تطرح حقيقة أن ثلاثة من الأئمة الأربعة المؤسسين للمذاهب الإسلامية «السنّية» انحازوا لثورات زعماء علويين (من آل بيت النبي محمد) ضد خلفاء أمويين وعباسيين، مفارقة دينية ـ سياسية تاريخية كبرى، تخلخل سرديّات الصراع السنّي ـ الشيعي بأكملها، إضافة لكونها تفتح الباب واسعا لقراءات مختلفة للتاريخ العربي ـ الإسلامي القديم والمعاصر.
عاش الأئمة الأربعة، أبو حنيفة، مالك بن أنس، الشافعي، وابن حنبل في ظروف سياسيّة خطيرة، وشهدوا انقلابات هائلة وأشكالا من الصراع الدمويّ العنيف، بين الأمويين والعباسيين والعلويين والخوارج، لكنّهم عاشوا أيضاً في عصر التدوين واختلاط الثقافات والأعراق والملل، وشاركوا في تأصيل ومأسسة الفقه والحديث، ولكن أهم معاركهم كانت، في رأيي، هي معركة استقلال الفقيه عن الخليفة، ونال كل واحد منهم محنته الكبيرة على ذلك. تعكس الجذور الإثنية والجغرافية والثقافية للأئمة، الحركة الهائلة للقوميّات والأديان والأفكار، التي أدى لها ظهور الدولة الإسلامية، فأبو حنيفة، المولود في الكوفة عام 80 للهجرة (699 ميلادية) هو من أب فارسي اللغة من أهل كابل في أفغانستان الحالية، أما مالك بن أنس فوالداه من اليمن، والشافعي من مواليد غزة في فلسطين وأبوه قرشيّ مطّلبي وأمه يمنيّة أزديّة (مثل أم مالك)، وأحمد بن حنبل عربيّ شيباني وكانت أمّه حاملا به في مرو (وسط آسيا) قبل أن تعود لتلده في بغداد.
الإمامة للأحرار
تتقارب آراء الأئمة الأربعة في موضوع الخلافة (مع بعض الاختلافات)، فيرى أبو حنيفة، أن الخلافة تتم بانتخاب سابق من المؤمنين، وببيعة كاملة، فالخلافة عنده ليست بوصاية، ولا يكون خليفة من يفرض نفسه على المسلمين حتى لو خضعوا له بعد ذلك، أو ارتضوه، فالخلافة إنما تكون باختيار حرّ سابق على تولي الحكم، وكان مالك يرى أن الخلافة لا تنعقد لأحد إلا بمبايعة حرة من المسلمين، أما الشافعي (متأثرا بنسبه القرشيّ) فرأى أن الإمامة يجب أن تكون في قريش حصرا، ولكنه أفتى أيضا بضرورة أن يجتمع الناس على ولاية الإمام، وبالنسبة لابن حنبل فرأى أن الإمامة (الخلافة) تكون بالرضا السابق على التولية، ولكنه رأى أيضا أن «الخروج على الخليفة بغي وشق لوحدة الجماعة»، لكن موقفه من الحكام كان سلبيا.
الهوى العلويّ
كان أبو حنيفة الملقب بـ»الإمام الأعظم» (ومنه استمدّت منطقة الأعظمية في بغداد حيث ضريحه اسمها)، يلتقي بعلماء مكة والمدينة من المدارس المختلفة، ومنـــها مدرستا زيد بن علي (إمام الزيدية) وجعفر الصادق (الذي ينسب مذهــــب الشـــيعة الإثنا عشرية إليه)، وعندما خرج زيد بن عليّ على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، رأى أبو حنيفة أن «الثورة على ملك الأمويين أمر جائز شرعا، إذا كانت الثورة من إمام عادل مثل زيد بن علي»، واعتبر أنه «ضاهى خروج رسول الله يوم بدر» وبعث إليه بعشرة آلاف درهم، وفعل ذلك لاحقا بعد اشتباك العباسيين، الحكام الجدد الذين بايعهم «بيعة غامضة» (مشروطة)، مع العلويين مجددا مجهرا بمناصرة محمد النفس الزكيّة. أما الإمام مالك بن أنس، فقد أفتى لأهل المدينة بمبايعة الإمام العلوي الثائر نفسه، كما أنه كان يرى أن معاوية وأصحابه كانوا هم الفئة الباغية في موقفهم من علي بن أبي طالب، أما بن حنبل فكان يشتد في الدفاع عن عليّ فيرى أن «الخلافة لم تزين عليا، بل عليّ زيّنها»، وكان جدّه واليا للأمويين على خراسان لكنه انضم للعباسيين.
