لخصت الكاتبة البريطانية إيما بيدينتون، في مقال نشرته صحيفة «الغارديان» تأثير جائحة كورونا في حياتها الخاصة بقولها، إن تجربة البقاء في المنزل جعلتها تكتشف «الكثير من التفاصيل التي لم تكن قد انتبهت إليها طوال حياتها الزوجية، التي بدأت قبل 26 عاما».
ينطبق هذا الوصف، بالتأكيد، على حيوات ملايين البشر.. أنا واحد منهم.
تعبيرا عن هذا التغيير، حفلت حقبة كورونا بسيل عارم من القصص والأخبار، وبطوفان من الشرائط المصورة الساخرة، ونظريات المؤامرة والتناقضات في وسائل التواصل، التي عبّرت عن حصول تغيّر هائل سببه التداعيات الهائلة للجائحة على السياسة والاجتماع والاقتصاد.. كما على الحياة الداخلية للبشر.
تركنا، في صحيفة «القدس العربي» مكاتب العمل قبل أكثر من سنتين، وكان ذلك التزاما بالتعليمات الحكومية أكثر، ربما، من الخوف من التقاط عدوى مرض لم ندرك خطره، أو التداعيات الجسيمة التي سيتركها على العالم! كانت البنية التحتية للعمل عن بعد متحققة فعلا في الصحيفة، وكل ما احتاجه الأمر هو أن يتدرب المحررون والمخرجون عليها، أما المراسلون فكانوا يتواصلون معنا دائما عن بعد. حصل ما يشبه ذلك في الشركة التي تعمل فيها زوجتي، وفي جامعة ابنتي، ومدرسة ابني. استخدمت عائلتي برامج تواصل عن بعد للشركات الشهيرة مثل سكايب ومايكروسوفت وغوغل وزوم، وبدأنا نمطا جديدا غريبا من مزج (وفصل) العمل عن الحياة الشخصية التي يمثلها المنزل. تزامن ذلك أيضا مع انتقالنا إلى بيت جديد، وانضمام قط صغير إلى سكان البيت، ومع سماح السلطات بالتجوّل خارج البيت عاينّا، لأول مرة منذ وقت طويل، بداهة السعادة البسيطة التي يمثلها الخروج إلى الهواء الطلق والمشي والتواصل معا، وتناول الطعام كأسرة، وكانت تلك كلها مكاسب اجتماعية كبيرة. لقد انغلقنا تجاه العالم لكننا انفتحنا على بعضنا كعائلة.
هشاشة الإنسان/ هشاشة الكوكب
لم ينفع الانغلاق الفيزيائي (لأن التواصل الرقمي ازداد بشدة) في حمايتنا من الوباء، فحين أصيبت ابنتي بعد أشهر أفلح متحوّر دلتا في اصطيادنا أنا وزوجتي، وخلال كتابة هذه المقالة كان ابني مصابا مرة أخرى بمتحوّر أوميكرون، ونتيجة ذلك، ورغم حصولنا على ثلاث جرعات من اللقاح، فإن الحشرجة في بلعومي التي بدأت مع (دلتا) ازدادت مع أوميكرون، أما زوجتي فلم تسترد قدرتها على الشم منذ أكثر من عام! أصابت الجائحة أصدقاء لنا في العمل أيضا فخسرنا، مع نهاية عام 2020، جمال أثناسيوس، أحد أكثر الزملاء طيبة ونقاء وطرافة فأحسسنا بوقع المصيبة علينا كفرد ضمن مجموعة مهنية صغيرة، وبهشاشة الحياة وعرضيتها، فساهم كل ذلك في التأثير في أجواء مجموعة شعرية نشرتها بالإنكليزية في نهاية ذلك العام، وجمعت بين تداعيات الحالة التراجيدية للمغتربين والمنفيين واللاجئين، ومفارقات عيشي في إنكلترا.
أصابتنا أيضا تداعيات الجائحة وآثارها على بلدان المشرق المنكوبة، واستخدمت سلطات كثيرة الوباء لتشديد القمع وإنهاء الحراكات الشعبية، ولم يمض وقت طويل، حتى تشارك مناخ القيامة الوبائي مع انقضاض العسكر والساسة الشعبويين على أحلام الشعوب العربية بنظم مدنية وديمقراطية.
تحسّن أداء العمل عن بعد تدريجيا، وصار وجودي في غرفة وحدي مع الكومبيوتر، وحولي لوحات لأبو صبحي التيناوي ونعمت بدوي وفاتح المدرس، وأصيصا نخلة ويوكاليبتوس، مجالا للتركيز على الكتابة وتحرير الصفحات دون أي عامل تشتيت (باستثناء مواء القط، زوربا، لتذكيري بإطعامه، أو تجهيز فنجان قهوة). كان هناك تناقض فادح بين الأمان الذي شعرنا به كعائلة، مع خط الخطر العالي الموصول بأزمات بلادنا، وبالزلازل التي ضربت العالم بسبب كورونا. ازدادت هذه المفارقة حدة مع ارتباطي الأسريّ، والمهني، بالمحن السياسية والاقتصادية الهائلة التي تطحن البلدان العربية، وزادت الأمور حدة مع نجاح دعاة فصل بريطانيا عن أوروبا، ومع حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التي هددت القيم الديمقراطية في العالم، وعززت تيارات اليمين المتطرّف في الهند والبرازيل وميانمار والصين وروسيا وإسرائيل، وبالتناظر مع اتجاه المناخ في العالم نحو التصحر والاحترار والكوارث الطبيعية، انتقل الإحساس من هشاشة الإنسان إلى هشاشة الكوكب بأكمله.
