حسام الدين محمد: «كعب آخيل»: إطلالة المثقف على تخوم المعرفة والحيرة!

0

في كتابه الصادر مؤخرا «كعب آخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي» يدفع خلدون الشمعة الناقد السوري المقيم في بريطانيا، قوس رحلته المعرفية الطويلة في أفق النقد الأدبي إلى مناطق جديدة. ينحت الشمعة في صخر المعرفة والتاريخ الإنسانيين باقتصاد قاس، يناهض فيه سياق تراث قارّ يحوّل النقد إلى كلامولوجيا فائضة، تحف بها الانطباعات الحدثية الوامضة مثل «الأخبار العاجلة».
لا يضار، على أي حال، نقد الشمعة، بنقد «الانطباعات» وقد لا تكون هناك مشكلة في الحاجة إلى قراءات «عاجلة» تنافس سرعة الحياة، ولعلّ في الحاجة للقراءات الموازية لسرعة النشر توكيدا على الحاجة إلى شغل النقاد القلائل، مثل الشمعة ونظرائه، المشغولين بموازنة الاستبداد الثقيل في ثقافة السماء الأولى (على حد تعبير سعدي يوسف) بالعنصرية والاستشراق في ثقافات السماوات الأخرى؛ كما بتقصي أثر الفراشة في قضايا تفصيلية (بمحمول ثقيل) من «الفلسفة الإسلامية» و»الأدب الإسلامي» و»الترجمة الداروينية» إلى المحو والتطريس والمونولوغ الدرامي والقناع والخطاب، ما يضيف إسهامات تأسيسية، لمدونة النقد الذي يهتدي الشمعة بهديه ويشارك في وضع ركيزته.
يستخدم الشمعة مفهوم «كعب آخيل» المستوحى من ملحمة الإلياذة اليونانية، الذي يعني، ضمن سياق الاصطلاحات الغربية، «نقطة الضعف» التي يؤتى منها مكمن شخص، أو ثقافة، أو حضارة، ليستنهض فكرة تحوّل النقد الثقافي إلى نقض معرفي، التي يضع أمثلة عليها ما فعله إدوارد سعيد ضمن السياق المعرفي الغربي، والعالمي، في إطار الرؤية إلى «الاستشراق» أو ما فعله كارل بوبر في كشف أوهام النظرة العلمية الغربية إلى العالم، وما فعله ريتشارد وبستر في نقض علميّة أعمال فرويد، والأعمال النقدية الكبيرة التي حاولت تفنيد الماركسية وتطبيقاتها الشيوعية.
يتقدم الشمعة خطوة على كثير من النقاد برحلته العميقة الناقدة لديناميات الثقافة الغربية، حيث لا يكتفي بدور المترجم والناقل والوسيط والمعرّف، وهو أمر كان مائزا في أعمال كثيرين من النقاد، الذين وقعوا تحت سلطة الثقافة الغربية، بمدارسها المختلفة، خصوصا الماركسية، مع تنويعات فرويدية وبنيوية إلخ.
في رحلته اللائبة بين الثقافتين العربية والغربية، يتبدى خلدون الشمعة، لي، مثل رحالة يطل دائما على تخوم تناقضات تلك الثقافات والحضارات والمواقع وصراعاتها الحقيقية والزائفة، فتثقله أحيانا الحيرة، أو تبهره إضاءة الكشف الجليل، أحيانا أخرى. على تخوم العالمين (أو العوالم بالأحرى) يقدم الشمعة مقارنات تاريخية كاشفة، كما فعل بمقارنة البابا سيلفستر الثاني، الذي توفي عام 1003، وابن سينا الذي عاش في الحقبة نفسها، فقد امتلك الاثنان فضولا علميا ورغبة دؤوبة في البحث وموهبة بارزة، غير أن القصور التي عرفها البابا كانت متواضعة، والمدارس التي ذهب إليها كانت مدارس الرهبانيات بمصادرها المحدودة، والكتب التي درس عليها كانت تلك التي شكلت بقايا العلم اليوناني، ولو أنه ولد في بخارى وتعلم في بغداد أو أصفهان «فإنه كان سيجد نفسه في مجتمع أشد ملاءمة لمزاجه وقدراته من المجتمع الغربي. كما كان في وسعه أن يمتلك جميع الكتب التي يرغب فيها» كما يقول الشمعة (نقلا عن الباحث الغربي ر. و. سذرن) أما ابن سينا فـ»كانت لديه ثروة من المعرفة التي لا يمكن أن يحلم بها المرء في أوروبا الغربية، وعندما أصبح شابا كان قد هضم المنطق والعلوم الطبيعية والرياضيات وميتافيزياء اليونان، ليصل إلى كتاب ما وراء الطبيعة لأرسطو». ومن ذلك ما يفعله في مقاربته بين العولمة الحديثة، و»طريق الحرير» الذي فتحه العرب الذين وصلوا جغرافية شملت دولا ومجتمعات وأقواما متداخلة، لا تشير إلى حدود مرسومة وثابتة، وقد بدا لي مفيدا، في تقرير الشمعة هذا، مقارنة ممانعات الجغرافيا السياسية لطريق الحرير الحالي، الذي يتعهده نفوذ وسطوة الصين الحالية، وكذلك تعذر بعض مقارباتها للعولمة الافتراضية، كحال شركة هواوي وتطبيق تيك توك.