محن الأئمة
كان أبو حنيفة تاجر حرير، أما مالك فمرّت عليه أوقات شدّة فكانت ابنته تبكي من الجوع أحيانا، لكنّه لم يتعفّف، كما فعل أبو حنيفة عن مال الخلفاء فعاش بعدها في يسار، وعاش بن حنبل والشافعي يتيمين، وقد آثر بن حنبل الفقر على مال الخلافة أو مسؤولياتها، وكان الشافعي أيضـــا من أسرة فقيرة.
حبس المنصور أبا حنيفة للمرة الثانية بعد رفضه تولّي القضاء في العراق، واستمرت محنته حتى توفّي عام 150 هجرية واختلف إن كان موته من التعذيب أم من سمّ دس إليه خلال سجنه أو في منزله. تعرض مالك لمحنة مشابهة على خلفية ثورة النفس الزكية، فحُبس وعذب، أما محنة الشافعيّ فكانت أيضا اعتقاله بتهم تأييده العلويين، حين قام والي اليمن بالوشاية به إلى الخليفة هارون الرشيد، فأرسل مع تسعة علويين قُتلوا كلهم وقد نجا الشافعيّ من الموت، عمليّا، بإعلان معارضته للعلويين، أما المحنة الثانية فكانت لقيام بعض المتطرّفين لمذهب مالك بضربه فحمل إلى منزله ومات فيه، وكانت محنة بن حنبل، كما هو معلوم، لمحاولة المأمون، وبعده المعتصم إلزامه بإقرار أمر دينيّ بقرار سياسي.
خلاصات
أعلن ثلاثة من الأئمة الأربعة صراحة تعاطفا جريئا مع ثورات لشخصيات سياسية ـ دينية من آل البيت العلويين ضد خلفاء أمويين وعباسيين، كانوا يقمعون هذا التوجّه بشدّة، وإذا علمنا أن أحدهم، وهو مالك بن أنس، لم يكن يميل إلى العلويين، ولا يعد من الخلفاء بعد الرسول سوى أبي بكر وعمر وعثمان، فكيف نفسّر فتواه الخطيرة التي كان يمكن أن تودي به إلى القتل؟ وكيف نفسّر موقف بن حنبل الذي يعتبر الخروج على الخليفة بغي وشقّ لوحدة الجماعة، ثم يدخل السجن ويتحمّل العذاب الرهيب لرفضه أمر ثلاثة خلفاء له الإقرار بأن «القرآن مخلوق»؟ لديّ اقتراحان متضافران لتفسير موقف مالك: الأوّل هو انتصاره لإمام يرفع راية الدين على حاكم «دنيوي» أخذ الولاية بالقوة، أي هو انحياز للقداسة الدينية، والثاني انحيازه على أساس قبليّ وجغرافي (كون الثائر من «سلالة النبي» ومن أهل المدينة المنوّرة).
تعفف أبو حنيفة وبن حنبل تعففا شديداً عن قبول وظائف وعطايا الخلفاء وهداياهم، وقد نالهما من ذلك أذى شديد، ولم يمانع مالك والشافعيّ في ذلك، ومع ذلك فقد تعرّضوا جميعاً لأشكال من بطش السلطة، وقد تركت هذه المحن آثارها على الأشخاص وعلى آرائهم السياسية والفقهية، فشهدنا مسارا هابطاً كان فيه للرأي والعقل والمصالح المرسلة دور كبير عند أبو حنيفة ومالك، نزولا مع بن حنبل إلى موقف اتباعيّ وسلفيّ جامد، صار لاحقا أصلاً، له وزن قداسة الدين نفسه، واستخدم في التنظير لحركات سياسية سلفيّة متشددة، والأسوأ من ذلك، أنها اعتنقت «مذهب» الدفاع عن الحاكم وصارت تقاتل في ركابه، في تجاهل للدروس والمحن التي تعرض لها أصحاب تلك المذاهب مع الحكام. كمنت بؤرة الصراع بين الأئمة والخلفاء في أن هذه الشجرة الباسقة للدولة الإمبراطورية الإسلامية جاءت من بذرة القداسة أصلا، ومن تنازع الخلفاء والأئمة على هذه القداسة، التي ما أن تنتقص حتى تفقد السياسة شرعيتها، أو تفقد القداسة قدرتها على التكيّف، ويصبح العنف الفائض للخلفاء تجاه الأئمة هو محاولتهم لحل هذه الإشكالية التي لا حل لها.
السؤال المؤرق الآن، وقد زالت الحضارة والامبراطورية وبقيت الدولة الوحشية: هل نحن عالقون في هذه الدائرة إلى الأبد؟
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»
لقراءة المقال من المصدر انقر هنا