسكري عام 1958 الذي أطاح بالملكية.
عكس تمثّل الشعراء العرب لقناع المتنبي أشكالاً متنوّعة بتنوّع اتجاهات أصحابها السياسية والدينية وأهوائهم، ولكنّ غواية الشاعر وسطوته الرمزية واستخدام الرأسمال الرمزي لاسمه، كان يأخذ لدى بعضهم مآخذ عجيبة أحيانا، كما هو حال أدونيس في «الكتاب»، الذي استخدم صوت المتنبي ليظهر أن التاريخ الإسلامي لم يكن غير منصة للذبح والقتل والتعذيب، ومن ذلك أيضاً كتاب الناقد كمال أبو ديب الشعري: «عذابات المتنبي في صحبة كمال أبو ديب»، ففيه تمحّل واصطناع كبيران.
لقد أخذ تأويل صوت المتنبي ببعض الشعراء إلى تقليد سلوكياته جاعلين إياها نزوعا عُظاميا وحالة عبثية من «الثورة الدائمة». لقد صارت سيرة المتنبي لدى جزء كبير من الشعراء العرب هاجسا استحواذيا، يُنزل المتنبي وحياته وأفعاله منزلا سلفيّا للتقليد والتصنّع وليس فقط للاستلهام والتمثل.

المصدر : القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here