إحدى المقاربات الممتعة، وغير المتوقعة، لهذه التخوم، ما يشير إليه الشمعة في نصه عن «العنترية» بإيراده فكرة انتقال قصص الخيال الشعبي، كقصة عنترة وعبلة، وكيف انتقلت وأثرت في الأدب الأوروبي، وهو ما فعله الباحث البريطاني رانيلا في كتابه «الماضي المشترك: أبوة الشرق الأدنى للأدب الشعبي الغربي» ويوثق الشمعة أن دراسات نشرت على مدى عشرات السنوات، كشفت «بجلاء عن أن الأدب في أوروبا قد تأثر بالأدب الشعبي العربي، بقدر ما تأثر بالأدبين اليوناني والروماني، ولنزع الطابع «القوموي» للمسألة، يذكر الشمعة أيضا كتاب إحسان عباس عن المؤثرات اليونانية في الأدب العربي ليؤكد أن تبادل التأثر والتأثير هو قانون لا يقتصر على فترة من الفترات، وأن المثاقفة هي التعبير الأمثل عن العلاقة الحضارية بين الشعوب.
إلى فوائد تبحّره الجليل في استكشاف أساطير الحضارة الغربية عن نفسها وعن الآخرين، وخصوصا العرب والمسلمين، فإن لكتاب الشمعة متعاً شتى للقارئ، وهذا أمر لا يقل أهمية (وفائدة). في بحثه المعنون «المحو والتطريس» على سبيل المثال، يدخلنا الشمعة في ما يشبه «ألف ليلة وليلة» نقدية، حيث نجد مقدمة معرفية ثرة يدخل فيها شرح الشمعة للتطريس، وسرده لقصة من بورخيس عن ابن رشد لشرحه، وتعليق مأخوذ من أمبرتو إيكو على ابن رشد أيضا، وتوظيف لمفهوم «المعادل الموضوعي» لدى إليوت، مرورا بصعود تقنية القناع والمونولوغ الدرامي في الشعر الحديث، وصولا إلى دراسة تلك الظاهرة عبر ما قام به ثلاثة شعراء عرب، هم عمر أبو ريشة، وعبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، لنص/أسطورة الشاعر ديك الجن الحمصي!
يستعيد الشمعة النص القصير العجيب لديك الجن الذي يختتم بقوله: ما كان قتليها لأني لم أكن أبكي إذا سقط الغبار عليها لكن ضننت على العيون بحسنها وأنفت من نظر الحسود إليها» مستعيدا قصته الأسطورية عن قتله حبيبته ورد ثم صنعه كأسا من غبار جثمانها يشرب فيه ويبكي موتها، ثم يورد قصيدة أبو ريشة الطويلة «كأس» التي تنتهي بقوله: فحملت شلو ضحيتي والنار حمراء الأديم/وجبلت من تلك الجذى كأسي ومن تلك الكلوم/ وغدا أحطمها أمام الله في ظل الجحيم/فأشرب ودعها فهي ما مرت على شفتي نديم» ثم يهبط بنا إلى قصيدة قباني المعنونة «ديك الجنّ الدمشقي» التي تنتهي بقوله: «أنت القتيلة أم أنا؟ حتى بموتك ما استرحت/ حسناء لم أقتلك أنت وإنما نفسي قتلت» فقصيدة «ديك الجن» للبياتي، التي هي، في الحقيقة، معارضة نصية، وتمثلا لشخصية أبو ريشة (في تمثله لشخصية ديك الجن) حين يقول: «غدا أمام الله في الجحيم/أحطم الدمية والقدح» وتنتهي بقوله: «أنا أمير حلب اليتيم/ مهاجر في داخل المدينة/ من شارع لبيت/ على جواد الموت».
لا يمكن تلخيص كتاب الشمعة بثرائه المعرفي، ومجابهته لأوهام وخيالات وهذيانات الثقافات والحضارات عن نفسها والآخرين، ولا بمتعته المعرفية والنقدية والأدبية، فمع اتساع المعرفة تحضر الحيرة الضرورية للمفكر والكاتب، وهو ما نراه، على سبيل المثال، في انطباعاته التي حصلت عند قراءته «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي، فيقول في نصه «الاستبداد الشرقي»: «أعترف بأنني كنت أسيرا لمشكلة خطيرة، أن أكون نقديا مع الذات، وأن أكون خلافا لذلك، اعتذاريا في مواجهة الآخر».
وبذلك نضيف إلى معجم تقريظ خلدون الشمعة أن الصدقيّة هي من مراتب المفكر الكبير.