حسام الدين محمد: لماذا اختلف المثقفون على قبر صالح علماني؟

0

يخض الموت الأحياء، فهو يذكرهم بواقعة فنائهم الحتمي، ويدفعهم إلى استذكار الشخص الراحل وتقييمه بالنسبة إليهم، مع ميل، في ثقافتنا العربية، إلى التفتيش عن محاسن الراحل ونسيان معايبه، حسب مقولة «اذكروا فضائل موتاكم»، فجلالة الموت تقتضي الترفع عن الذم والنقد.
أما والراحل شخصية معروفة، مثل المترجم صالح علماني، فقد انقسم الناعون له، وبينهم كثير من المثقفين، بين طرف مذكر بالصرح الكبير الذي بناه (ترجم علماني 99 كتابا)، وبالشخصية الإنسانية اللطيفة التي كانها، وطرف مستنكر لمواقف سياسية يعتبرها متهافتة، ومواقف شخصية يراها مسيئة، فنكون هناك أمام حالة ثقافية تستحق التحليل، كونها تكشف لنا أولويات البشر وقراءاتهم، المتناقضة أحيانا بشكل مذهل، لقضايا ثقافية وسياسية وشخصية.
قرأت مقالات عديدة وتداعيات كثيرة نشرت على صفحات مثقفين فلسطينيين وسوريين وعربٍ، قام أغلبها بتحليل «ظاهرة علماني»، ومنها مقالة للمترجمة الأردنية تقوى مساعدة، التي لخصت قصة حياتها في أربعة كتب ترجمها علماني، «الحب في زمن الكوليرا»، «مئة عام من العزلة» (لغابرييل غارسيا ماركيز)، «باولا» و «أيفالونا» (لإيزابيل الليندي)، التي ساهم أحدها في قرار مصيري أن تكون مترجمة هي أيضا. قررت ترجمات علماني إذن مسار تقوى، «ثم جاءت سوريا»، كما تقول في مقالتها «نظرية موت المترجم»، واختار «المترجم الذي نقل لنا قصة نضالات أمريكا اللاتينية وثوراتها ورؤسائها الديكتاتوريين، عندما اندلعت الثورة في مدينته وشارعه، أن يقول كلمة في صف الديكتاتور».
أما حسام جزماتي، في مقالته «حين قرر المترجم أن يخون»، فيكتشف مفارقة كبرى في المترجم الشهير يلخصها على الطريقة التالية: يلقي علماني على جزماتي، ضمن مجموعة من الطلاب، مرافعة تزلزل الروح للفيلسوف والشاعر الإسباني أونامونو حين وقف في احتفال رسمي عام 1936 في إسبانيا الحرب الأهلية فانتقد الموجودين على مدرج الجامعة، وأغلبهم مقاتلون شبان وفاشيون متحمسون في حضرة أحد أكثر جنرالات فرانكو دموية وتحداهم قائلا «إنكم ستنتصرون لأنكم تملكون كتلة هائلة من القوة الغاشمة، لكنكم لن تتمكنوا من الإقناع»، ثم يواجه جزماتي هذا الموقف الهائل الشجاعة المستشهد به لأونامونو بمواقف المترجم من النظام السوري، الذي فاق وحشية الفاشيين الإسبان، كما يذكرنا بتصريح شهير نسب لعلماني قال فيه: «لم يعرف التاريخ منتصرا أرحم من الجيش العربي السوري»!

لست ذبابة تحط على عسل!