لقد دفع ملايين الفقراء واللاجئين والأقليات، أكلاف أحلاف الطغيان والعنصرية والوباء، وكنا، كعرب مقيمين في بلد أوروبي، نشعر بهذا التناقض الهائل، ونحاول جسره، وإن من مسافة أمان اللاجئ، في تجويد معارفنا، والعناية بأهلنا الباقين في البلاد، وأولادنا الذين ورثوا فعلا معاركنا في الثقافة والسياسة والاجتماع.
هل يجب أن نعود إلى «الحياة الريفية»؟
رغم الأجواء القيامية التي تحف بمصير العالم، مناخا وحكومات ومعيشا، يمكن إقرار حقيقة مهمة، وهي أن البشرية قد عبرت، بـ»فضل» الجائحة، ووصول تكنولوجيات التواصل ذروة كبرى، إلى مرحلة تاريخية جديدة، يعتبر العمل من المنزل (وكل ما يتمفصل حول هذا الأمر من ثقافة وقوانين واقتصاد واجتماع) أحد معالمها. كانت شركات التكنولوجيا الكبرى أول من استوعب أبعاد القضية، وفي حين قررت مايكروسوفت وتويتر إبقاء موظفيها بشكل دائم في المنزل، حاولت غوغل إقناعهم بالعودة للمكاتب، وهو ما قوبل برفض من كثيرين. عادت زوجتي بشكل شبه كامل إلى مكتبها، لأن عملها يقتضي التواصل المباشر مع الزبائن، وعاد ابني وابنتي جزئيا، وطُرح موضوع عودتنا في آذار/ نيسان إلى المكاتب لتبادل الآراء حوله، وهو أمر محيّر، فمن الناحية العملية البحتة، فإن مستوى جودة العمل قد زادت بالتأكيد، أما ضعف التواصل الاجتماعي بين العاملين فترك آثارا تجمع بين السلبيّ والإيجابي، والمؤكد أن أغلبنا يتمنى الحصول على فوائد الجديد، الذي يفرض نفسه، والقديم الذي لا نريد الإقرار بضرورة التخلي عنه.
لقد كتب كثيرون (كان في طليعتهم ألفن توفلر، صاحب «صدمة المستقبل» و»الموجة الثالثة») عن الآثار الاجتماعية لخروجنا من الحضارتين الزراعية والصناعية، وعن مظاهر التغيّرات الكبيرة التي ستطرأ (طرأت) علينا مع تعزز الثورة الرقمية، ولعلّ هذه الانتقالة الهائلة للعمل من المنزل، هي واحدة من مظاهر كثيرة للتغيّر الاجتماعي.
انعكس التغير الرقمي على السياسة بشكل خطير، فزاد منسوب الشعبوية والعنصرية، كما صارت الإنترنت أداة الشعوب المقهورة لإيصال صوتها، وصار وقف الإنترنت نظيرا لسيطرة الانقلابات العسكرية على الإذاعة والتلفزيون. غدت تصريحات الزعماء ترد على تويتر قبل وسائل الإعلام، وطوّرت الدول عمليات المراقبة الهائلة، وجمع البيانات والتجسس واستخدام وسائل التواصل للتأثير في الجموع والانتخابات. انعكس ذلك أيضا على الاقتصاد القديم الذي احتلّ الاقتصاد الرقمي أركانا أساسية فيه، وهو يقوم حاليا بتغييره جذريا.
واضح أن هذا التحوّل الهائل يحصل في الحيوات الداخلية للبشر، لقد أصبحنا أسرى طوعيين لشركات الاتصال الكبرى، وصارت مستودع أسرارنا وأفكارنا وأحلامنا ومخاوفنا. صرنا المنتج الأساسي الذي تخزنه وتستثمر فيه، وصار الكبير والصغير، العنصري والديمقراطي، السلفيّ والملحد، الملياردير والمعوز، مستهلكين ومنتجين وسلعا لهذا العالم الرقمي.
العمل جار على اكتشاف آلة ذكاء اصطناعي تتجاوز العقل البشري بحيث يمكن، للمرة الأولى في التاريخ، الانتقال من تغيير منتجات الدماغ: الحضارة والثقافات والأديان واللغات، إلى تغيير الدماغ نفسه. العمل جار على اكتشاف الخوارزمية الكبرى التي تحرك الحياة البشرية. العمل جار على تهجين البشر بالروبوتات (سايبورغ) للوصول إلى كائن خارق. العمل جار على تطوير الواقع الافتراضي إلى واقع معزز نستطيع عبره، التواصل الفيزيائي مع آخرين بعيدين. نحن، ببساطة، نتحوّل، ببطء، وبسرعة أحيانا، إلى كائنات افتراضية، كما أن العالم الافتراضي يتحوّل إلى واقع فعليّ!
جوبهت التحوّلات الكبرى في التاريخ بمقاومة هائلة، فحاول كثيرون، في العصر الصناعي، العودة بالواقع أو بالأدب، إلى الريف، وقام الناس بحرق المصانع، وواجهت الأفكار الحديثة والاختراعات والعلوم الرفض العنيف والسخرية. ليست كل الأفكار الجديدة صحيحة، وكثير منها مؤذ، لكنّ المقاومة السلبية للثورات الإنسانية الكبرى (ونحن نعيش في خضم إحداها) تؤدي عادة إلى معاناة هائلة للأفراد والشعوب، وفي المقابل، فإن فهمها ونقدها والمساهمة فيها، يمكن أن يؤمن فوائد كبرى، ويجنّب كوارث أكبر.
*القدس العربي