يرصد جزماتي أيضا مواقف علماني الشخصية، والمتناقضة حتى مع آرائه السياسية المعلنة، حيث سيقبل جائزة ترجمة من الإمارات عام 2012، ثم من السعودية عام 2015، ثم من قطر عام 2016، وهي الدول التي يعتبرها «مشاركة في المؤامرة الكونية» ضد نظام بشار الأسد الممانع والمقاوم، ولكنه يرفض في المقابل جائزة من وزارة الثقافة الفلسطينية، فيخاطب المسؤولين الفلسطينيين باحتقار: «لا أريد جائزتكم، وسأبصق عليها إذا منحتموني إياها. لست ذبابة مثلكم تحط على عسل».
في مقالة ثالثة، تحت عنوان «رحيل «الكولونيل» صالح علماني» (في إشارة إلى رواية ماركيز التي كانت أول ترجماته)، يورد عارف حمزة بدوره معلومات إضافية عن أثر ترجمات علماني في الثقافة العربية، ويذكر جوائز عديدة أخرى عديدة حصل عليها كجائزة اتحاد الكتاب العرب في طنجة وأبو ظبي عام 2015، وجوائز إسبانية منها «جيرار دي كريمونا»، كما يضيف، في دفة الميزان المقابلة، اتهامات له، منها أنه عمل عندما كان عضوا في لجنة تحكيم «بوكر العربية للرواية» لعام 2017 على إقناع بقية المحكمين باستبعاد أعمال أيدت الثورة السورية. تنتبه تقارير صحافية أيضا إلى هذه التناقضات الهائلة في سياسة وشخصية علماني، فيشير أحدها لتخصصه في الأدب الأمريكي اللاتيني، وفضله في ترجمة عشرات الروايات، لكنه يشير أيضا إلى علاقاته ببعض دور النشر ساءت في سنواته الأخيرة «لأنه كان يبيع الترجمة الواحدة لأكثر من دار»، كما يذكر أيضا مديحه لوليد المعلم (وزير خارجية النظام السوري)، وشتمه القطريين ثم استلامه جائزة مالية منهم، ولعنه السعوديين «وإظهار سروره في مقابلاتهم».
تحضر في هذه المقالات مفارقة كبرى «مزلزلة» فعلا وتزداد هذه المفارقة تعقيدا حين نجد بداية صدع بين منظومتين ثقافيتين ينتمي إليهما المترجم، فينشر الشاعر والكاتب الفلسطيني محمد هديب على صفحته في «فيسبوك» رثاء جميلا أقرب ما يكون لقصيدة شعرية، متذكرا ذكريات جميلة مع الراحل الذي هو «رجل حيي ومزاج غاضب ودمعة قريبة»، ومع تلميح واضح لاختلافه مع ناقديه يقول: «أما الترجمات الهائلة التي قدمها لنا رجل واحد، فهي التي يجمع عليها العرب، حتى هبايل الفيسبوك لا يجرؤون على إنكار هذا الصرح». أما الكاتب والإعلامي الفلسطيني معن البياري فيقول: «كنت أراه المترجم الشغيل، الذواق الأديب. لم أحب أن أرى فيه أي شأن آخر… رحمه الله»..

لا تخذلوا معنى فلسطين

وفي ما يشبه الرد على الموقف الذي يرى إلى علماني باعتباره «الصرح الذي لا يمكن إنكاره» يقول الشاعر الفلسطيني نائل بلعاوي، إن علماني «أنهى حياته في مطرح أخلاقي وثقافي وجمالي شديد البؤس» وإن: «الموت حق ولكن السقوط الأخلاقي حكاية أخرى تماما»، أما الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي فيرد بشكل غير مباشر باستعادة تصريح سابق له موجه إلى «مثقفين فلسطينيين» يقول: «لا يمكن لضحايا الظلم والإلغاء والتسلط أن يقفوا ضد ضحايا مثلهم»، «فلسطين هي معنى للحرية والعدالة والكرامة فلا تخذلوا هذا المعنى».
أما الكاتب السوري عبد الرحمن حلاق فقال: «صياغة الخبر كما يجب أن تكون: بمباركة من أدونيس، نزيه أبو عفش، ثائر ديب، صالح علماني قام طيران نظام الأسد بارتكاب مجزرة في سوق الخضار في مدينة أبي العلاء المعري»، ويضع القاص والروائي السوري إسلام أبو شكير المعادلة بالطريقة التالية: «لا نتحدث عن سياسة ولا وجهات نظر، بل عن ملايين قتلوا وشردوا وعذبوا وطوردوا… ملايين لم يتح لهم أن يستمتعوا بأدب أمريكا اللاتينية العظيم وترجماته العظيمة». وفي منزلة بين المنزلتين، يحاول الأكاديمي والكاتب السوري أحمد جاسم الحسين تقديم صورة إنسانية لعلماني تتحدث عن «طيبة قلبه» و»عفويته» و»إجادته الطبخ» و»كرمه» و»نزق الشاعر» و»الفلسطيني الحميمي المعتق» من دون أن ينكر مفاجأته الكبيرة بموقفه من «المستبد والديكتاتور» ثم ازدياد تطرفه واختلاقه معارك حيث «يزداد إلغاء الآخر كأنه متطرف عتيق وديكتاتور مبطن. كأن الطاقة السلبية لكل من قرأ له من طواغيت قد عششت في نفسه»، متسائلا في النهاية: «كيف تتكون النفس الإنسانية؟».
تفتح «ظاهرة» علماني، بشكل صارخ، امتحانات الأدب بالسياسة والأخلاق، فهي تظهر تباين الموازين بين هذه الأقانيم الثلاثة.
تقوم آليات رفع سويّة الشخصيّ والحميم، أو التركيز على الإنجاز الثقافي، أو إعلاء العامل الأخلاقيّ والبشريّ، على تقديم خطاب سياسي مضمر يظهر تصدّعا وتنافسا في سرديّات الضحايا ونظرتهم لآلامهم بارتباطها بآلام الآخرين، وفي حين ينجح البعض في لأم الجرح، يبقى الآخر مصرّا على فتحه، أما سؤال «كيف تتكون النفس الإنسانية» فيضع الأمر في لجّة أكبر، فتعقيد النفس الإنسانية وحده يمكن أن يشرح كيف حرّض علماني الناس على مناهضة الدكتاتور والقوة الغاشمة ثم حين فعلوا وقام الدكتاتور بالبطش بهم تحدث عن جيشه الأكثر رحمة في التاريخ!

المصدر: القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here